أزمة كبرى صنعها أنصار تيارات الإسلام السياسي منذ الأمس وحتى الآن. إثر اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة، الصحفية الفلسطينية التي دفعت حياتها ثمنا لنضالها المستمر على مدى ربع قرن. في نقل حقيقة ما يحدث داخل الأرض المحتلة للعالم. ومع ذلك، رفض أغلب الإسلاميين نعتها بالشهيدة، أو حتى الترحم عليها. واعتبروها كافرة لايجوز ـ مهما حسّن عملها ـ مجاملتها على حساب ما يعتبرونه «ثوابت عقائدية».

بحسب مراقبون، أثبت قطاع ليس هينًا من التيارات الإسلامية بهذه التفاعلات أنهم أسرى لعقلية القبيلة. يحكمون على أنفسهم وبإرادتهم الكاملة بالاستبعاد الدائم -بغض النظر عن التنظيماتية- من أي تصور وطني مستقبلي. أو حوار حول مشاركتهم في دولة مدنية. مناقشة العقائد فيها وتصنيف الناس على أساس ديني أمر غير مطروح وغير مرحب به على الإطلاق.

 

ديانة شيرين.. الكهنوت الذي يرفضه الإسلاميون !

تسوق أغلب التيارات الإسلامية إيمانها بالدولة المدنية، التي لا كهنوت فيها ولا رئاسة مفروضة لرجل دين. ولا أحد يحكمها بناء على وحي من السماء. ونافست طويلا على السلطة في كل البلدان العربية، وجمعتها ببعض التيارات المدنية جهود مشتركة للتخلص من الأنظمة الاستبدادية السابقة. انطلاقا من هذه الفرضية.

لكن، مع أول اختبار حقيقي على الأرض، لم يقدم الإسلاميون إلا تصورات مأزومة عن المدنية للشارع العربي والإسلامي. بل وللمجتمع العالمي، قناعات وأفكار وممارسات لا يمكن تطبيقها إلا في دولة دينية ثيوقراطية. يحكمها النص الديني بتفسيرات شديدة التعقيد.

فلسفة الأزمة في العقل الديني

«من مات على غير الإسلام كثير، وأهم ما يمكن أن يقال في مثل موطن اغتيال الصحفية شيرين أبي عاقلة على يد الغدر الصهيوني. أنه لا بد من التفريق بين الدعاء بالمغفرة، وبين الدعاء بالرحمة لمن مات على غير الإسلام. وقد قدَّم خدماتٍ جليلةً للمسلمين». يقول الشيخ إحسان عاشور، مفتي محافظة خان يونس، المعتمد رسميا من وزارة الأوقاف الفلسطينية. محاولا تبريد الأزمة المشتعلة، ووضع تفسيرات مقبولة إنسانيا. تمتص الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي.

أوضح عاشور ما أن يسهب في الحديث محاولا التبرير إلا ويُوقع نفسه في نفس الإشكالية. بسبب التعثر في التفريق بين العام والخاص، وأكد أن طلب الرحمة لغير المسلمين جائز؛ لأن الرحمة تقتضي «تخفيف العذاب» نظير ما قدم من خدمة للمسلمين، لكن هذا شيء والاستغفار أمر آخر، لإنه يستلزم طلب الغفران العام الذي يُدخِلُ الجنةَ، إذ أن الترحم لا يستلزم طلب دخول جنة ولا غفران ما لم يأذن الله بغفرانه كالكفر والشرك.

اختتم مفتي خان يونس حديثه بشيء من البراجماتية، وفضل نصح من سأله عن حرمانية الترحم على شيرين أبي عاقلة بـ«الصمت» . ذلك أفضل من حرف البوصلة عن جريمة المحتل، وتقديم خدمة مجانية له بذلك، حسب رأي عاشور.

رأي «الآخر» في الآزمة

كان طبيعيا أن تصل الرسالة الطرف الآخر المقصود بها، إذ تباينت ردود الأفعال حول الضجة المفتعلة تجاه ديانة الفقيدة بين المسيحيين في المنطقة، ومن بين الردود الغاضبة، لخص الصحافي بطرس الشيني ما يحدث، مؤكدا أن شيرين اغتالتها قوة غاشمة مرة، واغتالتها المحطة التي تعمل لها مرات عدة، عندما نقلت خبراغتيالها ورفضت الإشارة إليها كشهيدة.

أضاف: اغتالتها أيضا عشرات البوستات والتغريدات التي تسأل عن دين الضحية وجواز الترحم عليها من عدمه واختتم مستنكرا: أي مجتمع مشوه ذلك الذي صنعه العنف والتطرف !

الخاص والعام .. أزمة الإسلاميين الأزلية

مشكلة شيرين أبو عاقلة والسيولة في الكراهية وإثارة نقاشات عقائدية في لحظة إنسانية ووطنية نادرة بدافع الثوابت العقائدية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نقطة في بحر مما جرى للعقل الجمعي المصري والعربي بسبب التباس المفاهيم، وتشويه المعاني المدنية، واختراع أسس جديدة لايعرفها العالم أجمع.

يمكن القول ان الأزمة توحشت بشدة بعد نجاح ثورة 25 يناير، وإصرار الإسلاميين في أغلب تياراتهم، لاسيما صاحبة الشعبية والجماهيرية على التعامل بغموض شديد خلال استخدام مصطلح الدولة المدنية وتطبيقاته في الوقت الذي شنوا هجومًا شرسًا على أي تصور آخر يفرق بين العام الخاص، والمطلق والنسبي، لإقامة دولة حديثة بمعناها المتداول عالميا.

عن هذه الخلطة الغريبة، يقول جاد الكريم الجباعي، الكاتب والباحث في العلوم السياسية، وأحد مؤسسي لجان إحياء المجتمع المدني والحوار الديمقراطي في سوريا، أن الدولة المدنية التي تخوض في الأعراض والعقائد الدينية للمواطنين، مصطلح محلي وليس سياسي أو فقهي، ولا ينتمي أصلا إلى مجال العلوم أو الفلسفة السياسية، ويعود اختراعه إلى الإخوان المسلمين في الخمسينيات من القرن الماضي بعد ثورة 1952 لمقاومة جاذبية الدولة الاشتراكية التي جاءت بها الثورة.

الطغيان السياسي للإسلاميين

يوضح الباحث أن الإسلاميين عملوا طوال هذه السنوات على دس أفكار تؤكد الطبيعة المدنية للدولة الإسلامية فقط لمغازلة القوى السياسية والشارع العربي والإسلامي، بحيث يفهم كل على طريقته، المهم أن لا ينفصل الديني عن السياسي، وهو الخط الأحمر للتيارت الإسلامية، ومن أجل تعزيز هذه الرؤية شوهوا تماما أي مصطلحات آخرى على شاكلة الدولة العلمانية، في المجتمع المصري والمجتمعات العربية.

يضيف عبد الكريم: هناك حالة من الطغيان السياسي في تفسيرات الإسلاميين للدولة المدنية، إذ يريدونها على مقاس أفكارهم دون غيرهم، استنادا على الأغلبية العقائدية للمسلمين، لاسيما إذا حاولت الأحزاب أو الشخصيات المدنية الإصرار على إنشاء دولة محايدة أمام كل المواطنين، لا تنظر في عقائدهم الخاصة  ويفصل القانون وحده بين الجميع على أساس المواطنة دون تمييز.

يؤكد الباحث أن تطبيقات الإسلاميين للفكرة على الأرض ثبت أن المصطلح الذي اخترعوه بهذا المعنى ليس أكثر من تلفيق وخداع سياسي، فالدولة المدنية وتطبيقاتها ليست مصطلحات فارغة، بل مجال حدود وخيارات تعزز الطبيعة المدنية للدولة .

هدم الدولة المدنية

ما يقوله الجباعي يؤكد عليه سامح عيد، الخبير في شئون الجماعات الإسلامية، إذ يرى أن مصطلح الدولة المدنية عند الإسلاميين تعبير فضفاض يحمل الشىء ونقيضه، ويتضمن كل ما يهدم مبدأ الدولة المدنية من أساسه.

يوضح عيد أن هناك شبه إجماع بين الإسلاميين على اعتبار أنفسهم الفرقة الناجية، وهو ما ينعكس على تفاعلاتهم مع الأحداث، فالدولة المدنية التي يريدونها ليست أكثر من دولة شريعة، لاتعرف الحياد فى المسائل الدينية ونظرتهم للآخر، إذ لاينبغي لـ «الدولة المدنية» أن يصبح رئيسها مسيحيا أو امرأه.

لا ولاية فيها لذمي ولا لإمرأة، وهكذا ينتهي الحال إلى دولة تنطلق من التمييز بين المواطنيين وليس التسامح والحياد، يقول الباحث ويستكمل: أبناء التيارات الدينية لايعرفون معنى الدولة التى تستجيب لشروط العصر، ولايريدون الخروج من تصورات القبيلة والخلط بين الفقه والإسلام، ودولة ومجتمع المدينة.

اختتم سامح حديثه وأشار إلى أن دولة المساواة المطلقة والمواطنة لم تصل لهم، بل ما يشغلهم استدعاء عقود الذمة والإذعان على أنها الدولة المدنية المطلوب استعاداتها، ولهذا قصة شيرين أبو عاقلة ستظل حلقة في سلسة طويلة من معاداة هذه التيارات لأبجديات الدولة المدنية، وتفسر لماذا فجروا صراعا امتد منذ نجاحهم في تولي حكم العديد من البلدان خلال ثورات الربيع العربي ـ ولازال ـ طال العقيدة ونظرتهم تجاه الآخر، والمرأة، والتشريع، وكل شيء يمت للمدنية بأي صلة.