اغتيلت شيرين أبو عاقلة، المسيحية الفلسطينية، التي أرادت أن تكون الصوت حتى وإن سكتت الدنيا عن الحق الفلسطيني. استشهدت شيرين لتذكر الجميع بما نسوا؛ حكومات وشعوب تغيرت بهم الأزمان، حتى صارت قضية فلسطين شأنًا دينيًا، بعدما درج الجميع على ربطها بالعرب والمسلمين، دون أن يتذكر أحد مسيحيي فلسطين؛ رمانة ميزان تلك المعادلة.

مسيحيو فلسطين.. رقم في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي

مسيحيو فلسطين مثل شيرين أبو عاقلة يشكلون رقمًا فارقًا في معادلة فلسطين. ذلك لأن وجودهم ونضالهم يعيد التأكيد على الطبيعة الكولينيالية للصراع العربي الإسرائيلي. تلك دولة احتلال تضع آلياتها العسكرية فوق أراضي ليست لها. ولكنه الدين الذي دخل صراعًا سياسيًا، فصبغ لونه مع الأيام، وصار وكأنه صراعًا مسلحًا بين المسلمين في القلب منهم الحركات الإسلامية وبين اليهود في مقدمتهم الحركة الصهيونية.

اقرأ أيضًا: صحفيو فلسطين.. رُسُل الحقيقة يتحدثون تحت القصف

تستند دولة إسرائيل على تاريخ ذكره الكتاب المقدس العبراني أو العهد القديم بتعبير مسيحي. إذ يستمد منه الكثير من اليهود لا سيما الأرثوذكس تاريخهم؛ إيمانًا بدور الله في حركة التاريخ. فهو الذي أخرج موسى وشعبه من مصر بعد سنوات الاستعباد وأعادهم إلى ممالكهم بعد سنوات السبي البابلي. بينما يقف مسيحيو فلسطين كحجر عثرة في معادلة التديين تلك. إذ يؤمنون بالعهد القديم، ولكنهم يتمسكون أيضًا بسرديتهم التاريخية وحقوقهم كسكان أصليين للأرض. لقد كانوا ولأجيال شهودًا على الاستيطان والمحو المتعمد للذاكرة والهوية الفلسطينية.

يتمسك مسيحيو فلسطين بأراضيهم التي ظهر فيها يسوع، بينما ينكره اليهود من حولهم. يسلم المسيح إلى اليهود عام 30 ميلاديًا، ولا ينتهي وجود أتباعه وتلاميذه من أرض فلسطين على امتداد ألفي عام، مثلما يؤكد ماركو الأمين الباحث في التاريخ الكنسي.

يتمسك مسيحيو فلسطين بأراضيهم التي ظهر فيها يسوع
يتمسك مسيحيو فلسطين بأراضيهم التي ظهر فيها يسوع

تركيبة مسيحيي فلسطين

يشرح الأمين التركيبة المتمايزة لمسيحيي فلسطين. يقول: توالت الحقب والحكومات المختلفة. بل واختلفت حتى تركيبة مسيحيي الأراضي المقدسة. صاروا من عرقيات مختلفة إلى جانب أصحاب الأرض، فنرى القبط والأرمن والأوروبيين. مؤكدًا: لطالما كانت أورشليم هي المحج والمقصد ودرة فلسطين.

يوضح الأمين في تصريحات خاصة لـ “مصر 360”: احتل مسيحيو الأراضي المقدسة حتى بعد أن أصبحوا مجرد أقلية مكانة مهمة في كل عصور الحكم وفي دولة ظاهر بن عمر. وإبان الحكم المصري لفلسطين، تقلدوا مناصب عليا في الإدارة. بينما بعد سقوط الدولة العثمانية ودخول فلسطين في فترة الانتداب البريطاني، كانت أعدادهم في فلسطين حتى عشية حرب 1948 تمثل رقمًا كبيرًا. “كانت هناك قرى كاملة مسيحية أبادتها العصابات الصهيونية”؛ يقول الأمين.

يلفت الأمين كذلك النظر إلى ما جرى لمسيحيي فلسطين من تهجير وتضييق دفع معظمهم إلى الهرب خارج فلسطين، إلى أن باتوا مع بداية القرن العشرين مجرد أقلية صغيرة. وخاصة مع العمليات الممنهجة لإفراغ فلسطين من مكونها المسيحي. فلم يعد تعداد مسيحيي فلسطين داخل الأراضي المحتلة أو في الضفة الغربية أو غزة يتخطى حاجز الربع مليون نسمة. بل يستمر في التناقص بفعل الهجرة.

الشهيد كمال ناصر
الشهيد كمال ناصر

يقول الأمين إنه مع توطين اليهود في فلسطين كان أكثر المتضررين هم المسيحيون. فبحسب الباحث والمؤرخ الفلسطيني سامي هداوي، بلغت نسبة تهجير المسيحيين أكثر من المسلمين منذ بداية النكبة.

بعد حرب 1967 أسس الفلسطينيون مقاومتهم المسلحة ضد الاحتلال. كما أسس جورج حبش ووديع حداد حركة القوميون العرب، وعنها انبثقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وهي إحدى أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية.

وفق الأمين، نشط المسيحيون في تنظيم دولتهم الفلسطينية وحركاتهم القومية مثل فيرا بابون عضو حركة فتح، وحنا ناصر وحنان عشراوي والكثير من أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية. كذلك لا يُنسى أحد أشهر قيادي الثورة الفلسطينية الشهيد كمال ناصر، الذي اغتالته قوات الاحتلال في بيروت عام 1973. ومثله ناضل المطران هيلاريون كبوجي ضد الاحتلال مما أدى لاعتقاله.

 

اقرأ أيضًا: كانت تُسمى صوت فلسطين صارت تُسمى صوت فلسطين: عن شيرين

مسيحيو فلسطين والعمل السياسي

لم يغفل مسيحيو فلسطين دورهم في العمل السياسي حتى تحت سلطة الاحتلال.

وفق الأمين، أسس المسيحيون في الأراضي المحتلة أحزابًا وانخرطوا بالعمل السياسي ليدافعوا عن حقوق العرب. ومنهم عزمي بشارة وباسل غطاس.

“لم يكن مسيحيو فلسطين يصنعون المجد في الداخل. بل في المهجر أيضًا حمل المسيحيون اسم فلسطين حتى أمريكا اللاتينية. ووصل بعضهم إلى مراكز مرموقة، أمثال كارلوس فاكوس الفلسطيني الأصل ورئيس جمهورية هندوراس سابقًا، وأنطونيو سقا الرئيس السابق لجمهورية السلفادور، وسعيد موسى رئيس الوزراء السابق لدولة بليز”؛ يقول الأمين.

ربما أكثر من جدد النقاش الأكاديمي حول صراع الشرق والغرب وفي القلب منه قضية فلسطين هو المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد صاحب الكتاب العمدة “الاستشراق”، الذي صاحبته منذ صدوره القرن الماضي عاصفة من الجدل الأكاديمي، وتأسست بعده دراسات ما بعد الكولينيالية، التي أعادت وضع دور الاستعمار الغربي للشرق في تأسيس العالم الحديث كما نعرفه اليوم.

المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد صاحب الكتاب العمدة "الاستشراق"
المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد صاحب الكتاب العمدة “الاستشراق”

خارج المعادلة.. هكذا أصبح مسيحيو فلسطين

جرت مياه كثيرة في النهر، تسببت في تحييد مسيحيي فلسطين من معادلة القضية الفلسطينية. ربما أبرزها استخدام القضية الفلسطينية كحصان طروادة في شعارات سياسية وفي خطابات دينية لجماعات أبرزها الإخوان المسلمين ونظيرتها الفلسطينية حماس.

كذلك، فإن النخب الفلسطينية نفسها التي كانت تسيطر عليها جماعات قومية ويسارية لسنوات، نزحت نحو سيطرة جماعات إسلامية، فتغيرت التركيبة السياسية لمناضلي فلسطين، خاصة بعد هزيمة 1967، التي ضربت المشروع القومي الناصري في مقتل. فظهر تديين القضية حتى في خطابات عبد الناصر ذاته. بينما اعتبر اليهود فوزهم الكاسح هذا وكأنه معجزة إلهية تعيدهم إلى أرض الميعاد العبرانية.