لن أنسى أبدا حجم الدمار ولا الشعور بأن الموت كان أحيانًا على مسافة قريبة. لم نكن نرى بيوتنا. كنا نحمل الكاميرات ونتنقل عبر الحواجز العسكرية والطرق الوعرة. كنا نبيت في مستشفيات أو عند أناس لا نعرفهم.. ورغم الخطر كنا نصر على مواصلة العمل.. في اللحظات الصعبة تغلبت على الخوف فقد اخترت الصحافة كي أكون قريبة من الإنسان. ليس سهلا ربما أن أغير الواقع لكني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم“.

وكأنها مرثاتها الذاتية التي لم تعلم بأنها ستجوب العالم بصوتها. صوت ضميرها المتكلم الذي بات غائبا…  تُتم: “أنا شيرين أبو عاقلة“.

ينطلق صوت الرصاصات. تهتز الكاميرا وتتراجع خطوة للخلف. تعلو أصوات غير مفهومة، ثم… شيرييين شيرييين إسعاااااف إسعااااف. صراخ مرتبك، ترتبك معه دواخلنا. تتحرك الكاميرا مجددا لنطالع المشهد: شيرين ملقاة على وجهها وإلى جوارها زميلتها شذا لا تستطيع حتى أن تمد يدها لها من غزارة الرصاص.

تتوقف العدسة للحظة لتُثبّت المشهد وتعيد الذكرى. ما إن ترى شيرين حتى تتذكر الدُرة.

غريبةَ هي الرمزية حين تتكرر بحذافيرها، وغريبةَ حين تتزامن مع ذكرى النكبة. وكأن الرسالة تُبلغنا: إن الذكرى تنفع المؤمنين. وعلّها تُبرئ أكمه اختار أن يصافح القاتل ويصادقه فعرى ظهورنا للرصاص.

غريبةَ هي الرمزية حين تتكرر بحذافيرها، وغريبةَ حين تتزامن مع ذكرى النكبة.
غريبةَ هي الرمزية حين تتكرر بحذافيرها، وغريبةَ حين تتزامن مع ذكرى النكبة.

حين تُستهدف الكلمة فيتدلى حرفُها الأخير نازفا

تقول شذى حنيشة -التي ظهرت عاجزة عن التحرك إلى جوار شيرين- عن كواليس ما حدث “كنا أربعة صحفيين كنا جميعًا نرتدي سترات وكلنا نرتدي الخوذ”. ورغم ذلك فإن القوات الإسرائيلية لم تتوقف عن إطلاق النار حتى بعد سقوطها. لم أستطع حتى أن أمد ذراعي لسحبها بسبب الطلقات. كان الجيش مُصرّا على إطلاق النار من أجل القتل“.

كانت آخر رسالة أرسلتها أبو عاقلة إلى الجزيرة هي رسالة بريد إلكتروني في الساعة 6:13 صباحًا بالتوقيت المحلي (03:13 بتوقيت جرينتش). كتبت فيها: “قوات الاحتلال تقتحم جنين وتحاصر منزلاً في حي الجابريات. في الطريق إلى هناك، سأوافيكم بالأخبار بمجرد أن تتضح الصورة“.

ولكنها لم توافينا بالأخبار، وباتت هي الخبر. اغتالوها مرةً كونها فلسطينية ومقدسية، ومرةً بصفتها صحافية تحمل رسالة مهنية وهي نقل الحقيقة والواقع في فلسطين.

اقرأ أيضًا: شيرين أبو عاقلة.. الحياة والموت من أجل الصحافة

يضعنا علي السمودي المنتج التلفزيوني الذي رافق أبو عاقلة في لحظاتها الأخيرة وأصيب برصاصة في أعلى الظهر “ما حصل أننا كنا في طريقنا لتصوير عملية الجيش. فجأة أطلقوا علينا النار، لم يطلبوا منا أن نخرج، لم يطلبوا منا التوقف، أطلقوا النار علينا“. وأضاف في تسجيل مصوّر وهو يجلس على كرسي متحرك في المستشفى وتظهر الضمادات على كتفه “رصاصة أصابتني، الرصاصة الثانية أصابت شيرين. قتلوها بدم بارد لأنهم قتلة. لم تكن هناك أي مقاومة، ولو كان هناك مقاومون لما كنا ذهبنا إلى هذه المنطقة“. فيما يشرح الشاب الذي سحب جثتها وأوصلها للمستشفى أن رصاصات الجيش الإسرائيلي كانت تنطلق صوبهم وقت محاولته سحبها.

في الشهر الماضي، قدمت مجموعات صحفية دولية وفلسطينية شكوى رسمية إلى المحكمة الجنائية الدولية تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب ضد الصحفيين واستهدافها بشكل منهجي للصحفيين العاملين في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، فضلا عن الفشل في التحقيق بشكل صحيح في مقتل العاملين بوسائل الإعلام.

وفقا لمنظمة “مراسلون بلا حدود فإنه منذ عام 1992، قُتل 24 صحفيا في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، 14 منهم على الأقل لأنهم وقعوا في مرمى النيران. وبحسب ناصر أبو بكر، من نقابة الصحفيين الفلسطينيين، فإن شيرين هي الصحفي/ة الفلسطيني/ة الخامسة والخمسون التي تُقتل على يد قوات الاحتلال منذ عام 2000.

تقول “ميدل إيست مونيتور” إن الحقيقة الصارخة هي أن دولة الاحتلال مسموح لها أن تتصرف بحصانة، وأن تفلت من العقاب حرفيا. وتتابع “نعلم جميعا، كما تعرف إسرائيل، أنه لن تكون هناك تداعيات دولية لمقتل شيرين أو أي فلسطيني آخر. على الرغم من الكلمات النبيلة للسفير الأمريكي [الذي دان الواقعة لحملها الجنسية الأمريكية] فإن بلاده هي التي تمنح إسرائيل الحماية الدبلوماسية إلى جانب 3 مليارات دولار من المساعدات العسكرية كل عام. هذا الذي يمكّن دولة الاحتلال من إطلاق النار على المدنيين الفلسطينيين وقتلهم وتشويههم بشكل يومي”.

وتتساءل: “هل سيكون هناك تحقيق إسرائيلي بمفرده أو بالاشتراك مع السلطة الفلسطينية؟ لقد بدأ الجيش بالفعل في تبييض سمعته من خلال التلميح إلى مقتل أبو عاقلة بنيران فلسطينية. بينما قال المتحدث العسكري ران كوخاف لراديو الجيش الإسرائيلي إن الفلسطينيين أخذوا جثة أبو عاقلة لدفنها ورفضوا إجراء تشريح مشترك للجثة لتحديد سبب الوفاة. لقد أغلق الباب عمليا أمام أي تحقيق إسرائيلي محتمل”.

 

كانت تُسمى صوت فلسطين .. صارت تُسمى صوت فلسطين

تخبرنا داليا حاتوقة، الصديقة المقربة لأبو عاقلة، أنها ساعدت في إلهام نساء فلسطينيات أخريات لدخول مجال الصحافة “أعرف الكثير من الفتيات اللواتي نشأن بشكل أساسي يقفن أمام المرآة ويمسكن بفرشاة شعرهن ويتظاهرن بأنهن شيرين. هكذا كان وجودها دائما ومهما”.

“كانت شيرين رائدة، وهي مصدر إلهام لنا جميعا. كانت أكثر بكثير من مجرد وجه قناة الجزيرة في فلسطين”. وتُعرّفنا على صديقتها “كان لديها ضحكة مُعدية. أحبت السفر ورؤية العالم والتسوق والحفلات. فقدت والدتها ووالدها عندما كانت أصغر سنا وشهدت الكثير من القسوة في العالم، وخاصة في فلسطين، لكن هذا لم يمنعها أبدا من تقدير الحياة والاستمتاع بها“.

“أنا أحب السفر”، تقول شيرين في حوار سابق، “لكني وبحكم عملي لا أتمكن من السفر كثيرا.. منذ اندلاع الانتفاضة بت أحب السفر أكثر، ليس هروبا، بل للعيش كباقي البشر ولو لبضعة أيام.. أخرج وقتما أشاء وأينما أشاء من دون احتلال يجثم فوق صدري“.

كمراسلة ميدانية، غطت أبو عاقلة الأحداث الكبيرة والصغيرة، من حروب غزة في أعوام 2008 و2009 و2012 و2014 و2021 إلى عملية الهروب الجريئة لستة فلسطينيين فروا من سجن جلبوع  شديد الحراسة. كما غطت الأخبار الإقليمية، بما في ذلك الحرب في لبنان عام 2006.

صوت فلسطين الجميل لقصص مؤلمة: عن شيرين

وتذكر حاتوقة إنه في ذروة الانتفاضة الثانية قلّدها بعض الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يتجولون في مدينة رام الله وهم يصرخون من مكبرات صوتهم الشهيرة: شيرين أبو عاقلة، الجزيرة، رام الله.

كان صوتها جميلا جدا، حتى عندما كانت تروي قصصًا مؤلمة“.

المصور الصحفي هشام أبو شقرة حكى قصة طريفة توضح مدى الإلهام والتأثير الذي صنعته شيرين في علاقتها مع المشاهد. فقد قالت إنها تريد أن تكون قريبة من الناس، وقد كانت “جدي كان مولعا بسماع تقارير أبو عاقلة حتى أنه نذر إن ما رزق بحفيدة، سيسميها بشيرين محبة فيها”. وفعلا رزق الجد بحفيدة عام 2004 وأسماها “شيرين” وكان عندما يداعبها ينادي عليها “شيرين أبو عاقلة”. كبرت شيرين وتزوجت ولا يزال الجد يناديها بـ”شيرين أبو عاقلة”.

لم تترك شيرين قرية أو مدينة أو مخيما فلسطينيا إلا وأعدت عنه أو منه قصة صحفية، وهذا الصباح كتب الكثيرون أنها كانت في كل بيت فلسطيني طيلة العقود الثلاثة الأخيرة.

أصيبت برصاص الاحتلال أكثر من مرة وفي أكثر من موضع. فقد عرفت بشجاعتها وإقدامها لإظهار الحقيقة. وعربيا، كان آخر تغطية شاركت بها في مصر قبل عدة أشهر، حيث كانت من أوائل الصحفيين الذين انتقلوا هناك عقب إعادة فتح مكتب قناة الجزيرة في القاهرة، وظلت هناك بضعة أسابيع قبل أن تنتقل للعاصمة القطرية الدوحة، كما برزت في تغطية عدة أحداث عالمية، ومن بينها الانتخابات الأميركية السابقة.

خلال حضورها الأخير للتغطية بالمدينة، قالت شيرين إن “جنين حالة كبيرة، جنين معنويات عالية“، مشيرة إلى خطورة الأوضاع هناك والتي تطلبت من مكتب الجزيرة الوجود المستمر في المنطقة، وكانت طواقمها تتناوب على التغطية في مخيم جنين ومحيطه.

يكتب بلال الشوبكي أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخليل “شيرين كانت على ثغرة من ثغور الوطن منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية.. كبرت معنا وفينا كلّما مسّ فلسطين الأذى، وكلّما تنفّست الأمل. كانت صوتا أنقى من أن يُقيّم، وصورة أبهى من أن تُنتقد، هي بنت كل بيت فلسطيني وأخت كلّ لاجئ ورفيقة كل ثائر وكلمة حقّ في وجه كل جائر“.

وتنعيها الأسيرة المحررة خالدة جرار قائلة: “كانت شيرين صوتي دائما من زنازين السجن“، مضيفة أنه بعد شهر من اعتقالها الأخير من قبل إسرائيل، كانت شيرين أول شخص رأته في جلسات المحكمة “كانت شيرين صوتنا. إنه أمر لا يصدق. إنها جريمة، كل شيء واضح: استهداف مقصود ومباشر. تم استهدافها”.

من خلال دموعها، تصف زميلتها نداء إبراهيم، أبو عاقلة بأنها إنسانة “فريدة” و”مشهورة جدا لكنها متواضعة”. عرفت شيرين القصة بالكامل وفهمت الفروق الدقيقة “لقد جلبت ثروة من المعلومات لتقاريرها”. وتتحدث نداء أنه في وقت وفاتها، كانت تتعلم العبرية من أجل فهم روايات وسائل الإعلام الإسرائيلية بشكل أفضل، وكانت قد أنهت للتو دبلوم الإعلام الرقمي. “إنها ليست فقط من المحاربين القدامى الذين كانوا هنا يغطون القصة لسنوات، ولكن أيضا شخص كان حريصا على مواصلة التعلم والاستمرار في تقديم التقارير باستخدام وسائل جديدة“.

ليست فقط من المحاربين القدامى الذين كانوا هنا يغطون القصة لسنوات، ولكن أيضا شخص كان حريصا على مواصلة التعلم والاستمرار في تقديم التقارير باستخدام وسائل جديدة
ليست فقط من المحاربين القدامى الذين كانوا هنا يغطون القصة لسنوات، ولكن أيضا شخص كان حريصا على مواصلة التعلم والاستمرار في تقديم التقارير باستخدام وسائل جديدة

مانيفستو شيرين أبو عاقلة

تتذكر شيرين زيارتها مخيم جنين في مارس/آذار 2002 قبل تدميره ثم بعد شهرين من ذاك التاريخ أثناء تغطيتها خبر زيارة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات للمخيم. تقول: “في الحقيقة كان الأمر في غاية الصعوبة إذ يصعب عليّ التعبير عنه بالكلمات، بت أبحث عن المنازل التي زرتها وعن الأشخاص الذين قابلتهم في الزيارة الأولى، لكن عبثا، فخريطة المكان اختلفت كليا، هذا إن بقيت هناك خريطة، كما أن الكثير من هؤلاء الناس إما استشهدوا وإما جرحوا وإما كان لا يزال مصيرهم مجهولا في ذلك الوقت”.

اشتهرت شيرين خلال تغطيتها لما عرف بـ”الاجتياح الكبير” أو “عملية السور الواقي”، عندما كانت ترافق الفلسطينيين في معاناتهم جراء اجتياح قوات الاحتلال الإسرائيلي لجميع مدن الضفة الغربية، وقراها، ومخيماتها.

وتشير أبو عاقلة “كانت فترة غاية في الصعوبة، أثرت سلبا في نفسية جميع الفلسطينيين، نحن عشناها كفلسطينيين قبل أن نعيشها كصحافيين.. لا أتذكر أنه مرّ عليّ في حياتي فترة أكثر إيلاما من تلك الفترة.. وعلى رغم الظروف الصعبة التي نعيشها كان علينا أن نوازن بين مشاعرنا وبين مهنيتنا كصحافيين قدر الإمكان.. الصعب في تلك الفترة أننا كنا “التيرمومتر” الحقيقي لما يجرى على الساحة بالنسبة إلى الفلسطيني والجمهور الخارجي، فالكثير من المسؤولين كان يتعذر عليهم الظهور على الشاشة في نقل حي ومباشر، وبالتالي كانت تعابير وجوهنا “الفاضحة” أحيانا هي المؤشر الذي يستند إليه الكثير من الفلسطينيين، الذين كانوا في شوق لمعرفة إلى أين ستنتهي الأمور.

كنا نحاول أن نخفي الألم الذي يعتصرنا مما نسمع ونعيش، وكنا نحاول عدم إظهار مشاعر الخوف والرعب التي كانت تنتابنا بين فترة وأخرى، كي لا نرهب المشاهدين، ونتسبب لهم بمزيد من الحزن والأسى والرعب.. كان هذا الدور في غاية الصعوبة، لكنه مهم لتماسك شعبنا في تلك الفترة العصيبة.

كنا ننام في المكتب بطبيعة الحال، حيث خُصصت غرفة للفتيات.. كنا دائما على أهبة الاستعداد حتى أننا في كثير من الأحيان ننام بأحذيتنا خوفا من اقتحام مفاجئ، لا سيما أن جنود الاحتلال اقتحموا الكثير من المكاتب الإعلامية”.

وتشعر شيرين التي تحب الاستماع إلى الأغاني القديمة، ولا سيما أم كلثوم، بالأسف على جيل الشباب في فلسطين، كون الاحتلال يحرمهم من العيش في شكل طبيعي، فهم تواقون للسهر، والنوادي، والمقاهي، والحفلات الغنائية، والسينما، والمسرح.. بل والتجول بحرية، لكن كل ما هو عادي ومألوف خارج فلسطين ليس عاديا داخلها، مع وجود الاحتلال.

ركزت شيرين في الكثير من تقاريرها على الجانب الإنساني من حياة الفلسطيني، وحول ذلك تقول: “إنه أمر نابع من إدراكي أهمية التركيز على النواحي الإنسانية في الخبر لا الإخبارية البحتة، والتي أعتقد أنها باتت لا تؤثر في الكثير من المشاهدين. فخبر استشهاد عدد من المواطنين، أو اجتياح منطقة، أو هـدم منازل الفلسطينيين، أو مصادرة الأراضي، أو اعتقال العشرات، بات يمر مرور الكرام على الكثيرين”.

كنا دائما على أهبة الاستعداد حتى أننا في كثير من الأحيان ننام بأحذيتنا خوفا من اقتحام مفاجئ
كنا دائما على أهبة الاستعداد حتى أننا في كثير من الأحيان ننام بأحذيتنا خوفا من اقتحام مفاجئ

وهي وتدرك أن “العمل تحت الخطر هو لُب العمل الصحفي”. والكلمات الآتية يمكن أن تقرأها بصوتها:

كنا أول محطة حاورت الرئيس الراحل ياسر عرفات عبر الهاتف عندما حاصرته قوات الاحتلال الإسرائيلي وعبر أثيرها انطلقت عبارته الشهيرة “يريدوني أسيرا واقول لهم شهيدا شهيدا شهيدا”. لقد واكبنا مع باقي زملائنا حصاره ووفاته، وكنا أول من كشف عن حقيقة أنه توفي مسموما وهو ما حرك ملف التحقيق في أسباب وفاته.

ورغم الانشغال العام في ثورات بعض الدول العربية كما يطيب للبعض تسميتها والمؤامرات ضد أخرى كما يطيب للبعض الآخر أن يطلق عليها، فقد حرصنا في مكتب فلسطين أن نبقي الموضوع الفلسطيني حاضرا في نشرات الأخبار.. لم نترك انتهاكا لقوات الاحتلال أو المستوطنين إلا ولاحقناه.. لم نترك قرية أو أرضا مهددة إلا واتجهنا إليها.. لاحقنا كل قصة أسير، بل لم نترك مهرجانا لم نحاول من خلاله إبراز الوجه المكمل للفلسطيني.

اقرأ أيضًا: الموت صحفيًا.. تقتلك رصاصة وتبقيك الكلمة

لا أقول ذلك مزايدة فهذا واجبنا تجاه المهنة التي اخترناها قبل كل شيء لا ننتظر شكرا من أحد عليه، وتحملنا على مدى وقت طويل كم الهجوم على طواقمنا وكلمات السب في أحيان متعددة، وأغلقت أمامنا الكثير من الأبواب والبيوت وتعاملنا مع كل ذلك بصدور رحبة لأننا نؤمن بحرية التعبير.

لا أذكر ظرفا مرّ عليَّ خلال سنوات عملي في الإعلام منعني من ممارسة مهنتي يوما، حتى في أصعب الأوقات التي فرض خلالها الاحتلال حظر التجول على المدن الفلسطينية، أو أصدر أوامر عسكرية تمنع دخول مدن وقرى اجتاحتها قواته، لا شيء كان يحول دون عملنا كصحافيين.

بعد الانتفاضة الثانية شاركت في تغطية ثلاثة حروب شنتها إسرائيل على غزة، وواحدة على لبنان كنا على الحدود، لم يمنعنا الخوف من الصواريخ والطيران أن نكون في أقرب نقطة من الحدث، تحدينا أوامر جيش الاحتلال وبحثنا عن طرق ترابية بديلة للدخول إلى المدن التي أعلنها الاحتلال مناطق عسكرية مغلقة.

الحقيقة الراسخة في رأيي أن الإعلام يظل قادرا على توجيه وإعادة النظر في بعض سياسات وقرارات الحكومات.

وأعتقد أن السبب في اتجاهي نحو هذه المهنة، هو ما تحتويه من تعامل يومي وتلقائي مع الناس “العاديين”، ما يجعلني قريبة من مشاكلهم اليومية. أما الأنوثة فهي شيء فطري، ولا يمكن للأخبار أن تلغيها، قد تخفيها لبعض الوقت، لكن بالنسبة إلي أنوثتي طافية على السطح من خلال إحساسي بالتقارير التي أعدها، فالحساسية العالية لا سيما تجاه القصص الإنسانية هي من أهم صفات الأنثى، وأعتقد أنها ميزة قد يفتقدها الكثير من الصحافيين الذكور.

يقاتل الصحفي الفلسطيني جنبا إلى جنب مع أخيه الفلسطيني الذي يقاتل بالسيف… نحن نقاتل من أجل الوصول إلى الحقيقة وليس أي شيء آخر.. ولكل صحافي الحق في التطور وتحقيق طموحاته الصحافية، وفي الوقت ذاته الدفاع عن قضيته التي يؤمن بها عبر أكثر من منبر.

نحن نقاتل من أجل الوصول إلى الحقيقة وليس أي شيء آخر
نحن نقاتل من أجل الوصول إلى الحقيقة وليس أي شيء آخر