في الثامن من مايو/أيار الجاري وجه نفتالي بينيت، رئيس الوزراء الإسرائيلي، خطابا متحديا كان بمثابة تنصل ورفض واضح للوصاية الهاشمية الأردنية على المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، التي يفرضها القانون الدولي وبنود اتفاق السلام الموقع بين الطرفين عام 1994.
خلال الأشهر الماضية من التصعيد الإسرائيلي في القدس والمسجد الأقصى، أظهرت المملكة الهاشمية تخوفا واضحا من تهديد دورها في الوصاية. ما استدعى تحركات إقليمية من جانب الملك عبد الله الثاني، ورسائل إلى البيت الأبيض في واشنطن، تحذر من مغبة التصرفات الإسرائيلية.
قال بينيت، في بداية الجلسة الأسبوعية لمجلس الوزراء يوم الأحد: “كل القرارات المتعلقة بجبل الهيكل (التسمية الإسرائيلية للحرم القدسي) والقدس ستتخذها الحكومة الإسرائيلية التي تتمتع بالسيادة على المدينة دون أي اعتبارات خارجية”. وأضاف “نحن بالتأكيد نرفض أي تدخل أجنبي في قرارات الحكومة الإسرائيلية.. القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل فقط”.
تأتي تصريحات بينيت كرسائل خارجية بعدما توترت العلاقات مع الأردن خلال الفترة الماضية، إثر مطالبتها بوقف الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد الأقصى، وزيادة عدد موظفي الحراسة من قبل هيئة الأوقاف الإسلامية، التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية. وكذا داخلية؛ ردًا على منصور عباس عضو الائتلاف في الحكومة ورئيس القائمة العربية الموحدة الذي جمّد عضويته في الائتلاف.
وكتب عباس، في منشور على فيسبوك، أن دور حزبه المستقبلي في الحكومة سيتحدد من خلال المحادثات التي تجريها لجنة مشتركة بين إسرائيل والأردن. وأشار إلى أن “قيادة التحالف -رئيس الوزراء (بينيت) ورئيس الوزراء المناوب (يائير لبيد)- أُبلغت بهذا الموقف الواضح والنهائي”.
وردت وزارة الأوقاف الأردنية على تصريحات بينيت قائلة إن مسؤولية وصلاحية تعيين حراس المسجد الأقصى تخصها هي، بالتنسيق مع دائرة الأوقاف بالقدس وأن تلك المسؤولية “لا تقبل المشاركة أو الإملاء من أية جهات كانت، بما فيها حكومة الاحتلال الإسرائيلي”.
وأوضحت أنها عيّنت أكثر من 70 حارسا منذ عام 2016 “إلا أن إجراءات التعسف، والغطرسة الإسرائيلية، والقيود التي تضعها الشرطة الاسرائيلية على الأرض، تشكل حائلا دون التحاق الحراس والموظفين بعملهم”. ويبلغ العدد الحالي لحراس الأوقاف ما يزيد عن 250 فردا. وأدانت وزارة الخارجية الفلسطينية وحركة حماس تصريحات بينيت، وشددا على أهمية الوصاية الأردنية.
يعتقد الباحث وأستاذ العلاقات الدولية حسن براري، تعليقا على تصريحات بينيت، أن إسرائيل تحاول أن تغير قواعد اللعبة مع الأردن، عبر محاولة فرض التقسيم الزماني والمكاني للأماكن المقدسة، والاقتحامات المتعددة. ويضيف “في كل مرة تصبح فيها العلاقة بين إسرائيل والأردن على المحك، يصل الجانبان إلى تفاهم لا يحرج الأردن، لكن هذه المرة الأولى التي تقول فيها إسرائيل إنها لن تقبل بتدخل الأردن في الإشراف على الأقصى“.
قصة الوصاية الأردنية في القدس
تعترف إسرائيل التي وقّعت معاهدة سلام مع الأردن في 1994، بإشراف المملكة الهاشمية على المقدّسات الإسلامية -وأيضا المسيحية- في المدينة، وتديرها عن طريق دائرة الأوقاف الإسلامية. وخلال تاريخه، أشرفت على إدارة المسجد الأقصى ورعايته جهات عدّة، وفقا لتعاقب الخلافات الإسلامية والدول التي حكمت فلسطين التاريخية.
واتبع الأقصى إداريا وزارة الأوقاف العثمانية، خلال حكم العثمانيين. ولكن بعد سقوط السلطنة العثمانية عام 1922، وخلال فترة الانتداب البريطاني، تولى المجلس الإسلامي الأعلى برئاسة الشيخ أمين الحسيني، مفتي عام القدس، شؤون أوقاف المسلمين ومؤسساتهم الدينية والتعليمية، ومن ضمنها الأقصى، بحسب “بي بي سي“.
وبعد إعلان قيام إسرائيل عام 1948، انتقلت أوقاف القدس إلى عهدة الأردن. وحاول الكيان الصهيوني ضم الأوقاف الإسلامية إلى سيطرة وزارة الأديان الإسرائيلية، عقب حرب يونيو/حزيران 1967، لكن لم تفلح المحاولة. ووفقا لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 271، طُلب من إسرائيل عدم إعاقة مشاريع ترميم وصيانة الأماكن المقدسة التي يديرها الأردن، على خلفية حريق المسجد الأقصى عام 1969.
لاحقا، أتت اتفاقية “وادي عربة” للسلام بين الأردن وإسرائيل، لتكرس الدور الهاشمي. وفي مارس/ آذار 2013، وقع الملك عبد الله الثاني، ورئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، اتفاقية تعطي المملكة حق “الوصاية والدفاع عن القدس والمقدسات” في فلسطين.
وتختص دائرة الأوقاف الإسلامية بالإشراف على أبواب المسجد الأقصى الأربعة عشر وحمل مفاتيحها، باستثناء باب المغاربة الذي تحكمت إسرائيل بمفاتيحه منذ عام 1967. وينبثق عن هذه الدائرة مجلس الأوقاف الإسلامية في القدس. ويعين أعضاءه بقرار من مجلس الوزراء الأردني، للإشراف على “إدارة الأوقاف والأملاك الوقفية التي تشكل أكثر من 50 بالمئة من الأملاك في القدس الشريف”.
ويهدف إلى “الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية لمدينة القدس، ورسم البرامج والخطط المتعلقة بالحرم القدسي، وإدارة الأوقاف الإسلامية من الناحية الدينية والإدارية والسياسية”. كذلك الإشراف على “اللجنة الملكية لإعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة”، وهي لجنة مخصصة لإدارة أعمال الإعمار والصيانة والترميم والمشتريات اللازمة لتلك الغاية. ورغم أن الشؤون الإدارية والمالية للمسجد الأقصى تُدار من قبل وزارة الأوقاف الأردنية، إلا أن مداخيله تخضع للسيطرة الإسرائيلية.
مخاوف الأردن تتصاعد من المحاولات الإقليمية
في أبريل/ نيسان 2021، أفادت تقارير إعلامية أن وزارة الأوقاف الأردنية أعادت تشكيل مجلس الأوقاف، وزادت أعضاءه من 18 إلى 23، مقلصة نفوذ حركة “فتح” فيه ومعززة حضور شخصيات على ارتباط أمتن بالإدارة الأردنية.
واعتبر محللون، وفقا لـ”بي بي سي”، أن هذه الخطوة جاءت لقطع الطريق على نفوذ إماراتي قد يحاول الدخول على خط وقف الأقصى، بعد اتفاقات التطبيع الأخيرة بين الإمارات وإسرائيل. وقد نص أحد بنود الاتفاق بين الأخيرتين على “كل المسلمين الذين يأتون بسلام لإسرائيل بإمكانهم أن يزوروا المسجد الأقصى، ويصلوا فيه، وفي غيره من الأماكن المقدسة في القدس، شرط أن يبقى مفتوحا لجميع المصلين المسالمين من كافة الأديان”.
ولكن إعلانا آخر من واشنطن عام 2015 بين وزير الخارجية حينها جون كيري والملك عبد الله ورئيس الوزراء آنذاك بنيامين نتنياهو خلص إلى استمرار سياسة أن المسلمين “يصلون” في الحرم القدسي، أما غير المسلمين فـ”يزورونه” دون الصلاة فيه.
والخطوة الأردنية لم تكن الأولى التي تتعلق بمخاوف من سحب وصايتها.
ففي عام 2019 أبدى الملك عبدالله الثاني خلال زيارة للقاهرة غضبه من وجود مساعٍ تركية للإشراف على المقدسات الإسلامية في القدس المحتلة. وفي نفس العام نشرت صحيفة “هآرتس” العبرية تقريرا قالت فيه إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنير يسعيان بقوة لمنح الوصاية على المقدسات الإسلامية في القدس للسعودية.
وقد حاول الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، عام 2018 الالتقاء مع شخصيات دينية إسلامية ومسيحية، وشخصيات قيادية من حركة فتح وكان الغرض البحث في وصاية السعودية على المقدسات.
وجاءت تلك التحركات في أعقاب “صفقة القرن” ما عدته الأردن تهديدا خطيرا يؤثر على شرعيتها إذ “ظل البعد الديني عاملا في شرعية الحكام الهاشميين بعد مغادرتهم الحجاز. وهم يشتقون شرعيتهم من القدس” بحسب الباحث في الشأن الفلسطيني عدنان أبو عامر. ما قد يُسبب “تدهور خطير على مستقبل العائلة الهاشمية المالكة”.
وذكر النائب الأردني السابق، سليم البطاينة، أنه أثناء مشاركة الأردن في أعمال الدورة 24 للاتحاد البرلماني العربي بالمغرب عام 2017 نشب خلاف قوي بين وفدي الأردن والسعودية حيث رفض الوفد السعودي تأكيد حق الأردن بوصايته على المقدسات الإسلامية في القدس المحتلة.
الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتسوغ، كذلك قال عام 2018 لصحيفة “إيلاف” السعودية، حين كان زعيما للمعارضة، أنه “عندما نصل إلى الحديث عن القدس والأماكن المقدسة، مثل الأقصى، أعتقد أنه يجب أن يكون هناك دور ومسؤولية للسعودية على الأماكن المقدسة، بحكم كونها الدولة التي تضم أقدس أماكن الإسلام، وللسعودية تجربة في إدارة الأماكن المقدسة في مكة والمدينة. أعتقد أنه يجب منح السعودية دورًا مركزيًا في هذا الأمر”.
ولكن المخاوف الأردنية لا تنبع بشكل أساسي من السعودية فقط، فالمغرب أيضا انضمت إلى قائمة الدول التي ترغب في لعب دور الوصاية، واتخذت خطوات بالفعل على الأرض.
في 2018، زار وزير خارجية المغرب ناصر بوريطة، الحرم، وهو الجهة المركزية في وضع التفاهمات والاتفاقات مع إسرائيل “مما يعني أن التقارب الإسرائيلي من السعودية، والتطبيع مع المغرب حليف السعودية، ينشآن محورا إسلاميا جديدا في الحرم القدسي” بتعبير أبو عامر.
ويضيف “الجديد في مجال التنافس الإقليمي على مسألة السيادة على الحرم القدسي، أن المغرب سينضم في المستقبل القريب إلى لعبة القوى في الحرم، فلجنة القدس برئاسة الملك الحسن الثاني، قضت منذ سنوات طويلة بأن المكانة التي يتمتع بها الأردن في الحرم مؤقتة، وردا على ذلك، ترك المندوب الأردني في حينه مداولات اللجنة، وعاد إلى عمان”.
وقد تأسست لجنة القدس بتوصية من المؤتمر السادس لوزراء خارجية البلدان الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1975. وأُسندت رئاستها إلى الملك الحسن الثاني ملك المغرب وخلفه ابنه الملك محمد السادس. وكان هدفها “حماية القدس من المخططات و المؤامرات الصهيونية وخطط تهويدها”. لكن خطيب المسجد الأقصى عكرمة صبري اعتبر أن هذه اللجنة “لا جدوى منها لأنها أضحت مشلولة بعد ارتماء المغرب في أحضان الكيان الصهيوني”.
هل يغير التطبيع الوضع مستقبلًا؟
بالتزامن مع التطبيع الإسرائيلي الخليجي، شهدت العلاقات مع الأردن تراجعا وفتورا واضحين، تجلى في تصريح بينيت المتحدي الذي رافقه دعوات إسرائيلية بإخراج المملكة من القدس والحرم القدسي. إذ يعتقد الإسرائيليون أن الوقت حان لتعيين مجلس دولي لإدارة الحرم القدسي، بحسب أبو عامر، بحيث يتمكن ممثلو الدول الإسلامية التي تعترف رسميا بإسرائيل، إضافة لممثلين منها، من السماح لأي شخص، بغض النظر عن دينه، بالصلاة في الحرم.
وفي الوقت ذاته فإن التقارب التركي الإسرائيلي يلعب دورا آخر يزيد من المخاوف الأردنية التي اعتبرت أن الدعم التركي في القدس من خلال مشاريع خيرية ذات طابع اقتصادي، يؤثر على نفوذها. رغم أن التأثير التركي بين فلسطينيي القدس أثار قلق مسؤولي الأمن والسياسة في إسرائيل أيضا منذ سنوات.
لكن موقف الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة جو بايدن الذي أعاد التأكيد على دور الأردن في الوصاية، هدأ قليلا من مخاوف الملك عبد الله الثاني، الذي سيلتقي مع نظيره الأمريكي في الثالث عشر من الشهر الجاري، وسيناقش معه ضرورة الإبقاء على “الوضع الراهن” في المسجد الأقصى والمقصود به الدور الراهن للوصاية.
يرى المحلل في الشأن الإسرائيلي، صالح النعامي، أن الصمت الأردني خلال السنوات الماضية لعب دورا في التهديد الذي يتعرض له الآن إذ شجعت إسرائيل على سحب الصلاحيات من الأوقاف المتعلقة بتحديد هوية وعدد غير المسلمين الذين يدخلون الأقصى وموعد زياراتهم خلال انتفاضة الأقصى بعد أن كان حصريا لها.
وتابع “الأردن قَبِل عمليا أن تنفرد إسرائيل بهذه الصلاحيات لكي يغير الوضع القائم في الأقصى عبر السماح لقطعان المستوطنين بتدنيسه بأعداد هائلة وغير مسبوقة”، لافتا إلى أن الأردن والسلطة لم يحركا ساكنا في مواجهة القبضة الحديدية التي استهدفت المرابطين والمرابطات في الأقصى بحجة أنها تأتي في إطار مواجهة الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح.
واعتبر النعامي أن إسرائيل استمد التشجيع من سكوت ملك الأردن لنقض الاتفاق الذي توصل إليه في 2015 مع نتنياهو والذي التزمت إسرائيل بموجبه بعدم السماح لليهود بأداء الصلوات التلمودية ومنع نشطاء حركات الهيكل بتدنيسه. واستدرك بالقول “للأسف ملك الأردن لم يصمت فقط على هذه الممارسات، بل وسع الشراكات الأمنية والاقتصادية مع الاحتلال في ظل هذه الممارسات”.
يشير أستاذ العلاقات الدولية حسن براري “إسرائيل لم تعد تعلي من شأن العلاقة مع الأردن، إلا بما يضمن التبعية لها، لأنها تعتقد أن هناك تغيرات جيوسياسية في المنطقة لصالحها، لذلك، فإنها تحاول منذ سنوات القفز فوق الدور الأردني، بخاصة أن الأردن لم يعد يمارس ثقله في القضية الفلسطينية كما في السابق”.