مشهدان مماثلان وإن اختلفت تفاصيلهما، والفارق بينهما 22 عاما تقريبا. رصاصات إسرائيلية غادرة تنطلق بهيستريا ولا تتوقف حتى تصيب هدفها. ثم تدعي أنها لم تكن رصاصاتها قبل أن تتراجع لاحقا لتخبرنا أنه “خطأ غير مقصود”. لا فارق بين طفل وصحفية هنا، فالجميع في مرمى النيران. و”كل شي عم تعمله إسرائيل مكرر، وتكراره دليل فشله”، كما يقول تميم البرغوثي.. لا شيء تغير في فلسطين إذا: شعب يقاوم ويقاوم ومُحتل مصاب بالتشنج والعُصاب.
أما إذا استدعيت ردود الفعل الشعبية العربية بين واقعتي محمد الدُرة وشيرين أبو عاقلة فستجد الغضب والتضامن نفسه. لكن الفارق هذه المرة أن الشعوب التي جابت الشوارع للاعتراض والإدانة والتضامن في سبتمبر/أيلول عام 2000. اكتفت بل أُجبرت على إبداء غضبها وتضامنها عبر مواقع التواصل الاجتماعي في مايو/أيار 2022.
وهنا يُمكن ببساطة أن تستدعي التغيّر الذي طرأ على الأنظمة العربية وما جنته على شعوبها. فبعدما قامت معادلتها على السماح بهامش شعبي تضامني مع القضية الفلسطينية حفاظا على ماء وجه بعض شرعيتها، أدركت الآن أن ذلك الهامش يستهدفها أيضا؛ فهي في محور واحد مع الاستبداد. ليس ضمنا كما جرى في زمن الدُرة وإنما صراحة كما جرى ويجري في زمن شيرين.
اقرأ أيضا: كانت تُسمى صوت فلسطين صارت تُسمى صوت فلسطين
ماذا جرى للأنظمة العربية؟
في سبتمبر/أيلول 2000 ضمت الأنظمة العربية معسكرين رئيسيين: أول يجاهر بعدائه للكيان الصهيوني -أو يدعي ذلك- في ممانعته مع الغرب. وآخر إما تجمعه علاقات تدور في الخفاء وإما يجمعه “سلام بارد”.. بعد 22 عاما، لم يعد هناك من يجاهر بالعداء فإما “السلام البارد” صار “دافئا” وإما صار “مُلتهبا حميميا”.. واسألوا “إبراهيم” أو بالأحرى من ينطق باسمه.
خلال ما يزيد عن عقدين من الزمان، مرت الأنظمة العربية بالعديد من التقلبات والأحداث التي سرّعت من إعادة صياغة فرضيتها ومنظورها للأمن القومي العربي. فمن “الحرب على الإرهاب” إلى الغزو الأمريكي للعراق مرورا بثورات الربيع العربي ثم الاتفاق النووي مع إيران.
يقول مايكل سينج، الباحث في العلاقات العربية الإسرائيلية، في “معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى” إن اتفاقيات التطبيع لم تأتِ من العدم. حيث كانت الشراكة غير المكتملة قائمة بين إسرائيل والدول العربية المحافظة قبل عام 2020 بفترة طويلة. وقد حفزتها الثورات العربية في عام 2011 والمخاوف المشتركة بشأن إيران والإخوان المسلمين، من بين تهديدات أخرى.
وجميعها أوصلت محور من الدول العربية إلى قناعة بأن “من مع إسرائيل يكسب” وأن القضية الفلسطينية باتت حجر عثرة أمام مصالحهم وبالتالي يستوجب القفز عليها؛ لتتغير المعادلة من “الأرض مقابل السلام” إلى “المصالح مقابل السلام”، كما أراد شيمون بيريز. وقد قال يوما: “لقد جرب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجربوا قيادة إسرائيل إذن”. وهو ما تجلت بوادره في “قمة النقب” قبل شهرين فقط والتي قبلت رسميا بالرواية الصهيونية بأن فلسطين هى أرض يهودية منذ الأزل وهى وطن لليهود.
لكن “معهد واشنطن” يسلط الضوء على أحد القيود الرئيسية لاتفاقيات التطبيع “فطالما لم تعترف الدول العربية الأخرى بإسرائيل. فمن المرجح أن يبقى التنسيق السياسي بين إسرائيل والأطراف الموقعة الأخرى ظرفيا، والإمكانيات الدبلوماسية للاتفاقيات ناقصة. مما يعني أن منطقة الشرق الأوسط ستظل تفتقر إلى آلية حقيقية متعددة الأطراف للتعامل مع النزاعات الإقليمية الرئيسية، على الرغم من حاجتها الماسة إليها”.
آفي شلايم، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد وأحد وجوه مدرسة “المؤرخين الجدد” الإسرائيليين، يرى تلك الاتفاقات على أنها “تمثل بالأحرى تحولا في سياسات الحكام المستبدين العرب”. وأضاف أن هذه الاتفاقات لا تستحق هذا اللقب الكبير بأنها “تاريخية”، لأنها لم تتعرض للسبب الجذري للصراع العربي الإسرائيلي.
فالمشكلة الفلسطينية، في رأيه، هي جوهر هذا الصراع، ولطالما كانت القضية المركزية في السياسة العربية منذ عام 1945. كما أنه حتى وقت قريب، كان هناك إجماع طاغ في العالم العربي لصالح دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل كثمنٍ لأي سلام شامل مع إسرائيل. ما يقصده شلايم هو أن تلك الاتفاقات تشكّل تحولا براجماتيا في سياسات الحكام السلطويين العرب، وليست نقطة تحوُّل حقيقية بالعلاقات العربية الإسرائيلية.
البنية الاستعمارية والظروف المواتية
هنا غاب عن أولئك الحكام المعادلة الشعبية الفلسطينية التي ظُن بهتانا أن صوتها قد بُح وأنها فقدت مركزيتها في أذهان الشعوب العربية أعقاب ما عانته من نتائج انتفاضاتها. ولكن الفلسطينيين نجحوا بهبتهم الشعبية -في مايو/أيار من العام الماضي- في إعادة تلك المركزية إلى ذهن أجيال صغيرة وشابة. أجيال لم تحضر كثافة لحظة الدُرة ولكنها تعرف الآن كثافة لحظة شيرين وأثر رحيلها بما حمله من تعابير ورسائل عميقة.
يرى نهاد أبو غوش، عضو المجلس الوطني الفلسطيني، أن إعدام شيرين أبو عاقلة يمثل حلقة في سلسلة الهجوم الشامل والمستمر على الشعب الفلسطيني وأبرز حلقاته كانت الاجتياحات المتكررة للمسجد الأقصى المبارك بهدف تقسيمه زمانيا ومكانيا ضمن خطة أشمل وهي “تهويد القدس”. بالإضافة إلى الاجتياحات المتكررة لمدينة جنين التي تصفها دولة الاحتلال بأنها “عاصمة الإرهاب” وبخاصة مخيمها، مخيم جنين حيث استشهدت شيرين، وهو المخيم ذو التاريخ الطويل في المقاومة والذي يمثل شوكة في حلق الاحتلال، وما يزال يخرج أجيالا جديدة ومتجددة من الاستشهاديين والفدائيين.
ويقول السياسي المقدسي لـ”مصر 360“: “الهجوم الشامل على الشعب الفلسطيني لم يكن ليتم لولا شعور إسرائيل بأن الظروف المحلية والإقليمية والدولية مواتية وفي صالحها”. فالهجوم جاء على الرغم من كل التحذيرات التي وردت من الأجهزة الأمنية بأن شهر رمضان سيشهد مواجهات عنيفة بسبب تراكم السخط والقهر الفلسطيني من جهة. وتزامن شهر رمضان مع الأعياد اليهودية وعيد الفصح (القيامة) المسيحي، ففي رمضان يرابط الفلسطينيون المسلمون في المسجد الأقصى ويقيمون احتفالات جماهيرية تقليدية. بالإضافة إلى احتفال المتطرفين بما يسمونه عيد الاستقلال الذي هو يوم النكبة وذكرى احتلالهم للقدس الشرقية”.
بينما تعتبر الكاتبة والمحللة السياسية من غزة، رهام عودة، أن اتفاقات التطبيع الأخيرة ليس لها دورا في عدم مبالاة إسرائيل بالغضب الفلسطيني تجاه الاقتحامات الإسرائيلية للأقصى أو استهداف شيرين أبو عاقلة. لأن إسرائيل بشكل عام لديها سجل سابق بالانتهاكات ضد الصحفيين الفلسطينيين وباقتحامات الأقصى حتى قبل بدء موجة التطبيع الحديثة مع بعض الدول العربية. وكذلك لكونها دولة احتلال تنفذ سياسة استيطانية مدروسة بناء على سياستها ومصلحتها الأمنية والعسكرية. وهي تتعامل بمنطق القوة والسيطرة الاستعمارية على شعب محاصر ومُحتل دون الاكتراث بحقوق الشعب الفلسطيني بالحرية والاستقلال.
وبحسب تقرير منظمة “مراسلون بلا حدود” المنشور تحت عنوان “إسرائيل- فلسطين: أربع سنوات من مسيرات العودة تقابلها أربع سنوات من العنف ضد الصحفيين“. تعرَّض ما لا يقل عن 144 صحفيا، فلسطينيا وأجنبيا، لاعتداءات الجيش الإسرائيلي خلال تغطيتهم الأحداث بفلسطين المحتلة خلال السنوات الأربع الأخيرة.
ولكن عودة، في حديثها مع “مصر 360“، تعتقد أن أحداث الأقصى الأخيرة واستشهاد أبو عاقلة أحرج إسرائيل عربيا ودوليا و”كاد يشوش على موجة التطبيع الإسرائيلية – العربية. لأن إسرائيل تروج لنفسها أمام الدول العربية والغرب بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وأنها تحترم حرية العبادة وحرية التعبير وتحافظ على الوضع القائم في الأقصى تحت السيادة الأردنية“.
التهديد الإسرائيلي على المدى البعيد
في دراسة بحثية نشرها “المركز الديمقراطي العربي”، بعنوان “أثر اتفاقات أبراهام على النظام الإقليمي العربي“. توضح الدراسة أن التسويات السياسية التي تمت في منطقة الشرق الأوسط مع الكيان الصهيوني من أبرز الأسباب التي أدت إلى زيادة الهيمنة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية. والتأثير في هيكل وبنية النظام الإقليمي العربي.
“التغيرات الجيوسياسية على مدى العقد الماضي اختزلت في شكل أزمات جديدة مثل ثورات الربيع العربى، ظهور الإخوان المسلمين وداعش. وقوى الهيمنة غير العربية الجديدة مثل إيران وتركيا على مدى العقد الماضي. غيرت هذه التطورات منظور الملكيات العربية لفكرة الأمن القومي العربي؛ حيث يرون أن القضية الفلسطينية مجرد إلهاء عن التهديدات المباشرة الحقيقية، ولذلك ستكون لاتفاقات إبراهام تداعياتها المريرة على النظام الإقليمي العربي”، تشير الدراسة.
وتتوقع أن تكون لتلك التحولات تأثيرات بعيدة المدى على بنية النظام العربي نفسه، بل وعلى اقتصادات وسياسات دول الخليج نفسها. التي سيكون لها تداعياتها المريرة في كيفية إدارة الصراع العربي الإسرائيلي الذي فقد فيه العرب أدوات كثيرة لها دورها وفاعليتها كان سيكون لها دورها الحاسم على مستقبل النظام العربي.
يعلق أبو غوش عمّا أسماه “حالة التفكك والضعف العربية” التي تجسدت في قمة النقب. ويفسر إياها بأن “بعض الأطراف لم تكتف بالتطبيع مع إسرائيل بل سلمتها شارة القيادة للنظام الإقليمي الجديد، وتبنت رؤيتها للمشروع الإسرائيلي الذي يريد شطب القضية الفلسطينية وتصفيتها وتحويلها إلى مجرد شأن أمني إسرائيل تعالجه بسياسة العصا والجزرة. كما قال رئيس وزراء إسرائيل نفتالي بينيت”. ويلفت إلى انشغال العالم بما يجري في أوكرانيا وهي أزمة حاولت إسرائيل الاستفادة منها بتسويق نفسها كوسيط دولي مقبول من الطرفين.
لكن ما لم تنجح فيه موجات التطبيع الأخيرة هو التأثير في الوعي العربي، فهي حتى الآن لم تؤثر كثيرا على الوعي الشعبي العربي ومازالت محدودة ومقتصرة على مستوى القادة العرب. الذي يعتبرونها اتفاقيات مصلحة وسلام بارد وذات بعد أمني وليس بالضرورة أن تكون اتفاقيات سلام عميقة تؤدي إلى صداقة بين الشعوب العربية والشعب الإسرائيلي، وفق رؤية رهام عودة.
“وإن كان هناك بعض الشخصيات العربية الإعلامية التي بدأت تروج للتطبيع العربي مع إسرائيل. لكن يبقى أداء هذه الشخصيات منظم تحت إطار مجاملة ومناصرة النظام السياسي العربي المؤيد للتطبيع وليس للترويج شعبيا لاتفاقيات السلام مع إسرائيل. لأن الشعوب العربية مازالت تنظر إلى إسرائيل كدولة محتلة ومازالت تحتفظ بذكرياتها للصور المأساوية لضحايا الحروب الإسرائيلية من المدنيين الفلسطينيين والانتهاكات الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني”.
شراكة جيوستراتيجية
يعتقد فواز جرجس، أستاذ العلاقات الدولية بكلية لندن للاقتصاد ومؤلف كتاب “Making the Arab World” أن تدمير إطار حل الدولتين جعل المسار الذي لا مفر من المآل إليه هو دولة ثنائية القومية وهو “الانتقام النهائي للتاريخ”، بتعبيره. ويذهب إلى أن اتفاقات التطبيع كانت ببساطة “شراكة جيوستراتيجية بين حكام عرب مستبدين قلقين على كراسيهم من جانب وإدارة إسرائيلية توسعية من الجانب الآخر”.
دخل النظام العربي إذا بشكل لا لبس فيه مرحلة غير مسبوقة تدفعه نحو التحول من نظام “قومي” إلى مجرد نظام “إقليمي” يتألف من دول مجاورة متنوعة دينيا وعرقيا ومذهبيا. ونتيجة لذلك، وإذا استمر في هذا الاتجاه -وفقا للمركز العربي الديمقراطي- ستتمكن إسرائيل من لعب دور القائد أو ضابط الإيقاع لنغمات آلة الأكورديون في هذا النظام الإقليمي. الذي يتحول تدريجيا إلى نظام شرق أوسطي، طالما كانت فكرته نابعة من أذهان الأميركيين منذ القرن الماضي وبدأت عمليات التنفيذ.
وحينها “سيفقد النظام الإقليمي العربي آخر بقايا هويته العربية. وبعد فشله في إيجاد صيغة تكميلية تمكنه من النهوض والتغلب على واقع التخلف والتشرذم. يتخلى النظام العربي عن القضية الفلسطينية التي كانت دائما محور تفاعلاته وأحد أهم ملامح هويته العربية”.
“إجمالا اسرائيل تتصرف وفق قناعة أنها انتصرت على العرب في جميع الحروب التي خاضتها، وتريد بالتالي أن تترجم انتصاراتها هذه إلى نتائج سياسية. أي إلى استسلام العرب والفلسطينيين والتخلي عن الحقوق الوطنية الثابتة والمشروعة للشعب الفلسطينية وفي مقدمها عودة اللاجئين وتقرير المصير وقيام الدولة المستقلة بسيادة كاملة وعاصمتها القدس. ولكن ما لم تحسب حسابه إسرائيل هو أنها لم تنتصر على الشعب الفلسطيني الذي لا يمكن الانتصار عليه ليس لأنه شعب مختلف عن باقي شعوب الأرض. ولكن للسبب المعاكس تماما أي مثل باقي شعوب الأرض ويريد حقوقه الوطنية. بينما إسرائيل تريد أن تغريه بمقايضة هذه الحقوق ببعض التحسينات الاقتصادية والمعيشية وهذا أمر مستحيل القبول فيه حيث ينشأ جيل جديد من الفلسطينيين لا يمكن له أن يقبل بهذا الحل العنصري. الذي ينتقص حقوق الفلسطينيين ويسعى لتكريس دونيتهم”، يختتم أبو غوش.