يتوجه الناخبون اللبنانيون غدا الأحد، إلى صناديق الاقتراع. وسط انهيار اقتصادي وصفه البنك الدولي بأنه “أحد أخطر ثلاث أزمات يشهدها العالم منذ خمسينيات القرن الماضي”. فقد واجهت البلاد عجزًا ماليًا، ووباءً، وشللًا سياسيًا لمدة عام. إضافة إلى واحد من أكبر التفجيرات غير النووية في التاريخ.
في هذه الانتخابات نجد رهانات كبيرة، لكن من غير المرجح أن يكون لعملية التصويت تأثير ملموس على المشهد السياسي في لبنان. رغم اصطفاف آلاف المغتربين اللبنانيين في طوابير طويلة تحت حرارة شديدة للتصويت للتغيير. حيث تشير استطلاعات -حتى الآن- إلى أن جميع الأحزاب السياسية الطائفية، المسؤولة عن تفكك الدولة والمجتمع، ستحافظ على تمثيلها بدرجات متفاوتة.
مع ذلك، من المتوقع أن تحقق شخصيات المعارضة اختراقات محدودة. فقد يفقد حزب تيار المستقبل -الذي يهيمن عليه السنة ويديره سعد الحريري- تمثيله في البرلمان. بسبب قرار الحريري بـ”تعليق” مسيرته السياسية. رغم أن رئيس الوزراء الأسبق يواصل حشد الدعم من المجتمع السني الذي يتزعمه منذ 2005.
المتابع لحسابات اللبنانيين على وسائل التواصل الاجتماعي سيجد اليأس يغمر الناس في جميع أنحاء البلاد. والحراك المحيط بالانتخابات يدار -في الغالب- من قبل كل ما تبقى من الطبقة الوسطى والنخب الشعبوية التي تقود الحملات الانتخابية للمعارضة. في بيروت، تفتقر المعارضة إلى النفوذ والاستراتيجية، وتعتمد في الغالب على التصويت الانتقامي. لأنها تضع نفسها كقوة خير في مواجهة قوى الشر التي حكمت البلاد لعقود. لكن، ببساطة، لا يمكنهم طرد الطبقة السائدة.
اقرأ أيضا: على حافة الإفلاس.. لبنان مُعلق على قشة صندوق النقد
انتخابات غير حاسمة
يشير بشار الحلبي، في مقاله ضمن تحليلات للمعهد الإيطالي لدراسات السياسة الدولية. إلى أنه قد تتغير نسبة صغيرة من النواب المنتخبين من برلمان 2018. لكن في الوقت نفسه ستحتفظ الأحزاب السياسية التقليدية بمقاعدها، مع استثناء واحد محتمل هو التيار الوطني الحر. وهو حزب الرئيس الحالي ميشال عون وابنه المدرج على العقوبات الأمريكية.
يقول: قد يُنظر إلى تصويت المغتربين في 8 مايو/أيار، والتصويت المحلي في 15 مايو/أيار. على أنهما بداية تحول في السياسة اللبنانية. ومع ذلك، لا يزال الانهيار الاقتصادي والأمني الكامل يلوح في الأفق بعد الانتخابات. بالنظر إلى عدم قدرة البنك المركزي على مواصلة تدخله النقدي.
يلفت الحلبي إلى أن الانتخابات المقبلة ستمثل طريقًا لا غنى عنه للبلاد. لمعالجة أمراضها المزمنة “غالبًا ما تتجه الدول إلى صناديق الاقتراع لإعادة إنشاء السلطة، وإضفاء الشرعية عليها بعد الأزمات الكبرى. لكن الوضع في لبنان أكثر تعقيدًا بكثير”.
الفرار من أجل الحياة
تكشف مأساة طرابلس -ثاني أكبر مركز حضري في لبنان- التي حدثت قبل أسبوعين، حقيقة مظلمة: يفضل اللبنانيون الغرق على زورق صغير أثناء فرارهم إلى أوروبا على البقاء في زورق وطنهم. قبل هذا، كانت فاجعة مثل هذه تحدث للسوريين الفارين من آلة الحرب التابعة لنظامهم، أو مواطني الدول الأفريقية الذين يحاولون الهروب من المجاعة. الآن، أصبح اللجوء إلى المراكب غير الشرعية مشهدًا طبيعيًا ومتكررًا في لبنان.
بالمثل، تشهد البلاد موجة هجرة كبيرة مع اتجاه تصاعدي على أساس سنوي. فقد أشارت دراسة أعدتها مؤسسة المعلومات الدولية. إلى أن عدد اللبنانيين الذي هاجروا عبر المعابر الرسمية منذ بداية عام 2021، حتى منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. بلغ 77 ألفا و777 شخصا، مقارنة بـ 17 ألفا و721 شخصا في عام 2020.
وبحسب الدراسة، فإن الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي يشهدها لبنان أدت إلى ارتفاع كبير في أعداد المهاجرين. وغادر هؤلاء البلاد بحثا عن فرصة عمل يفتقدونها في وطنهم، أو عن خدمات حياتية أساسية أصبحت شبه معدومة، كالكهرباء والمياه والصحة والنظافة.
ولفتت الدراسة إلى أن مجموع الذين هاجروا من لبنان خلال الأعوام الأربعة الأخيرة “2018–2021” وصل إلى 195 ألفا و433 شخص. ووفقا لإحصائية صادرة عام 2019 عن المؤسسة ذاتها، يبلغ إجمالي عدد اللبنانيين 5.5 ملايين نسمة، 1.35 مليونا منهم يقيمون خارج البلاد.
يلفت الحلبي إلى ان “المستويات الأسطورية للفساد، إلى جانب مجموعة شبه عسكرية، يقع ولائها خارج الحدود. والتي تجاوزت قوتها كل مؤسسة حكومية، إلى هذه الكارثة. بعد أن كان لبنان في يوم من الأيام نموذجًا للعالم العربي، حيث يقدم تعليمًا عالي المستوى، واستشفاء، وخدمات مالية، ومركزًا ثقافيًا”.
يُضيف: من المفارقات أن قطاع الصحة يدعم الحياة بفضل قرض من البنك الدولي. وقد تتجنب المؤسسات التعليمية التفكك، بسبب التبرعات الكبيرة من فرنسا والولايات المتحدة، وعدد قليل من الدول العربية. إن احتمالات التعافي السريع من الواقع الحالي قاتمة، مثل الظلام الذي يطغى على الأسر اللبنانية ليلاً، نتيجة لفشل الدولة في توفير الكهرباء.
اقرأ أيضا: بلد الممولين والسياسة الطائفية.. طريق “مفروش بالأشواك” أمام خروج لبنان من الأزمة الاقتصادية
حزب الله وصناعة الملوك في لبنان
تعززت عملية إعادة التوجيه الاستراتيجي للبنان -التي بدأت في عام 2005 بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري- في عام 2018. عندما انتصر حزب الله أخيرًا في الانتخابات البرلمانية. وصف قاسم سليماني -قائد فيلق القدس الإيراني الذي قُتل في ضربة أمريكية ببغداد- هذا الانتصار بأنه حول حزب الله من كونه “حزب مقاومة إلى جهة مقاومة”.
لكن، حزب الله تولى دور صانع الملوك في البلاد في عام 2016، على خلفية الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن. عندما نجح في تنصيب حليفه ميشال عون في القصر الرئاسي بواسطة “بندقية المقاومة”، ليصير كل نائب في البرلمان، ورؤساء الوزراء، بحاجة إلى بركات حزب الله. للحصول على الترشح وتشكيل الحكومات.
قدمت احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019. المعروفة بشعار “طلعت ريحتكن”. لمحة من الأمل تآكلت بسرعة، بسبب الحركة المضادة للثورة بقيادة القمصان السوداء لحزب الله. والتي قضت على الاحتجاجات في الشوارع بينما كانت تهتف “شيعة.. شيعة”. في الوقت نفسه، وضعت جائحة كوفيد 19 المسمار الأخير في نعشها.
يؤكد الحلبي أن حركة الاحتجاج نفسها كانت مليئة بالتصدعات. حيث تنقسم الشخصيات والحركات والأحزاب المعارضة أيديولوجياً حول جميع المسائل الوجودية تقريباً. يقول: كانت لديهم وجهات نظر مختلفة بشكل كبير حول الاقتصاد، والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وإفلاس القطاع المصرفي، وأزمة اللاجئين، والسياسة الخارجية، ووضع حزب الله والسلام في المنطقة. يبدو أن رسم مسار ما بعد الانتخابات أمر غير محتمل -حتى الآن- وسوف تتفكك غالبية المجموعات الجديدة.
ويتوقع الحلبي أن هذا الانقسام “رُسِم مؤقتًا من أجل زيادة المقاعد الانتخابية”. إلا أنه يسمح بالتلاعب القاسي من قبل النخبة السياسية الطائفية المخضرمة في أي برلمان ينشأ بعد الانتخابات. مشيرًا إلى أنه في غضون ذلك “سيتغلب حزب الله على النتائج بطريقة مماثلة لما فعله حلفاؤه في العراق -التنسيق المؤيد لإيران- وسيحافظ على الامتيازات السياسية والمالية التي حصلوا عليها داخل النظام بمرور الوقت.
ماذا نتوقع من الانتخابات؟
من المرجح أن يظل ميزان القوى منحرفًا لصالح حزب الله. حيث تشير استطلاعات الرأي المحلية إلى أن الحزب وحلفاءه سيحتفظون بالأغلبية البرلمانية. لكن من المرجح أن تحدث تحولات في الهياكل الطائفية الحالية لتقاسم السلطة. فقد يعني تعليق الحريري حياته السياسية إضعاف الجمهور السني. تشير السوابق في لبنان إلى أن إضعاف أو حرمان دائرة انتخابية طائفية أدى غالبًا إلى زعزعة استقرار النظام، مع احتمال إراقة الدماء في حالة استمرار الوضع. لكن القيادة السعودية -الراعية لعائلة الحريري طيلة عقود- تخلت عن سعد لأن الأخير “فشل في مواجهة النفوذ الإيراني المتزايد في لبنان وعقد صفقات مع حزب الله”، بحسب مسؤولين سعوديين.
أيضا، حرمان السنة من حق التصويت، يمنح حزب الله والنظام السوري الصاعد حيزًا لزيادة تمثيلهما في النواب السنة المتحالفين معهم. بينما كان الحريري -من الناحية النظرية- معارضًا لكليهما. هكذا يتمتع المرشحون السنة الذين يدينون بالولاء لبشار الأسد أو حزب الله بفرص أكبر للوصول إلى البرلمان هذه المرة. ما يجعل الجماعة قادرة على حماية نفسها من الضغط المحلي والدولي المتزايد لدورها داخل البلاد. كما سيستفيد الأسد لأن النواب المؤيدين له سيدفعون أكثر نحو تطبيع العلاقات بين لبنان وسوريا.
اقرأ أيضا: حوار| رئيس الوزراء اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة لـ«مصر 360»: مقاطعة الانتخابات تُسهل تزوير إرادة اللبنانيين وتُغير وجه لبنان العروبي
لبنان عند نقطة تحول
يُشير الباحث عامر بساط إلى أنه في أقل من ثلاث سنوات، أصبح لبنان بلدًا بائسًا. تعثرت الحكومة، وانكمش النشاط الاقتصادي للبلاد بنسبة 35%، وفقدت العملة 90% من قيمتها. وأدت أزمة مصرفية حادة إلى تدمير الثروة، بما يعادل ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد على الأقل.
في غضون ذلك، بلغت نسبة البطالة 40%. صار ثلث المجتمع لا يستطيع الحصول على رعاية صحية مناسبة. و41% من السكان يجدون صعوبة في الحصول على الغذاء والاحتياجات الأساسية الأخرى.
يؤكد بساط أن الأزمة كانت متوقعة. بحلول الوقت الذي بدأ فيه الانهيار أكتوبر/تشرين الأول 2019). فقد كان الاقتصاد اللبناني يواجه بالفعل تحديات غير عادية. فقد وصلت ديون القطاع العام إلى مستويات مرتفعة، بحيث أصبح التخلف عن السداد مسألة متى وليس ما إذا كان. كما أصبح القطاع المصرفي -بعد أن أقرض ثلاثة أرباع الودائع للحكومة- مفلسًا وظيفيًا وغير سائل بشكل متزايد. ولم يشهد الاقتصاد الإنتاجي أي نمو تقريبًا لمدة عقد كامل تقريبًا.
أمّا الأهم من كل ذلك، هو أن البلاد كانت بلا دفة سياسية “لم يكن هناك رئيس بين عامي 2014 و2016. وبدلاً من ذلك، كانت هناك تأخيرات متعددة وطويلة في تشكيل الحكومة. وبينما جرت الانتخابات البرلمانية عام 2018، لم تحدث إلا بعد خمس سنوات.
هل هناك طريقة للخروج؟
يحتاج لبنان بشكل عاجل إلى إعادة هيكلة للقطاع المصرفي. من شأنها توزيع الخسائر على المودعين، وإعادة هيكلة الديون لإعادة الملاءة المالية والجدارة الائتمانية للقطاع العام. وإصلاح نقدي، لتحقيق الاستقرار في سعر الصرف، والسيطرة على التضخم. فضلاً عن إصلاح القطاع العام، والذي من شأنه أن يرفع الإيرادات، ووقف الإسراف في الإنفاق.
بالتوازي، هناك أيضًا حاجة إلى إصلاحات قطاعية قصيرة المدى بطبيعتها -خاصة في قطاع الطاقة- وأطول أجلاً، مثل قوانين مكافحة الاحتكار، والإصلاح القضائي، والإصلاح التنظيمي.
لسوء الحظ، فإن احتمالات التعافي السريع أو حل الأزمات قاتمة. في الوقت الحالي، نشأ “توازن سيء” في لبنان. فقد انهار الاستهلاك والواردات، إلى حد أصبحت فيه احتياجات البلد قابلة للإدارة والتمويل فقط عن طريق التحويلات والمنح الإنسانية. لكن جاء هذا التوازن على حساب الفقر الهائل والانهيار الداخلي.