حدثنا الدكتور عزيز صدقي أن الرئيس جمال عبد الناصر بعدما قرأ أطروحته للدكتوراه التي أعدها بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة عام 1950 والتي كان عنوانها “حتمية التصنيع في مصر”. استدعاه لتولي الوزارة وقال له بالنص: “عاوزك تمسك التصنيع يا عزيز”. وقد عَلَق الدكتور عزيز صدقي على تلك العبارة بقوله: “ما قالش الصناعة لكنه قال التصنيع“.
وأظن تأكيدًا لحديث الرجل أن اللغة العربية بقدر ثرائها إلا أن التباسًا ربما يحيط بصياغة بعض ألفاظها يُضيق الفارق في مدلولات تلك الألفاظ لدرجة تتماهى فيها المعاني فتختلط الأهداف ومن ثَم تضطرب قياسات أثرها لينتهي الأمر بنتائج لا علاقة لها بالمقاصد الأصلية.
وكما أدى ذلك لالتباس في الفهم ومن ثَم التعاطي مع مدلولَي “النمو”/”التنمية” في العربية الفصحى رغم وضوحهما في الإنجليزية “Growth”/”Development” بسبب تكوينهما الحَرْفِي غير المتشابه. فقد سرى الأمر نفسه على لفظي “الصناعة”/”التصنيع” واللذين يعنيان بالإنجليزية “Industry”/”Manufacturing”. وفقًا لتعريف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فإن التصنيع هو “العملية المادية أو الكيميائية التي تجري على مواد ما لأجل تحويلها إلى منتجات جديدة. سواء تم ذلك بواسطة آلات تعمل بالطاقة أو يدويًا. وسواء تم ذلك في مصنع أو في منزل العامل. وبغض النظر عما إذا كانت تلك المنتجات تباع بالجملة أم بالتجزئة”.
بينما الصناعة هي “كل ما يسهم في تحويل المواد الخام إلى مُنتجات”.
إذا فالتصنيع يضم فقط أنشطة “تحويلية” يتم بمقتضاها تغيير حالة المادة الخام إلى مُنتَجٍ ما سواء كان هذا المُنتَج وسيلة من وسائل الإنتاج أو كان للاستهلاك. بينما الصناعة -وهي أشمل وأعَم- تضم التصنيع كنشاط “تحويلي” إلى جانب الأنشطة “الاستخراجية” للمواد الخام.
والتصنيع الإنتاجي كما كان يقول كبيرنُا الذي علمنا الدكتور سمير أمين -عليه رحمة الله- هو منظومة متكاملة يتم بمقتضاها أن يُنتج مصنع ما مُخرجاتٍ ما تصلح لأن تكون مُدخَلاتٍ لمصنع آخر كنوع من سلاسل النشاط وهكذا دواليك حتى تكتمل عناصر المنظومة.
وعلى هذا الأساس فإن التصنيع كنشاط “تحويلي” يقتضي توافر أيد عاملة دائمة ومُدَرّبة. أي أنه يتيح استدامة فرص العمل ويخفض من معدلات البطالة. كما أنه يقتضي أيضًا درجة عالية من التكنولوجيا لضمان استمرار توافر المنتجات بِقَدرٍ مرتفع من الجودة بما يرفع الطلب على تلك المنتجات ويدعم قدرتها التنافسية داخليًا وخارجيًا ويحفز التصدير بما يُدِر عملات أجنبية تضاف إلى رصيد الاحتياطي النقدي. وكلها عناصر تزيد من متانة اقتصادات المجتمعات بما يعود في نهاية الأمر بفوائض تكفل إنفاقًا مقبولًا ومُنظَمًا يرفع من مستوى الخدمات الاجتماعية في مجالات الصحة والتعليم.
وبالرجوع إلى مقالي السابق بشأن التنمية وأنماط الإنتاج فإن أعمال التصنيع يجب أن تأتي في المرتبة الأولى لإنجاز “تنمية” حقيقية تضمن تطورًا جادًا ينتقل باقتصادات مجتمعات الدول الفقيرة من كونها اقتصادات ناشئة لتصير اقتصادات مُتَقَدمة خلال مدى زمني محدد يتم التخطيط له من خلال حشد كل إمكانات المجتمع صوب حالة تتجاوز مفهوم “النمو” الذي يتم قياسه باحتساب الفارق بين الناتج المحلي في سنةٍ ما مقارنًا بالسنة السابقة لها.
وذلك لأن الناتج المحلي يشمل كل ما ينتجه هذا المجتمع سواء من الأنشطة التحويلية أو من الأنشطة الاستخراجية لمواد أولية ربما تكون قابلة للنضوب كالنفط مثلًا. وكذا الأنشطة الخدمية التي عادة ما تكون حساسة لتغيرات ناتجة عن أسباب قد تكون خارج السيطرة كالسياحة وما يرتبط بها من صناعات.
لذا فنمط الإنتاج هنا هو الحاكم في تحديد مسار التنمية والذي إن كان نمطًا إنتاجيًا “مُرَكَبًا” يولي التصنيع -كنشاط تحويلي- أولوية على أنشطة استخراج المواد الأولية وتدوير المال. فالمجتمع إذا على طريق التنمية يسير حيث يحقق التصنيع استدامة فرص العمل. ويحفز الطلب المحلي ويسهم في دعم مركز الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية. سواء من خلال ما يُدِره التصدير منها و/أو ما يتم توفيره من خلال الاكتفاء الذاتي والاستغناء الكلي أو الجزئي عن الاستيراد.
يأخذنا هذا الأمر إلى ضرورة تحديد دور الدول التي تبحث لمجتمعاتها عن مكان تحت شمس المستقبل كدولٍ تنموية حديثة في عالم تتبدل ملامحه بسرعة شديدة وسط تناقضاتٍ حادةٍ وغموضٍ فرضته أزمتي كورونا وأوكرانيا.
في الأدبيات الاقتصادية، هناك ثلاثة نماذج لدور الدولة. نموذجان منها أثبتت وقائع التاريخ فشلهما في تحقيق رفاه المجتمعات. النموذج الاشتراكي التقليدي القائم على تدخل الدولة الكامل في العملية الاقتصادية دون أي فرصة لرأس المال الخاص. وقد سقط هذا النموذج بانهيار جدار برلين في 1989. والنموذج الرأسمالي الكلاسيكي الذي لا يقبل تدخل الدولة نهائيًا مُكتفيًا بتنظيم الدولة للمنافسة باعتبار أن “يد آدم سميث الخفية” هي التي تصنع عملية التوازن بين العرض والطلب. وقد تهاوى هذا النموذج على وقع الأزمة المالية في 2008 لكنه ما زال يقاوم في يأس.
أما النموذج الثالث فهو مبني على قيام الدولة برسم رؤية استراتيجية للتنمية بجناحيها التصنيعي والزراعي وتحديد استراتيجيات بأوزان دقيقة لتوزيع الأدوار في أعمال التنمية بينها وبين القطاع الخاص والقطاع التعاوني.
ولدينا في مُحيط هذا النموذج تجربتان. وهما التجربة الصينية القائمة على ما أطلقوا عليه “اشتراكية السوق” التي شهدت تقلباتٍ حادة إلى أن استقرت بقدرٍ ملموس. والتجربة الاسكندينافية القائمة على “الديمقراطية الاجتماعية” وهي مستقرة في حدود المتوافر والمتناسق من موارد طبيعية وبشرية.
وظني أن دول المجتمعات الفقيرة عليها أن تبدأ فورًا بدراسة هاتين التجربتين بأعلى قدرٍ من جدية البحث والتمحيص للخروج بتصورٍ لتخطيط وتنفيذ رؤية واضحة وشفافة عن رؤيتها لعملية التنمية الشاملة Comprehensive Development بكافة جوانبها التي تتناول دور دول تلك المجتمعات في الاضطلاع بالأنشطة التي تكفل التوازن المجتمعي وتضمن حماية البيئة وتنقية المناخ. سواء من خلال تشريعات مُنَظِمة أم من خلال إسهامات استثمارية مباشرة. مع منح القطاع الخاص حرية العمل بما لا يكبله بأعباء ربما تؤدي لعرقلة أهداف التنمية. وكذا تمكين القطاع التعاوني من الإسهَام في التنمية من خلال تطبيقاتٍ خاصةٍ ذات صلة بتوطين الصناعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر في المناطق البعيدة جغرافيًا عن عواصم دول تلك المجتمعات بما يضمن التكامل فيما بينها ويؤَمِن خفضًا مدروسًا لمعدلات الفقر وبالذات فيما يتعلق بتنظيم عمل النساء الفقيرات من خلال توفير تمويل “غير تقليدي” يكون مبنيًا على المشاركة برأس المال عن طريق مساهمة مؤسسات الأعمال -وفقًا لمفهوم المسئولية الاجتماعية للشركات- ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات التمويل الدولية والمحلية حتى لا يقتصر الأمر على مجرد إقراض مصرفي قد تكتنف متابعته كثير من الصعوبات حسبما أثبتت تجارب بعض المجتمعات في ضوء دراسات البنك الدولي عن الفقر وعلاقته بالنوع الاجتماعي.