من بين كل الصور والمقاطع التي انتشرت للشهيدة والشاهدة شيرين أبو عاقلة الصحافية التي قتلها الاحتلال الصهيوني وقفتْ أمام تلك الصورة التي تقف فيها وراء الكاميرا لا أمامها كالمعتاد. يبدو أنها تتأكد من وضوح الرؤية للمشاهد لإيصال كلمات مصورة في قالب لم تمل تقديمه على مدار ربع قرن.

لم تترك الصورة وصاحبتها أي مساحة للمجاز الفني أن يعمل سواء أمام الكاميرا أو خلفها. عاشت تقاتل الضبابية وماتت نموذجا حيا على تحقق مسعاها الفني دون أن تمارسه يومًا.

على مدار ربع قرن من الزمن شهدت منها سنوات قليلة بانتظام. كنت أتذكر وجودها من جملتها التي كانت تُرددها دائمًا كل صباح عند ظهورها على الشاشة: أوافيكم بالتغطية فور اتضاح الصورة. حتى قبل لحظات من قتلها على يد الكيان الصهيوني تركتنا لسؤال مفتوح من قلب تجربتها: هل نحتاج إلى أكثر مما حدث لنشهد اتضاح الصورة؟

أغلق جثمان الصحافية شيرين أبو عاقلة المقتول غدرًا بيد قوات الاحتلال على الإجابة الوحيدة الصالحة. ترك الجميع أمام تساؤل متجاوز للصحافة التي كانت تمارسها للفن وجدوى الصدق عمومًا.

منذ قليل أعلنت النيابة العامة الفلسطينية أنها باشرت إجراءات التحقيق وأوضحت أنها ستتابع القضية من خلال نيابة الجرائم الدولية المختصة بتوثيق الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. تمهيداً لإحالتها لمكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية. بينما مصادر إسرائيلية تقول إن المراسلة قتلت نتيجة إطلاق نار عشوائي من قبل مسلحين فلسطينيين في مخيم جنين أدّى لوفاتها متأثرة بإصابات خطيرة تعرضت لها في منطقة الرأس خلال تغطيتها اقتحام قوات إسرائيلية لمخيم جنين.

في حديث أرشيفي لها قالت أبو عاقلة إن السلطات الإسرائيلية دائما ما كانت تتهمها بتصوير مناطق أمنية. وأضافت أنها كانت تشعر باستمرار بأنها مستهدفة وأنها في مواجهة قوات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين المسلحين. الفتاة التي قامت بتغطية أحداث الانتفاضة الفلسطينية التي بدأت في عام 2000 والاجتياح الإسرائيلي لمخيم جنين وطولكرم عام 2002 والغارات والعمليات العسكرية الإسرائيلية المختلفة التي تعرض لها قطاع غزة كانت أول صحفية عربية يسمح لها بدخول سجن عسقلان في عام 2005. حيث قابلت الأسرى الفلسطينيين الذين أصدرت محاكم إسرائيلية أحكاما طويلة بالسجن في حقهم. خرج مسؤول صهيوني يقول إنها قتلت برصاص من “إرهاب فلسطيني” إلى أن ننسى الحديث برمّته.

المحاولة المعتادة للذهاب إلى مساحات تأويل مختلفة يطرحها الخطاب الصهيوني لا تلقى استجابة على المستويات كافة في حالات مثل شيرين أبو عاقلة. يقتل جثمانها الحي كل مساحات المجاز الذي يسعى وراءه الفنان الصهيوني لتمييع النتائج.

بطولة مطلقة لا يشوبها شكوك حول جدواها أو أسبابها. تربك الجميع من توهّج وضوحها ومباشرتها التي لا تكاد تستوعبها الفنون المعجبة بالغموض أكثر. تظل مثيرة لإعجاب وغيرة الجميع ربما حتى قاتليها.

أتذكر أني بكيت كثيرًا عندما قرأت رد فعل الضابط الصهيوني في رواية “زمن الخيول البيضاء” التي كتبها إبراهيم نصر الله. والتي تستحضر نفسها في تأبين الصحفية الشاهدة والشهيدة. “كان الضابط الصهيوني يقترب من جسد الحاج خالد الثائر الذي أمر بقتله. مرّ بتثاقل أذهل جميع جنوده. رآه ملقى. وجهه للسماء ويده ممسكة بمسدسه. جسده ممتلئ بثقوب الرصاص وثيابه غارقة في الدم. سدد أحد الجنود بندقيته وكان يهم بإطلاق الرصاصة الأخيرة نحو الجسد المسجى. امتدت يد باترسون وأنزلت البندقية: لقد مات. سمع أحدهم يقول مبروك. ودون أن يلتفت ليعرف مصدر الصوت قال: هذا رجل شجاع من العيب أن نتلقى التهاني بمناسبة موته. ثم قال وهو يحدق في وجوه الجنود: هذا رجل شريف. من أين لي بعدوُّ مثله بعد اليوم؟!”.

تصلح قصة الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة التي قتلها جنود الاحتلال الصهيوني عمدًا أمس أمام كاميرات العالم مجازًا لتخاذل دولي تجاوز السبعين عامًا في فلسطين. وورطة متكررة تخذل سؤال الفن الصهيوني الذي يتباكى وجوديًا دون سياق. يخذل أناسا باتت رؤية الرعب في وجوه الآخرين بالنسبة لهم نشوة لا توصف.

في فلسطين -تلك البلاد التي تبدو بلادا بحجم القلب- لا شيء فيها بعيد ولا شيء فيها غريب. في مكان كفلسطين وصفائها امتداد لا يُعيق البصيرة. يمكن أن يكون المرء أكثر قربًا لله. تمامًا مثلما شعر إبراهيم نصر الله في وصفه البطل المجاهد. فلا تلوثوا الجرح بالدموع. هذه شهادة سيدة قتلت غدرًا أمام أعين الجميع لتقتل التأويل والمجاز المعتاد في طرح سيناريوهات مختلفة يتغذى عليها الفن لتجنب مباشرة الأشياء. تركتنا نتأمل جثمانا شاهدا على عارنا الأبدي.

يبدو رحليها إجابة وافية وختامًا لرسالتها التي اعتدنا سماعها بصوتها. كانت شيرين توافينا بالتغطية بعد اتضاح الصورة. ولا نعتقد أنها ستصدح أكثر من ذلك. أو مثلما تغنى الشباب من قلب فلسطين المحتلة: ما هو كل شيء باين في المحنة… ما هو كله عارف/ ما هو كله شايف/ ما هو كله خايف والدنيا ترص. لعلها تحرك ساكنًا “في اللي ميتسمّوش”.