لكل قصة صحفية زاوية أخرى، ولكل حدث جانب أبعد من حدود التغطية، يسلط الصحفيون المعنيون بمتابعة أي خبر الضوء عادة على ما يجري، يبحثون عن التفاصيل يسعون إلى تقديم إجابات لأسئلة «ماذا، متى، أين، من، وكيف حدث»، وبعد أن يهدأ غبار الحدث تبدأ رحلة البحث عن إجابات أسئلة أخرى «ماذا بعد؟، ما مدى تأثير؟، ما هي السيناريوهات المتوقعة، الخاسرون والرابحون.. إلخ».

في قصة استشهاد الزميلة شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة «الجزيرة» التي اغتالتها رصاصات الغدر الإسرائيلية صباح أمس الأربعاء 11 مايو/ أيار، ذهبت كل منصات الأخبار سريعا إلى الحدث الأليم الذي فجع العالم لتنقل ما جرى وتتبع شهادات فريق شهيدة الصحافة وزملائها من وسائل الإعلام الأخرى الذين رافقوها في مهمتها الأخيرة لتغطية محاولات جيش الاحتلال اقتحام مخيم جنين.

لم يترك الصحفيون شيئا له علاقة بحادث الاغتيال أو بسيرة الشهيدة شيرين إلا ونقبوا عنه لتقديمه إلى الجمهور الذي صدمه الحدث وأراد أن يعرف عنها كل شيء، بدءا من رحلة حياتها وعائلتها وتعليمها والمنصات الإعلامية التي عملت بها قبل «الجزيرة»، حتى قصاصة الورق التي دونت فيها ملاحظاتها الاخيرة قبل تصوير تقرير عن بدء عملية اقتحام جنين «اشتباكات مسلحة.. استهداف شاب آخر.. قناص يطلق النيران»، والبريد الإلكتروني الذي أرسلته إلى زملائها في غرفة الأخبار عن تحركات جيش الاحتلال ووعدتهم فيه بإرسال التفاصيل بعد اطلاعها على الموقف بصورة أكبر وأكثر، وصولا إلى تشييعها في جنازة شعبية حاشدة من جنين وسط كاميرات أصدقائها وأهالي المخيم.

شيرين أبو عاقلة
شيرين أبو عاقلة

اعتصر الحدث القلوب وانهمرت الدموع على “عنقاء الصحافة” التي ماتت واقفة وصعدت إلى بارئها وهي تنقل الحقيقة، وحُملت على الأكتاف كي تفدي باستشهادها أهل «جنين» من مجزرة كان من المتوقع أن تكون أعنف من المجزرة التي ارتكبها الاحتلال في المخيم عام 2002.

للقصة أبعاد أخرى فالصحفية المقدسية التي حصلت على الجنسية الأمريكية وكرست حياتها ومهنتها لفضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي في مدن فلسطين على مدار 25 عاما أعادت برحيلها الدامي القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وذكرت أبو عاقلة شعوب العالم بأن دولة الاحتلال التي تدعي أنها «واحة ديمقراطية» وسط صحراء الاستبداد والتسلط لا تزال تحتل أرضا وتبيد شعبا، تمارس سياسة الفصل العنصري وترتكب أبشع الجرائم وتطارد برصاص قناصتها الإعلاميين الذين تضمن لهم القوانين الدولية الحماية أثناء عملهم.

اقرأ أيضًا: كانت تُسمى صوت فلسطين صارت تُسمى صوت فلسطين: عن شيرين

صارت أبو عاقلة عنوانا رئيسيا وملهما وجاذبا للقضية التي تُجدد الدماء عناوينها منذ أن حلت علينا نكبة قيام الكيان الصهيوني قبل 74 عاما، أصبحت شيرين «مانشيت» يكتب بالبنط العريض أعلى متن قصة الأرض المحتلة، ليجاور عناوين أخرى هزت كيان العالم مثل «محمد الدرة، راشيل كوري، وغسان كنفاني» وغيرهم.

وفي بعد ثالث، عرى اغتيال أبو عاقلة أنظمة التطبيع العربي التي “أكلت القطة لسانها” فلم يصدر عن بعضها بيان إدانة لعملية الاغتيال حتى كتابة هذه السطور في الساعات الأولى من صباح اليوم الخميس 12 مايو/أيار الجاري، كتلك البيانات التي تسارع تلك الأنظمة بإصدارها ضد أي عملية فدائية فلسطينية تستهدف المستوطنين الصهاينة في فلسطين المحتلة.

فضح رحيل أبو عاقلة مزاعم أصدقاء إسرائيل الجدد الذين أعلنوا الندم والأسف على تأخرهم 74 عاما في التعرف على الجار الجديد بشكل أفضل والعمل معه وتغيير السردية التي تربت عليها أجيال من الإسرائيليين والعرب، وتعهدوا بالعمل على تغيير هذه السردية وخلق مستقبل مختلف وإدراك ما فات.

شيرين أبو عاقلة

شيرين أبو عاقلةدفعت أبو عاقلة الأجيال الجديدة في بلادنا إلى البحث عن جرائم دولة الاحتلال في حق شعبنا، بعد سنوات من التجاهل والتكتم، رغبتهم في معرفة قصة فلسطين كيف ضاعت ومتى سنحارب لاستردادها وهل نملك أسباب النصر؟

«هو إحنا هنحارب إسرائيل أمتى يا بابا»، ما بين الأقواس هو سؤال لابني الأصغر علي (9 سنوات) طرحه ونحن نتابع تشييع جنازة شيرين في جنين وسط هتافات وتكبيرات المشيعين من أهل المخيم، السؤال فتح الباب أمام نقاش تداخل فيه شقيقه الأكبر عبد الرحمن (17 عاما) مفندا المزاعم الإسرائيلية بأن عملية الاغتيال تمت برصاص مسلحين فلسطينيين، ليرد عليه الأخ الأوسط نزار (13 عاما) متسائلا ومستنكرا «هو مفيش حد هيحاسب إسرائيل على جرائمها؟».

ما دار من مناقشة بين أبنائي نموذج لما دار في عدد كبير من بيوت العرب التي فُجع أهلها بحادث الاغتيال.

إسرائيل التي تزعم أنها تبحث وتعمل على أن تكون دولة طبيعية في المنطقة، زرعت كما تفعل مع كل حادث اغتيال أو هجوم على شعبنا الفلسطيني، كراهيتها في قلوب ووجدان الأجيال الجديدة في بلاد العرب، رسخت في عقول أبنائنا إنها عدو لا يصلح معه سلام وإن مآله إلى زوال، وأن كل ما يقال ويطرح من اتفاقيات ومعاهدات ما هو إلا لغو ما دامت الحقوق ضائعة والدماء مهدرة والأرض مغتصبة.

بعد الحادث بساعات بدل الكثير من الشباب العربي صور حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي ووضعوا صورة الشهيدة، ومنهم من وضع خريطة فلسطين من البحر إلى النهر إلى جانب صورة أبو عاقلة.

عاد الحديث مُجددا عن «تمني الموت استشهادا في سبيل فلسطين» كما كان قبل أن يحاول البعض دفن القضية عمدا وتشويه أصحابها حتى يبرر صمته أو يمرر تطبيعه أو يُرضي أوليائه وأصحاب قرار بقائه في السلطة.

في الذكرى الـ25 لتأسيسها، بثت قناة الجزيرة رسالة لمراسلتها في الأراض المحتلة شيرين ، قالت فيها «ليس سهلاً ربما أن أغير الواقع لكنني على الأقل كنت قادرة على إيصال الصوت إلى العالم»، ورغم حرصها منذ عملها في الصحافة بداية تسعينيات القرن الماضي على نقل صوت فلسطين الجريحة إلى العالم، ألا أن هذا الصوت كان يُكتم حينا ويشوش عليه أحيانا، حادث الاغتيال بالطريقة التي جرت حول صوت شرين إلى صرخة دوت وأوصلت قضية فلسطين إلى كل مدينة العالم.

أعاد رحيل أبو عاقلة الاعتبار لمهنة الصحافة في بلادنا التي شوهها بعض أبنائها اللاهثين خلف حسنات وهبات وذهب أصحاب السعادة والسيادة، أو الخائفين من بطشهم وطغيانهم، وضعت شرين المهنة حيث يجب أن تكون «أقرب المهن إلى الجهاد الوطني والعمل السياسي معا»، على ما قال شيخ الصحفيين المصريين الراحل الأستاذ حافظ محمود، الذي شبه الصحفيين بـ” القضاة الذين سيحاكمون الطغاة في محكمة التاريخ».

«لن أنسى  أبدا حجم الدمار ..  ولا الشعور بأن الموت كان أحياناً على مسافة قريبة لم نكن نرى بيوتنا، كنا نحمل الكاميرات ونتنقل عبر  الحواجز العسكرية والطرق الوعرة .. كنا نبيت في  مستشفيات أو عند أناس لا نعرفهم .. ورغم الخطر كنا نصر على مواصلة العمل»، كانت تلك كلمات أبو عاقلة في فيديو بثته قناة الجزيرة أمس وهي تحكي عن المخاطر التي يتعرض لها الصحفيون المكلفون بتغطية الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية عام 2002، «في تلك اللحظات الصعبة تغلبت على الخوف، فقد اخترت الصحافة لكي أكون قريبة من الإنسان».

أما زميلها علي السمودي الذي رافقها في تغطيتها الأخيرة لمحاولة جيش الاحتلال اقتحام جنين والذي أصيب برصاصة في ظهره، فروى شهادته في تسجيل مصور قال فيه إن «ما حصل أننا كنا في طريقنا للتصوير، فجأة أطلقوا علينا النار، ولم يطلبوا منا أن نخرج أو نتوقف (..) رصاصة أصابتني والرصاصة الثانية أصابت شيرين، ولم تكن هناك مقاومة، وإلا ما ذهبنا لتلك المنطقة».

ماتت شرين وبكيناها دموعا ودما، وترحمنا عليها ودعونا الله أن يرفع مراتبها إلى مراتب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، لكن لقصة الموت أبعاد وزوايا أبعد.

فالقصة لن تقف عند دفن جثمان الشهيدة التي شُيعت في جنازة تليق بالأبطال المحاربين، فابنة القدس التي صارت خبرا وحكاية بعد ما كانت ناقلة وراوية استحضرت بموتها عشرات القصص ولكل قصة منهم أبعاد وزوايا مختلفة.

وللقصة بقية..