في العام الجاري 2022 تكون قد مرت مئتا عام على اكتمال صدور الطبعة الأولى من الموسوعة الاستعمارية الفرنسية “وصف مصر”، صدر المجلد الأول منها 1809 بأمر صاحب الجلالة الإمبراطور نابليون الأكبر.

الكتاب -الموسوعة- هو في جوهره خطاب إدانة، يمارسه من يظن أنه الأقوى وهو هنا الغرب، ضد من يظن أنه الأضعف وهو هنا كل من تعرض لتجربة الاستعمار الغربي، إدانة تمنح الأقوى المبرر الأخلاقي لغزو بلاد وشعوب وحربها وقتالها ونهبها وسلبها، لا لشيء، إلا لأن هذه البلاد والشعوب وضعتها الجغرافيا في طريق أوروبا الجائعة إلى الموارد والأسواق .

يتكرر بين مجلدات الكتاب الإشادة بحضارة مصر القديمة، كمدخل لإضفاء النزاهة والحياد والموضوعية والشرف على ما في الكتاب من تأسيس لمنبع الأكاذيب في تاريخنا الحديث، أصول هذه الأكاذيب تعود إلى ما بثه ومازال يبثه الكتاب من القول بأن مصر عند خاتمة القرن الثامن عشر كانت همجيةً أو نصف بربرية على نحو ما تترادف أوصافها بين أبحاث الكتاب .

هذا التصوير الكاذب، في هذا الكتاب، وفي غير هذا الكتاب، سواء صدر عن فرنسا، أو صدر عن غيرها من قوى الاستعمار الأوروبي، وسواء كان عن مصر أو الهند أو الصين أو أفريقيا أو استراليا، أو حيث ظهرت -في أي مكان من الأرض-  موارد يحتاج الأوروبيون نهبها أو أسواق يريدون غزوها، هذا التصوير الكاذب في حق الشعوب، لتبرير الغزو ثم النهب، هو في الحقيقة يستخدم عن قصد لإزاحة تهمة الهمجية عن الهمجيين الحقيقيين وهم الغزاة الأوروبيون ثم إلصاقها بضحاياهم الأبرياء من شعوب الشرق والغرب .

هذه الأكاذيب الاستعمارية -الفرنسية الأوروبية- تتكئ على المؤقت لتجعل منه قدرا مزمنا ودائما، تنطلق من لحظة الضعف العثماني مع لحظة الفساد المملوكي، ثم تلجأ لتعميم هذا المؤقت حتى ينطبق على كل أزمنتنا، سواء منها ما انقضى، أو ما هو قادم من ضمير الغيب، هذه النظرة الاستعمارية كانت ومازالت تحرك العقل الغربي -بوعي أو بغير وعي- في نظرته لكل من هم ليسوا غربيين، وبالتحديد ليسوا في نطاق غرب أوروبا وامتدادها الأمريكي على الجانب الآخر من الأطلنطي .

هذه الأكاذيب تصور مصر من الغزو الفارسي 525 قبل الميلاد حتى الغزو الفرنسي 1798 مجرد مستعمرة ميتة غائبة عن الوعي وفاقدة للإرادة حتى جاءها نابليون بونابرت يوقظها من نومها ويلفت انتباهها إلى عظمتها القديمة ويحررها من المماليك الظلمة ويضعها على طريق التمدن والحضارة .

صحيح مصر توقفت عن أن تكون إمبراطورية لكنها لم تتوقف عن أن تستمر رافدا من روافد الاستنارة والحضارة رغم ما تعاقب عليها من إمبراطوريات الشرق والغرب، مصر فقدت إمبراطوريتها لكنها لم تفقد دورها الحضاري على مدى الألفيتين ونصف فيما بين الغزوين الفارسي والفرنسي .

**************

عند غزو بونابرت لمصر 1798، لم تكن مصر همجية ولا نصف بربرية، كانت أمة متحضرة منفتحة على العالم، تعاني انقساما في طبقة الحكام من المماليك كنتيجة طبيعية لضعف وترهل السلطة المركزية في إسطنبول، ولم يكن المستوى الحضاري عند ذاك واسعا بين مصر وفرنسا، إلا من حيث أن الدولة المركزية في فرنسا بسطت سلطة القانون الواحد على كل ترابها وعلى كل مواطنيها وهذا جهد استغرق من الفرنسيين قرابة القرنين من الزمن، من مطلع القرن السابع عشر حتى اندلاع الثورة العظمى عند الربع الأخير من القرن الثامن عشر .

حتى مطلع القرن السابع عشر كانت السلطة المركزية في باريس لا تتجاوز العاصمة باريس، وفرنسا التي نعرفها الآن على خريطة أوروبا مدينة في وجودها للقرن السابع عشر، وبالتحديد لكل من الملك لويس الثالث عشر وقد حكم بين 1610- 1643، وكان يلقب بالملك العادل، ثم ابنه لويس الرابع عشر وقد حكم بين 1643 – 1715م، وكان يلقب الملك الشمس، وكلاهما من رموز الديكتاتورية المثمرة والعظيمة في تاريخ أوروبا، وكلاهما كان يؤمن بالحق الإلهي للملوك، وكلاهما خاض حروبا شرسة داخل وخارج فرنسا، لبسط السيادة على عموم البلاد، ثم لبسط النفوذ في عموم أوروبا، وهي السياسة التي عبر عنها الوزير الأعظم الكاردينال ريشيليو رئيس الوزراء مع لويس الثالث عشر من 1622- 1642 عام وفاته، هذه السياسة كان يتم تلخيصها على لسانه في كلمتين: أن يكون الملك سيد فرنسا، ثم تكون فرنسا سيدة أوروبا.

فغير مسموح لأي سلطة داخلية من نبلاء أو غير نبلاء تنازع سلطة الملك، وغير مسموح بتفوق قوة أوروبية على فرنسا، لهذا كان العنصر المستمر في سياسة فرنسا الخارجية سواء ملكية أو جمهورية هو تفتيت ألمانيا من الداخل وحصار بريطانيا من الخارج، وعندما قال لويس الرابع عشر -الذي حكم 72 عاما- كلمته المشهورة “أنا الدولة” إنما كان يعني فرنسا موحدة تحت سلطة مركزية غير منقسمة ولا متنازعة.

محمد علي
محمد علي

عندما جاء بونابرت غازيا، كانت هذه هي مشكلة مصر، الانقسام بين المتصارعين من طبقة الحكم المملوكية مع ضعف المركز العثماني واضمحلاله التدريجي، لكن مصر لم تكن همجية كما يزعم كتاب “وصف مصر” ولم تكن “نصف بربرية” كما يتكرر الاتهام الكاذب في الكثير من مجلدات الكتاب .

مصر -المتهمة كذبا- بالهمجية صدت لويس التاسع وهزمته وأسرته في المنصورة 1250، كما صدت بونابرت نفسه وغادرها مهزوما تحت أجنحة الظلام في 22 أغسطس 1799م. وفي المرتين، في صليبية لويس التاسع، ثم في استعمارية بونابرت، كانت فرنسا هي قوة العدوان الهمجية .

**************

في كتاب “وصف مص ” كتب المسيو فورييه، وهو من العلماء الذين رافقوا بونابرت في غزوته، كتب مقدمة تحت عنوان “مصر والحملة الفرنسية – مقدمة تاريخية”، ربط فيها بين خبرة الحروب الصليبية القديمة وخبرة الاستعمار الحديث، هذا العناق بين ما هو صليبي وما هو استعماري يشكل الروح البحثية والفكرية المهيمنة على كافة أبحاث الموسوعة في كل مجلداتها وأبحاثها، لذلك -ورغم ما في الموسوعة من كثافة معلوماتية حاشدة تجعل منها كنزا لا مثيل له ولا استغناء عنه- إلا أنها في مضمونها ذات روح صليبية عدوانية استعمارية لصوصية لم تتوان عن تشويه كل ما في البلد والشعب من فضائل واستنارة وحضارة، تروج لذلك بمديح فارغ المضمون للحضارة الفرعونية القديمة وتقبيح كذلك فارغ المضمون للمماليك، علما أن فرنسا وروسيا وبريطانيا كانت تتنافس على كسب ود المماليك واصطناع الأتباع من صفوفهم، ومن المشتهر تقرب الإنجليز من محمد بك الألفي وتحالف الفرنسيين مع مراد بك، كانت لعبة مصالح من النوع الرديء بين قوى الاستعمار البازغة عند مطلع القرن التاسع عشر .

هذه الموسوعة كانت أول جهد منظم لإنتاج تصور مشوه عن مصر، تم تصديره للمصريين والعالم، في ثوب علمي، يخفي ما استطاع من طبيعته العدوانية الاستعمارية، وقد دخل الإنجليز على الخط وتوافد المستشرقين على مدى سنوات النصف الأول من القرن التاسع عشر كان أشهرهم إدوارد وليم لين 1801 – 1876م وعائلته من بعده وقد كتب كتابا مهما سماه أيضا “وصف مصر”، وكتابا لا يقل أهمية سماه “أحوال وعادات المصريين المعاصرين” وكتب ابن أخيه ستانلي لين بول 1854 – 1931م كتابا سماه “تاريخ مصر في العصور الوسطى”.

كان صراع الاستعماريين الأوروبيين فيما بينهم على الموارد أينما كانت ثم على الأسواق أينما كانت مبررا لهتك أمان الشعوب واللعب بعقولها وتزييف وعيها، كان السلاح الأوروبي يقتل الأجساد وكان العلم الأوروبي يقتل الأرواح ويطفئ نورها ويصدر لنا ولغيرنا من شعوب الأرض أنهم متقدمون في المطلق ونحن متخلفون في المطلق، وهذا لم يكن حقيقيا على الإطلاق .

-كانت القاهرة، رغم كل التدهور العثماني والانحطاط المملوكي – لايزال فيها من الرونق والبهاء من قصور ومرافق وإنارة وخدمات ما كان يدعو الغزاة الفرنسيين للمقارنة بينها وبين باريس مع الشهادة أنها تتفوق على باريس وكثيرا ما تلقاك هذه الشهادات في أبحاث “وصف مصر “.

– كانت المنتجات المصرية، وبالذات المنسوجات من القطن والكتان والصوف والحرير، لا ينافسها على الجودة إلا المنتجات الهندية، وكانت أسواق العالم تحتفي بالصادرات الواردة من القاهرة والفيوم والمحلة وقنا وأسيوط ودمياط .

– كان المجتمع المصري- بكل مكوناته العديدة-  يشق طريقه للتبلور كهوية مستقلة عن المماليك والعثمانيين معا، مستفيدا مما بينهما من صرعات تفتح ثغرات لأنفاس المصريين .

– علماء الحملة لم يأتوا ليعلموا المصريين، جاءوا مثل قائدهم بونابرت ليسرقوا المصريين، أخذوا عن المصريين الكثير من الطب ونسبوه لأنفسهم مثل طب العيون، وأخذوا عن المصريين صناعة ملح النوشادر ونسبوه لأنفسهم، وأخذوا عن المصريين الكثير من تقنيات الصباغة البيضاء والملونة ونسبوها لأنفسهم، وهكذا. (راجع نيللي حنا في كتابها مصر العثمانية والتحولات العالمية 1500 – 1800 صادر عن المركز القومي للترجمة) .

**************

غير صحيح عند نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع أن الفجوة الحضارية بين أوروبا ومصر كانت من الاتساع بحيث يمكن القول إن أوروبا كانت تمثل النور وأن مصر كانت تمثل الظلام، وبالتالي يجوز تصديق أن أوروبا المستنيرة جاءت تخرج مصر المظلمة من الظلمات إلى النور، ذلك غير صحيح بالمرة، وكذب صريح بالمرة، أوروبا كانت لها حداثتها، ومصر كانت لها حداثتها من داخلها وعلى طريقتها الخاصة، أوروبا كانت تسبق مصر فقط بخطوات معدودة لا أكثر .

كل ما فعلته أوروبا من فرنسا عند خاتمة القرن الثامن عشر إلى بريطانيا عند خاتمة القرن التاسع عشر هو إعاقة الحداثة المصرية البازغة وزرع مكانها حداثة أوروبية مشوهة ذات منزع استعماري عدواني كامن في بنيتها، هذه الحداثة الأوروبية الاستعمارية المشوهة بدأت تحت رعاية فرنسا وكأداة لنفوذها في مصر من وراء ستارة اسمها محمد علي باشا الكبير ونجليه عباس ثم سعيد وحفيده إسماعيل، ثم تحت رعاية بريطانيا من وراء ستار من السلالة العلوية من توفيق إلى عباس حلمي الثاني إلى السلطان حسين كامل إلى السلطان ثم الملك فؤاد ثم نجله الملك فاروق .

من غير فرنسا كان من المستحيل أن يكون من شأن محمد علي باشا ما كان من علو مقداره وظفره بعرش مصر له ولبنيه من بعده، ومن غير بريطانيا كان من المستحيل أن يبقى أحفاده من توفيق إلى فاروق في الحكم يوما واحدا، ويوم توافقت كل من بريطانيا وأمريكا على أن السلالة لم تعد لها ضرورة لم يمانع السفيران البريطاني والأمريكي في خلع آخر الحكام من سلالة محمد علي باشا الكبير ثم لم يمانعا من قطع الشجرة من جذورها ورميها على الأرصفة في عواصم المنافي والشتات والهجرة بعد عز موصول دام قرنا ونصف قرن تحت رعاية أوروبا وتوجيهها واستخدامها في تحقيق مصالحها الاستعمارية في مصر .

**************

هذه الأكذوبة، أكذوبة أن أوروبا جاءت بالحداثة، تفرع عنها، وتولد منها، أكذوبة موازية، أكذوبة أن محمد علي باشا الكبير هو مؤسس مصر الحديثة، أكذوبة ناجمة عن الأكذوبة الأم، الأكذوبة الفرنسية، أكذوبة “وصف مصر”، أكذوبة أن مصر كانت في همجية أو نصف بربرية، وأن محمد علي باشا الكبير كان مبعوث الحضارة الأوروبية وحامل مشعل التنوير .

هذه -للأسف الشديد- رواية فرنسية لتاريخ مصر في القرن التاسع عشر، بحيث أن محمد علي باشا تسلم الراية من بونابرت، وحيث أسبغت عليه أبواق الدعاية الفرنسية ألقاب “نابليون مصر ” و”بونابرت أفريقيا” و”مؤسس مصر الحديثة”.

محمد علي باشا الكبير -كطموح سياسي- لم يختلف عن الطموح السياسي لمملوك عظيم مثل علي بك الكبير 1728 – 1773.. نجح في الاستقلال الكامل بمصر عن السلطنة العثمانية، الفارق الوحيد أن التوقيت كان في صالح محمد على باشا ولم يكن في صالح علي بك الكبير .

محمد علي باشا لم يكن -في طموحه- يختلف عن أي مملوك ممن سبق وتنافست روسيا وفرنسا وبريطانيا على رعايتهم وتوظيفهم، ولم تكن حداثة أوروبا ولم تكن حداثة محمد علي باشا غير مشروع ضخم للسطو المشترك على مقدرات مصر في القرن التاسع عشر.

**************

أكذوبة محمد علي مؤسس الدولة الحديثة.

هذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.