يتفق كاتب هذه السطور مع جزء من خطاب النظام الحالي الذي يرى أن مشكلات مصر ذات طبيعة هيكلية حادة ورثها عن سابقيه، لكنه يرى في نفس الوقت أن الطريقة التي أديرت بها البلاد خلال السنوات الثماني الماضية قد عمقت من أزماتنا الهيكلية وزادتها تفاقما، بما يتطلب توليد استجابة مختلفة لا إلقاء اللوم على أسباب داخلية أو خارجية تبرر طريقة الإدارة هذه ولا تراجعها، ناهيك عن أن تطرح غيرها، لذا فطريقة التعامل مع الحوار المأمول إما أن تعمق أزمتنا الوطنية، أو أن تكون بداية نتلمس بها سبلا للخروج من لحظة الانكشاف الوطني التي نعانيها، كما قد يكون طريقا لتجديد النظام السياسي برمته أو بداية النهاية له.
أما إن مشكلاتنا ذات طبيعة هيكلية حادة فمرده إلى أنه ومنذ نهاية الحرب الثانية ١٩٤٥ تراجعت -وبشكل متصاعد- قدرة الدولة والمجتمع المصري على توليد الموارد (ولا أقصد الموارد المادية فقط) بما يكفي لتلبية الحاجات العامة للمصريين وحفظ الأمن القومي للدولة المصرية.
لم تؤد أي من السياسات الاقتصادية الأوسع المتبعة، ولا النظرة للمجتمع ومؤسساته، ولا العلاقة مع هيكل النظام الدولي القائم في كل مرحلة منذ ذلك التاريخ إلى تنمية شاملة ومستدامة، وهذا ينطبق على الليبرالية الاقتصادية النسبية في ظل النظام الملكي، بقدر ما ينطبق على التنمية التي ترتكز إلى الدولة في عهد عبد الناصر، والانتعاش الانتقائي لرأس المال الخاص والأسواق في ظل السادات، واستقرار الاقتصاد الكلي والتكيف الهيكلي في عهد مبارك، والمزيج الجديد من النيوليبرالية المستوحاة من المؤسسات المالية الدولية والاقتصاد الذي يقوده الجيش في عهد الرئيس الحالي.
منذ ذلك الحين وجدت الحكومات المتعاقبة أنه من الصعب أو المستحيل التوفيق بين الإيرادات والنفقات، وظلت الموارد المتاحة دائمًا أكثر تواضعًا بكثير مما يمكن معه تلبية الاحتياجات العامة للمصريين وحفظ الأمن القومي لدولتهم، وعلى الرغم من الجهود المتكررة، لم تتمكن الدولة من إنتاج الموارد التي تستهلكها أو الخروج من شرك الدخل المتوسط الأدنى، كما أن التوزيع الداخلي للثروة والدخل والفرص لم تصبح أكثر مساواة بما يضمن القضاء على الفقر الذي تفشي بمرور الزمن.
وهكذا، فقد واجهت الدولة تحديات باستمرار بسبب نقص الموارد، والقواعد والأنماط التي تحكم توزيعها، والأخطر أن قوتها الهشة -وفق تعبير Anoushiravan Ehteshami في كتابه الصادر بالإنجليزية هذا العام- الناتجة عن فجوة الموارد تعتمد على الخدمات التي يمكن أن يقدمها حكامها للجهات الفاعلة العالمية والإقليمية الأكثر قوة ونفوذا.
ولا يعني هذا عدم قدرة النظام الجمهوري الذي نشأ بعد ٥٢ على إنشاء مجموعة من المؤسسات والممارسات والسياسات التي كانت صلبة وقابلة للتكيف بما يكفي لتحمل التحديات المستجدة، إلا أن هذه السياسات الهادفة إلى تقوية مصر قد أدت في نهاية المطاف إلى إضعافها، على الرغم من بقاء واستمرار النظام السياسي دون صعوبة كبيرة.
طريقة إدارة البلاد
وهنا، يمكن أن نسوق ثلاثة أمثلة استندنا فيها إلى نتائج عدد من الدراسات العلمية التي صدرت على مدار السنوات الثلاث الماضية، والتي كانت تتوقع أن طريقة إدارة البلاد ستؤدي إلى ما نحن فيه الآن.
1- التعامل مع برنامج صندوق النقد الدولي: يقدم عمرو عدلي -في فصله المنشور ضمن الكتاب الذي خصص لمناقشة علاقة المؤسسات المالية الدولية بدول المنطقة- حجة ذات شقين حول الإصلاحات التي يرعاها ويحدثها صندوق النقد الدولي في مصر منذ عام 2016.
أولًا: عالجت الإصلاحات في مؤشرات الاقتصاد الكلي الاختلالات المالية ولكنها لم تقترب من العوامل الهيكلية التي تقف وراءها في الواقع.
ثانيًا: تعافي مصر وهمي للغاية ولا يعد بنمو أو تنمية على المدى المتوسط أو الطويل؛ مما يجعل التكلفة الاجتماعية المرتفعة التي يدفعها معظم المصريين غير مبررة.
تدلنا خبرة الدولة المصرية على مدار النصف قرن الأخير أنه: على الرغم من أن برنامج صندوق النقد الدولي الأخير لعام 2016 هو أول برنامج تم تنفيذه بالكامل في تاريخ مصر، حيث توقفت برامج عامي 1976 و1987، وفي عام 1990، وفي 2003 أيضا؛ على الرغم من ذلك تعاني صفقة إصلاح صندوق النقد الدولي الحالية من تناقضات داخلية خطيرة تجعل استقرار الاقتصاد الكلي غير متوافق مع استئناف النمو الاقتصادي على المدى المتوسط بسبب ضعف قاعدة الصادرات المصرية والاعتماد الهيكلي على المدخلات المستوردة لقطاعاتها الإنتاجية الرئيسية (أي التصنيع والزراعة)، كما كان الانتعاش الأخير في مصر مدفوعا إلى حد كبير بالديون وليس بزيادة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
ومما لا يثير الدهشة، أن الاستقرار الذي حققته مصر بشق الأنفس مع تطبيق وصفة الصندوق يعتمد على الاقتراض الأجنبي الكبير، والتخفيضات في الواردات التي شلّت القطاعات الإنتاجية، وقمع الاستهلاك الذي أدى إلى تدهور مستوى معيشة معظم المصريين، والعقارات والإنشاءات التي تلقت حصصًا غير متكافئة بشكل ملحوظ من الاستثمارات العامة والخاصة؛ والتي هي بحكم طبيعتها غير القابلة للتداول -أي للتصدير، لذا فمن غير المحتمل أن تساهم في تحسين وضع ميزان مدفوعات الدولة على المدى المتوسط أو الطويل من خلال توليد الصادرات أو عن طريق خفض فاتورة الاستيراد.
وبالرغم من هذه الاختلالات الجوهرية في برنامج الصندوق التي أشار إليها عدلي مبكرا في دراسته التي نشرت 2020؛ فلاتزال الحكومة القائمة تتفاوض على اتفاقية جديدة تحاول أن تحصل بموجبها على قرض جديد.
2- انتعاش مدفوع بالديون: في عام 2021، بلغ الدين الخارجي لمصر 137 مليار دولار، أي ضعف ما كان عليه عندما منح صندوق النقد الدولي قرضه البالغ 12 مليار دولار لمدة ثلاث سنوات في عام 2016، في حين بلغ إجمالي الدين القومي -الذي يشمل الاقتراض المحلي والخارجي- نحو 370 مليار دولار، أي أربعة أضعاف منذ عام 2010، وزاد بنسبة تخطت 100 في المائة بين عامي 2017 و2020، ومن المتوقع أن يرتفع إجمالي الدين إلى 557 مليار دولار بحلول عام 2026.
يقارن روبرت سبرينغبورغ -الباحث المخضرم المختص بالشأن المصري- أوجه تشابه ملحوظة بين الاقتصاد اللبناني الفاشل الآن بشكل مريع وبين الاقتصاد المصري المتعثر، ويحذر من أن العواقب المدمرة للانهيار الاقتصادي في لبنان ستكون أسوأ إذا تكررت على نطاق مصري.
يرى سبرينغبورغ أن استمرار القروض الخارجية لمصر رهن بقدرتها على تقديم الخدمات الاستراتيجية للفواعل الإقليمية -خاصة دول الخليج وإسرائيل، وللأطراف الدولية المهيمنة، إلا أن هذه الاستراتيجية تعاني من أربعة نقاط ضعف خطيرة: الأولى؛ القدرة على استمرار تقديم هذه الخدمات الاستراتيجية واستمرار الطلب عليها من القوى الإقليمية والدولية.
والثانية أن الحفاظ على 102 مليون مواطن في مصر، بمعدل نمو 2 مليون سنويًا، سيتطلب التزامات أكبر بكثير؛ ومن المشكوك فيه ما إذا كان “أصدقاء” مصر سيستمرون في رؤية هذه الالتزامات على أنها جديرة بالاهتمام لأسباب غير اقتصادية في المستقبل غير المنظور أم لا.
والثالثة؛ فإن الزيادة الكبيرة في أسعار الفائدة العالمية المرتفعة بالفعل في مصر ستهدد قابليتها للنمو الاقتصادي بغض النظر عن كونها عميلًا نموذجيًا لصندوق النقد الدولي. الرابعة والأخيرة؛ أدى الحفاظ على سعر صرف مبالغ فيه للسيطرة على التضخم، إلى جانب أسعار الفائدة العالمية التي تحول الجزء الأكبر من الائتمان المحلي إلى الحكومة، إلى تآكل القطاع الخاص.
كما أدت سياسات النظام أيضًا إلى انخفاض الطلب المحلي، وفرص العمل، وصادرات السلع والخدمات؛ بما زاد معه الاعتماد على تدفقات رأس المال الوافد، والتي تشكل التحويلات المالية نسبة كبيرة منها. لكن هذه التحويلات، كما أظهرت حالة لبنان، تنجذب أيضًا إلى أسعار الفائدة المرتفعة، لذا فهي أيضًا عرضة للاضطرابات المفاجئة.
ويخلص روبرت سبرينغبورغ إلى أن “مصر أصبحت دولة متسولة يعتمد اقتصادها أكثر من أي وقت مضى على الدعم الأجنبي؛ وخاصة القروض”. وتدار السياسة الاقتصادية كما لو كانت مصر دولة ريعية غنية بالنفط مثل المملكة العربية السعودية أو دولة تجارية ناجحة مثل الصين، على الرغم من أنها ليست كذلك، كما باتت شهية الحكومة المالية هائلة؛ لكن للكماليات -التي تمتص الجزء الأكبر من إيرادات الدولة، وليست للضروريات الأساسية لعدد متزايد من السكان.
يعتمد النظام في المشاريع الضخمة على “إبهار” المصريين لكسب الإعجاب والرضوخ، وكما يرى سبرينغبورغ: “فإن تزيين الدولة بأدوات براقة يهدف إلى رفع الدولة وحاكمها فوق المواطنين واحتياجاتهم”. ولدفع ثمن هذا الإسراف، ضغطت الحكومة على المواطنين من خلال التخفيضات في الدعم، والضرائب التي يتحمل العبء الأكبر فيها الأقل دخلا، وزيادة رسوم الخدمات “العامة”، في ظل معاناة المصريين من ركود الأجور وارتفاع الأسعار والبطالة المرتفعة، حيث يعيش حوالي 30 مليون مواطن على دخل يقل عن 3.20 دولار في اليوم.
3- شخصنة الحكم: ارتكزت قوة مصر إلى عدد من الأسس أبرزها: التجانس المجتمعي وعدم وجود انقسامات حادة، بالإضافة إلى بناء عدد من المؤسسات الحديثة التي استطاعت أن تضمن استمرار قيام الدولة بوظائفها الأساسية بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي وشخصية القائم عليه، إلا أنه من الملاحظ أنه -للأسف- على مدار حكم مبارك وما تلاه جرى تبديد للرأسمال التاريخي الذي أنجز على مدار القرنين الأخيرين في مصر، والذي سمح بإنشاء عدد من المؤسسات ذات التقاليد الراسخة التي أدت لقيام الدولة بأداء وظائفها باستقلال عن توجهات النظام السياسي. لقد احتكر الرئيس مع نخبة ضيقة اتخاذ القرار بما جعل شخص الرئيس في مواجهة مباشرة مع جموع المصريين باعتباره يتحمل العبء الأكبر عن السياسات المطبقة والإجراءات المتبعة، خاصة إذا تواكب مع ذلك غياب وضعف المؤسسات الوسيطة مثل النقابات والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني التي تسمح بالتفاوض السلمي على توزيع الموارد التي هي شحيحة وتتسم بالتفاوت -كما قدمت.
يناقش SCOTT WILLIAMSON في دراسته –المنشورة أغسطس/آب 2021– مستقبل النظم السياسية المشخصنة -أي التي يتم اختزالها في شخص الزعيم أو الرئيس- ويرى أنه بالمقارنة مع الأنواع الأخرى من الأنظمة السياسية؛ فإن الأنظمة الشخصية أكثر عرضة للانتفاضات الجماهيرية أو ضغوط أخرى من أسفل، وليس لانشقاقات النخبة لأنه من غير المرجح أن ينقلب عليه أنصاره الأساسيون في غياب معارضة شعبية كبيرة.
ولكن ما الذي من شأنه أن يطلق مثل هذه الانتفاضة؟ يجيب علماء السياسة: يمكن أن يؤدي الأداء الاقتصادي الضعيف إلى عدم الاستقرار السياسي في جميع أنواع الأنظمة السياسية، ولكن الأزمات الاقتصادية خطيرة بشكل خاص على الأنظمة الشخصية لأنها أولاً: يمكن أن تجعل هذه الأزمات من الصعب على رأس النظام توزيع المنافع المادية التي تحافظ على ولاء قاعدته الضيقة من مؤيديه. في الوقت نفسه؛ يمكن أن يواجه الأنظمة الشخصية صعوبة أكبر في إقناع الجمهور بأنهم ليسوا مسؤولين عن هذه الأزمات، مما يزيد من احتمالية استهدافهم من قبل المعارضة الجماهيرية.
تدلنا دراسات العلوم السياسية أنه عندما يتم الإطاحة بالأنظمة الشخصية تقل احتمالية استبدالها بالديمقراطيات مقارنة بالأنظمة الأخرى، بسبب الميل إلى الإطاحة بها بعنف، مما يزيد من احتمالية حدوث انتقال فوضوي وغير مستقر.
وهنا تكمن المفارقة التاريخية؛ فشرعية النظام الحالي في أحد جوانبها قامت على منع تكرار انتفاضة 2011 لما مثلته من تهديد للدولة المصرية -على حد قوله، ولكن إمكانية تكرارها الآن أصبحت أكثر احتمالية من أي وقت مضي في ظل بلوغ القمع لمنفعته الحدية، والأخطر أنه “على عكس عام 2011، يمكن أن يكون الانهيار أكثر اندلاعًا وأقل سلامًا، وقد تكون النتيجة المحتملة انهيار هياكل الدولة في البلد الأكثر اكتظاظًا بالسكان في الجوار الأوروبي” -وفق ما انتهى إليه لوكا ميهي وستيفان رول في دراستهما التي بحثا فيها مستقبل النظام المصري الحالي.
ما الذي تعنيه هذه الأمثلة والتي يمكن سوق غيرها كثير؟
إنها تتطلب أولا: محاولات البناء على نقاط القوة المتبقية في مصر بدلاً من إدامة إدارة الأزمات وعمليات الإنقاذ العشوائية، وثانيا: تغييرات مؤسسية وسياسية في الدولة بقدر ما تتطلب مراجعة الآليات الدولية التي تؤدي إلى نتائج عكسية.