لم يكن استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي للأطقم الصحفية والإعلامية الفلسطينية، أثناء تغطية اقتحام مخيم جنين مؤخرا. والذي أسفر عن استشهاد الصحفية شيرين أبوعاقلة. برصاصة مباشرة ما بين الخوذة التي ترتديها فوق رأسها، والواقي ضد الرصاص المدون عليه بشكل واضح ما يشير لطبيعة عملها الصحفي. حادثا عرضيا كما يسعى جيش الاحتلال لتصديره للرأي العام العالمي، بل نتاج عمل مقصود وممنهج. وثقته تقارير محلية فلسطينية وأخرى دولية على مدار عقود.

استهداف إسرائيل للمؤسسات الإعلامية كان دائما عن سابق إصرار. لأن تدفق المعلومات في الساحة المستباحة من قبل القوة الغاشمة، تصنف أولوية استراتيجية بالنسبة لجيش الاحتلال. على مستوى فرز المعلومات وفلترتها. ضمن إطار صناعة “قبة إعلامية” مساندة للقبة الحديدية العسكرية.

تاريخ المواجهة بين الفلسطينيين وسلطات الاحتلال، ملطخ بدماء الصحفيين والإعلاميين. الذين كانوا دائما هدفا رئيسيا لجنود الاحتلال خلال المواجهات المختلفة لطمس الحقيقة. وإخفاء الجرائم بحق المدنيين والأطفال، والمنشآت الخدمية والمدنية التي تحظى بحماية فرضتها المواثيق والأعراف الدولية .

تزايد المنحى التصاعدي في العدوان الإسرائيلي على المؤسسات الإعلامية، والصحفيين الفلسطينيين. هدفه الأساسي الإفلات من العقاب الذي أطلق يد الضباط الإسرائيليين. نتيجة تزايد قوة تأثير الصورة وبالتالي رغبة إسرائيل في تفادي مواد إعلامية تشوش على روايتها. ما قد يشكل رأيًا عامًا مناهضًا لممارساتها القمعية، إضافة  لشل قدرات وسائل الإعلام لمدة طويلة. و تحييد دورها ودور صحفييها عن التحرك في ساحة إنتاج الخبر والصورة.

اقرأ أيضا: شيرين أبو عاقلة.. هل اتضحت الصورة؟

24 شهيدا إعلاميا خلال تغطية 82 يوما من المواجهات

وفقا لتقرير صادر عن المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية بعنوان “أثر الحصار الإسرائيلي على وسائل الإعلام في قطاع غزة”. ارتكبت قوات الاحتلال خلال حملاتها العسكرية على قطاع غزة أعوام 2008 و2012 و2014. ما مجموعه 191 اعتداء استهدف الصحفيين أو المؤسسات الإعلامية.

ووفقا للتقرير، فإن مجموع هذه العمليات العسكرية الثلاثة الذي بلغ 82 يومًا. استهداف 61 مقرًا لمؤسسات إعلامية فلسطينية وعربية وأجنبية، أضيفت إلى الخسائر البشرية في صفوف الصحفيين، الذين سقط منهم 24 قتيلًا.

شهادة الصحفي علي السمودي خلال الواقعة الأخيرة التي شهدت استشهاد أبو عاقلة. تؤكد ما وثقته كافة التقارير الدولية بشأن النهج الإسرائيلي، مؤكدا إنه كان يتواجد برفقة أبو عاقلة ومجموعة من الصحفيين في محيط مدارس وكالة الغوث قرب مخيم جنين. وكان الجميع يرتدي الخوذ والزي الخاص بالصحفيين.

السمودي، الذي أصيب بطلق ناري، أوضح  أن قوات الاحتلال استهدفت الصحفيين بشكل مباشر. ما أدى إلى اصابته برصاصة في ظهره، واستشهاد زميلته بطلقة في الرأس. مشددا أن المكان الذي كان يتواجد فيه الصحفيون واضحا لدى جنود الاحتلال، وأنه لم يكن هناك أي مسلح أو مواجهات في تلك المنطقة. وان استهدافهم جرى بشكل متعمد.

غطاء سياسي لانتهاكات المستوى العسكري الإسرائيلي

ما رواه في وقت سابق الصحفي الفلسطيني أنس غنايم، يعد شهادة أخرى تمثل دليل دامغ على أن سقوط الصحفيين خلال العمليات الإسرائيلية ليس أمر عرضيا. وإنما نهج ثابت يسير عليه جنود الاحتلال وعناصره الأمنية.

ويقول غنايم  إنه عندما كان يوثق الاحتجاجات التي شهدتها مدينة أم الفحم بالداخل الفلسطيني. العام الماضي “تعرضنا كمجموعة من الصحفيين لوابل من الرصاص المطاطي وقنابل الغاز بشكل مقصود. عندما كنا نوثق اعتداءات وتنكيل عناصر من وحدة المستعربين على شبان ممن تم اعتقالهم خلال قمع الفعاليات النضالية”.

في مقابل ذلك، يؤكد عضو نقابة الصحفيين الفلسطينيين عمر نزال. إن استهداف الصحفيين الفلسطينيين أمر مغطى من قبل المستوى السياسي الإسرائيلي. وما يدلل على ذلك تصريحات عضو الكنيست المتطرف بن غفير بأنه يؤيد إطلاق النار على كل صحفي يعيق عمل الجنود.

يضاف لذلك ما قاله مدير مكتب الجزيرة في فلسطين، وليد العمري. خلال مؤتمر صحفي في نابلس في أعقاب اغتيال زميلته شيرين أبو عاقلة. بأن الاحتلال قتل 55 صحفيا فلسطينيا خلال قيامهم بعملهم الصحفي منذ انتفاضة الأقصى عام 2000.

مع بداية العام الجاري، وثق المركز الفلسطيني للحريات والتنمية “مدى” 100 انتهاك ضد الصحفيين. معظمها خلال شهر أبريل/نيسان الماضي وحده. تركزت ضد الصحفيين في القدس المحتلة ومخيم جنين. خلال تغطيتهم للمواجهات بين المقدسيين وجنود الاحتلال ، والمستوطنين.

استهداف المقرات الصحفية

المركز نفسه  رصد خلال عام 2021 ما يزيد على 368 انتهاكا، من بينها 155 انتهاكا مباشرا بين إصابات وقتل. حيث استشهد 3 صحفيين خلال العدوان على قطاع غزة في مايو/أيار الماضي. و هم( محمد شاهين، وعبد الحميد الكولك، ويوسف محمد أبو حسين).

ويقبع في سجون الاحتلال، حسب نادي الأسير الفلسطيني، 16 صحفيا. من بينهم الصحفي محمود عيسى المعتقل بسبب عمله الصحفي منذ عام 1993، والصحفية بشرى الطويل من مدينة البيرة. التي اعتقلت خلال السنوات الماضية 6 مرات.

وفي العام الماضي أيضا، قصف الاحتلال 33 مقرا صحفيا في قطاع غزة خلال العدوان، بعضها تم تدميره كليا. وكان المشهد الأبرز الذي جرى أمام العالم أجمع، استهداف برج الجلاء في وسط قطاع غزة في الخامس عشر من مايو/أيار 2021. والذي كان يتكون من 13 طابقا ويضم مكاتب شبكة الجزيرة ووكالة “أسوشييتد برس” الأمريكية ، بزعم أن المبنى كان يستخدم في أغراض عسكرية من جانب حركة حماس ، وهو الأمر الذي تأكد زيفه.

كما استهدف سلاح الجو الإسرائيلي، في اليوم الثاني من العدوان، برج الجوهرة في قلب غزة. مما أدى إلى تدمير 12 مقرا إعلاميا، منها مكاتب صحيفة فلسطين وقنوات العربي والمملكة. وفي اليوم ذاته، قصف الاحتلال برج الشروق الذي ضم 6 مؤسسات إعلامية، منها مقر فضائية وإذاعة الأقصى وقناة فلسطين اليوم.

استهداف إسرائيلي للرواية الرقمية

مساعي حكومات الاحتلال المتعاقبة  لطمس الحقيقة ، وفلترة المادة الصحفية الإعلامية الخارجة من الساحة المستباحة من جانب جنودها ، لم تقتصر على استهداف مقرات المؤسسات الإعلامية،و الاعتداءات الجسدية على الصحفيين الفلسطينيين وانتهاك حقوقهم؛ بل تصاعد العدوان الإسرائيلي على الرواية الرقمية، وشمل أيضا الاعتداء على المحتوى والمضامين الإعلامية الفلسطيسنية على شبكات التواصل الاجتماعي ، وهو ماوثقه المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي في حيفا ، في تقرير بعنوان “العدوان على الحقوق الرقمية الفلسطينية” ، وتضمن رصد أكثر من 500 بلاغ للحقوق الرقمية الفلسطينية.

ورصد التقرير خلال العام الماضي الانتهاكات الإسرائيلية على المحتوى الفلسطيني على منصات التواصل الاجتماعي  بشكل مفصل ، حيث جاء 50% من هذه الانتهاكات على منصة “إنستغرام” و35% على منصة “فيسبوك،بينما وثق ما نسبته 11% من مجمل الحالات على منصة “تويتر”و1% منها على “تيك توك” .

كما رصد التقرير شطب الكثير من المنشورات والتغريدات والمحتوى الإعلامي عن الانتهاكات بحق سكان حي الشيخ جراح والأحداث بالقدس، والاحتجاجات ببلدات الداخل الفلسطيني، واعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، والعدوان العسكري على غزة ، مؤكدا أن وحدة “السايبر” (cyber) التابعة لوزارة القضاء الإسرائيلية، هي التي تقف خلف هذه الانتهاكات.

الجنائية الدولية تنظر في استهداف “سترات الصحافة”

مطلع إبريل الماضي تقدم الاتحاد الدولي للصحفيين ونقابة الصحفيين الفلسطينيين والمركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين بالتنسيق مع محامين رائدين في مجال حقوق الإنسان من مؤسستي بايندمانز ودوتي ستريت تشامبرز القانونيتين بشكوى المحكمة الجنائية الدولية، تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب بسبب استهدافها للصحفيين الذين يعملون في فلسطين وتقاعسها عن التحقيق في عمليات القتل التي يتعرض لها العاملون في وسائل الإعلام.،

وفي الخامس والعشرين من الشهر نفسه أعلن مكتب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية رسميا عن استلامه الشكوى التي تم  تقدم بها نيابة عن 4 ضحايا هم أحمد أبو حسين وياسر مرتجى ومعاذ عمارنة ونضال اشتية الذين قتلوا أو أصيبوا من قبل قناصة إسرائيليين أثناء مظاهرات داخل قطاع غزة، وجميعهم كانوا يرتدون سترات مكتوبا عليها “صحافة” حينما أُطلقت عليهم النيران.

إسرائيل من جانبها كانت صريحة حد الفظاظة في رفض أي تدخل للمحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في ممارسات جيشها تجاه الفلسطينيين، خصوصًا خلال عدوان على قطاع غزة 2014، للحد الذي جعلها تتخذ موقعًا هجوميًا كلاسيكيًا بتصنيف تحركات النائبة العامة للمحكمة فاتو بنسودا “معاداة للسامية”.