بسبب الانشغال بالأعياد الدينية في الأسبوعين الماضيين لم ينتبه كثيرون إلى المبادرة بالغة الأهمية التي طرحتها الدكتورة نادية هنري عضو مجلس النواب سابقا، ورئيسة مؤسسة جسور عبر الحدود، والتي تدعو فيها المصريين في الخارج من ذوي الخبرة والقدرة إلى تأسيس كيانات اقتصادية مسجلة في بلدان مهجرهم، وذلك بغرض محدد هو شراء ما سيطرح من أسهم الشركات والأصول المصرية في البورصة، وفقا لما تنتويه الحكومة.

كما نعلم، فإن الدولة المصرية تواجه أزمة اقتصادية مركبة، وفجوة تمويل واسعة، وذلك بسبب الحاجة الملحة لسداد أقساط وخدمة الديون الخارجية، في مواعيدها تجنبا لمخاطر أوضح من أن تحتاج إلى تفصيل، وهي أعباء تتزايد بسبب التأثيرات المضاعفة في مصر للحرب الروسية الأوكرانية، وبسبب الرفع المتوالي لأسعار الفائدة في السوق الأمريكية، فضلا عن فاتورة الاستيراد الباهظة للمواد الغذائية ومستلزمات التصنيع والتشغيل.

ما تحتاجه هذه المبادرة منا، ومن غيرنا ليس هو الثناء والإشادة، مع أنها تستحق ذلك، وليس تبيان مزاياها الاقتصادية والسياسية من حيث حماية الأصول المهمة الجاهزة في الاقتصاد المصري من التبعية غير مأمونة العواقب لجهات أجنبية، (مع الترحيب طبعا بأية استثمارات أجنبية مباشرة جديدة)، ومن حيث حماية الاستقلال السياسي، وضمان الأولوية للخبرات والأيدي العاملة المحلية في الإدارة والتشغيل وعموم السياسات الإنتاجية للمؤسسات المعنية، فكل ذلك من البديهيات، ولكن ما تحتاجه تلك المبادرة هو تبنيها، والترويج لها من جانب الحكومة والنواب والأحزاب، ومراكز البحث والتفكير، واتحاد الصناعات واتحادات البنوك والغرف التجارية وجمعيات رجال الأعمال، والنقابات المهنية وسائر منظمات المجتمع المدني المعنية، مثل الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع، وجماعة الإدارة العليا إلخ.. وبالطبع من جانب الصحافة والإعلام.

ومن المهم أن لا يفهم التبني والترويج هنا بالطريقة المعتادة، أي بالاعتماد على العاطفة الوطنية والشعارات الحماسية فقط لا غير، ولكن المطلوب هو بحث وتذليل ما قد يعترض نجاح الدعوة من عقبات ومحاذير، وتوفير الضمانات -غير القابلة للتلاعب- لحقوق وأموال المصريين المقيمين في الخارج، الذين سينشئون تلك الكيانات المقترحة، والذين سينضمون إليها.

ليس أهم هذه المحاذير -وإن كان أكثرها مباشرة- السمعة غير الحسنة للبورصة عندنا في الداخل وفي الخارج على السواء، منذ إحيائها، في إطار التوجه نحو السوق الرأسمالي، وفي سياق عمليات خصخصة الشركات العامة في العقدين الأخيرين من حكم حسني مبارك، بل إن عملية الخصخصة نفسها تلك اتسمت بقدر كبير من الفساد السياسي والإداري، مما هو معروف للجميع، قبل وبعد ثورة يناير.

ورغم خطورة الفساد على أية دولة وكل مجتمع، فربما كان في تراثنا المصري، وخبراتنا القريبة محاذير تفوق الفساد المباشر في تأثيرها الضار على ثقة المصريين في الخارج (وفي الداخل أيضا) في ضمانات الاستثمار في السوق المحلية، فمثلا يسود الاعتقاد بأن حكوماتنا قديما وحديثا تتحسب عادة من النيل من حقوق الأجانب، فيما لا تتردد في النيل من حقوق المصريين، حتى لو كانوا مقيمين في الخارج، إما ابتزازا باسم الوطنية، (كما حدث علي سبيل المثال في محاولة شهيرة لاستغلال اسم وصورة نجم كرة القدم المصري محمد صلاح، بالمخالفة لكل القوانين، وبما يضر مركزه القانوني ومصالحه مع الجهات الخارجية، بل ويعرضه للمساءلة والخسارة بدعوي أنه (ابننا ومن حقنا نستفيد منه)!!! ثم ما تعرض له من حملات تشويه، إثر احتجاجه على ذلك الابتزاز… وإما بالاستقواء السلطوي الذي يقلق حتى المصري المقيم في الخارج على ذويه ومصالحه في الداخل، خاصة إذا ظهرت من البعض آراء سياسية غير مرضي عنها.

لهذا السبب، وتلافيا لدواعي قلق مصريي المهجر من الاستثمار في البورصة المصرية، وفي السوق المصرية عموما يأتي تشديد مبادرة الدكتورة نادية هنري على أن يتم الاستثمار من خلال كيانات قانونية مؤسسة ومسجلة في الخارج، طبقا لقوانين كل دولة تنشأ فيها الكيانات المقترحة، والتي يجب بنص المبادرة أن تضم محاسبين وإداريين ومصرفيين وخبراء في أسواق المال ومحامين، جنبا إلى جنب مع المستثمرين، وبشرط أن يكون الجميع من أصل مصري.

للمفارقة المدهشة فإن النظام السياسي المصري توارث بدوره أسبابا خاصة به للقلق والتوجس من توسع دور المصريين في الخارج داخل البلاد، وذلك منذ مؤتمرات المبعوثين الشهيرة في عهد جمال عبد الناصر، فقد كان اهتمام النظام منصبا على تجنيد ولائهم بلا قيد ولا شرط لدرء احتمالات التآمر، في ظل حالة الهوس الناصرية بالأمن، فيما كان المبعوثون يطالبون بالانفتاح السياسي والحد من ذلك الهوس الأمني، ومن جهته، اهتم السادات فقط بمشاهير المصريين في العالم الخارجي، استهدافا لتأييد أو إعجاب الرأي العام العالمي، وأما حسني مبارك فقد ركز اهتمامه في البداية على رجال الأعمال المصريين في البلاد الأجنبية، واستحدث مؤتمرا سنويا لهم برعايته، وبمشاركة وزرائه المعنيين، كاستراتيجية لجذبهم للعمل والاستثمار في الداخل، بل إنه استحدث وزارة للهجرة وشؤون المصريين في الخارج، ولكن انعقاد المؤتمر توقف بعد عدة دورات تعد على أصابع اليد الواحدة، بعد أن تكرر الحديث في دورتيه الأخيرتين عن الحاجة لإصلاحات سياسية ديمقراطية، وأكثر من ذلك توقف مبارك أيضا عن عقد لقائه الدوي بالمصريين في الولايات المتحدة، كفقرة ثابتة في برنامج زيارته السنوية للعاصمة الأمريكية للسبب نفسه، وكان يكتفي بلقاء عدد محدود منهم في اجتماع مشترك مع زعماء اليهود الأمريكيين، بحيث يتركز السؤال والجواب على القضية الفلسطينية والعلاقات المصرية الإسرائيلية، والأوضاع الإقليمية والدولية عموما، دون تطرق من قريب أو بعيد للشأن المصري الداخلي.

دون أية أوهام، فالآن حصحص الحق، إذ إن الأزمة ضاغطة، وليس في الأفق حرب خليج ثانية نشارك فيها فتسقط الديون كلها أو بعضها، كما أن ثمن السلام مع إسرائيل والاعتراف بها دفع من قبل، وفقا للمنطق الأمريكي، وكذلك فليست كل ديوننا من دول أو بضمانات حكومية، وبالطبع فإن دول الخليج تعتقد أن معوناتها أدت غرضها في تثبيت النظام، والقضاء على مضاعفات الربيع العربي، وعلى خطر جماعات الإسلام السياسي، ومن ثم فهي تطلب شراء أصول مصرية مقابل أي تمويل جديد، وعليه فيجب أن يكون الحل كله أو معظمه مصري من الداخل ومن الخارج، وهو ما يحتم مراجعة كل الأطراف لهواجسها أو حساباتها القديمة، من أجل علاقة صحية وبناءة مع المصريين في الخارج، طبقا لمبادرة الدكتورة نادية هنري ومؤسسة جسور عبر الحدود.