بقدر ما كشفت الحقيقة ودافعت عنها كان رحيلها المؤلم كاشفًا لكثير من الحقائق التي نسيناها في زحمة ما يجري حولنا. استشهدت شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة الجزيرة في فلسطين المحتلة، فاكتشفنا نحن أن المحن يمكن أن تظهر الحقيقة كما هي دون تجميل.

رحلت شيرين الصحفية الفلسطينية المحترفة التي ساهمت في صنع وعي جيل عربي كامل، على مدار 25 عاماً هم حصيلة عمرها الإعلامي الحافل.

الحقيقة الأولى التي أظهرها رحيلها هي أن الصحفيين في هذه المنطقة الموبوءة من العالم ما زالوا يدفعون الأثمان بلا توقف، يدفعونها حيناً من حريتهم بسجون الأنظمة المستبدة، وحيناً من أعمارهم عن طريق محتل غادر يخشى دائماً وأبداً من الحقيقة.

الرسالة الواضحة الأولى لرحيل شيرين هي أن الصحافة هي العدو الأول لأنظمة هذه المنطقة، فكما يكرهون الحرية لا يحبون الصحافة ولا تستهويهم لغة الحقائق ولا تريحهم صورة الكاميرا في أيدي الصحفيين، وهنا يكمن السبب الأول الذي دفعت شيرين حياتها سبباً له، لكنها في نفس الوقت الذي غابت وصعدت روحها الطاهرة إلى السماء كانت تؤكد بغيابها أن الصحافة ستظل مستهدفة ما دامت تحاول البحث عن الحقيقة وكشفها وتقديمها للناس، وأن مهنة الصحافة ستظل شوكة في حلق الاحتلال والاستبداد على السواء، لن يكونا أصدقاء أبداً ما ظل الصحفي يعمل في مهنته بإخلاص، مدركاً رسالتها وأهدافها النبيلة، ومؤمناً أنه لا يمكن ان يخضع لأي سلطة مهما كانت إلا سلطة الحقيقة وسلطان الجمهور الذي يظل متعطشا إلى المعرفة وهو يراهن على الصحافة كمهنة وكرسالة نبيلة.

اقرأ أيضًا: كانت تُسمى صوت فلسطين صارت تُسمى صوت فلسطين: عن شيرين

صحيح أن كل المنظمات المهتمة بالعمل الصحفي في العالم تصنف منطقتنا ووطننا العربي ضمن الأسوأ في مساحات حرية الصحافة، إلا أن عالمنا العربي هذا يدرك جيداً أنه ليس هناك صحافة حرة ولكن هناك صحفيين أحرار يحاولون بأقصى جهد ممكن أن تصل الحقيقة للناس مهما كانت الأثمان الفادحة التي يدفعها هؤلاء والتي تكون أحيانا من حريتهم وحياتهم.

غابت الشهيدة شيرين أبو عاقلة بطلق ناري غادر في الرأس لكنها وهي ترحل تركت لنا الحقيقة الثانية التي كادت أن تغيب عنا، وهي أن فلسطين المحتلة ستظل قضية العرب الأولى، وأن الشعوب العربية لن تقبل الكيان الصهيوني ولن تعترف به ولن ترى فيه إلا تجسيداً للإرهاب بكل معاني الكلمة، وللاحتلال بكل معناه البغيض، وأنه سيظل خصماً وعدواً للذين يتضامنون مع القضية الفلسطينية من كل المنطلقات السياسية والإنسانية والأخلاقية، فلا عار التطبيع الذي تتبناه أنظمة العار أثر في تضامن الشعوب مع قضية فلسطين، ولا مشروعات التعاون الاقتصادية المشبوهة جعلت الناس يقبلون الوجود “الإسرائيلي” بأراضيهم.

كانت هذه الحقيقة واضحة وضوح الشمس في كل الجدل الذي صاحب رحيل شيرين أبو عاقلة أمس، ففي كل “تدوينات” وتصريحات وبيانات النعي والتضامن كانت لغة رفض إسرائيل لا تخطئها عين،

وكان رفض الاحتلال وتحميله كل الجرائم على مدار سنوات هو الذي اجتمع عليه كل الذين صدمهم الرحيل المفاجئ لصحفية عربية محترفة ومهنية.

كشفت شيرين الحقيقة وهي تغيب مثلما عودتنا أن نسمع في صوتها المميز حقائق كل ما يجري في فلسطين المحتلة، وهنا كانت الحقيقة اللافتة أن وسائل الإعلام أضحى تأثيرها كبيراً بما يفوق تصوراتنا جميعا.

فقد كانت التغطية الإخبارية التي قدمتها قناة الجزيرة أمس عاملاً مهماً في نقل جريمة قتل شيرين أبو عاقلة للعالم، وفضح الاحتلال وجرائمه، وعنصراً ضاغطاً على كل الدول والأنظمة والمؤسسات في العالم، هؤلاء جميعاً سارعوا إلى إدانة جريمة الاغتيال وطالبوا بتحقيقات جادة وشفافة، حتى أننا رأينا للمرة الأولى قادة “إسرائيل” يصدرون البيانات والتصريحات التي تنفي مسئوليتهم عن الاغتيال وتؤكد انهم سيفتحون تحقيقاً حول الحادثة، فبقدر ما واصلت الجزيرة ضغطها وتغطيتها للجريمة أمس كانت التصريحات والإدانات تتوالى، ففي قلب كل محنة هناك منحة يمكن أن تظهر، فقد ظهر بالأمس للعالم أجمع أن الصحفيين في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية يعيشون في أجواء صعبة ومناخ غير طبيعي يؤدي أحياناً بالصحفي إلى أن يفقد حياته، وكانت الإدانات الدولية تمزج بين رفض حادثة الاغتيال وبين ضرورة احترام  الصحفيين وتوفير أجواء آمنة لهم خلال ممارسة عملهم، وكأن هذه المواقف والتصريحات هي هدية أبو عاقلة لزملائها الذين يعملون في أجواء غير عادلة وغير إنسانية، هذه الهدية قدمتها شيرين بحياتها لتعيش خالدة وسط كل الذين يمارسون مهنة البحث عن المتاعب.

اقرأ أيضًا: صحفيو فلسطين.. رُسُل الحقيقة يتحدثون تحت القصف

ثلاث حقائق مهمة وغالية قدمتها شيرين أبو عاقلة بعد أن رحلت، قالت في وسط أحزان الرحيل أن الصحفيين يدفعون الأثمان في هذه المنطقة من العالم، وأن فلسطين هي قضيتنا الخالدة، وأن الإعلام قوة لا يستهان بها إذا أراد أن يمارس حقه ودوره في كشف الحقائق ومخاطبة العالم باللغة التي يفهمها، كلها حقائق كانت تستحق أن نتذكرها جميعا في هذه اللحظة، وللأسف فإن ثمن التذكير بهذه الحقائق كان حياة زميلة غالية سيصعب علينا جميعا أن نفقد صوتها المخلص ودفاعها النبيل عن فلسطين وهي تكشف الحقيقة لتقدمها للعالم.