موقف وموقع الأستاذ محمد حسنين هيكل من أحداث مايو سنة 1971 التي تمر اليوم (15 مايو/أيار 2022) ذكراها الواحدة والخمسين، هو واحد من الأدوار التي قام بها الكاتب الكبير، وما زالت تثير الكثير من الآراء والمواقف المتباينة.

موقع هيكل وموقفه في تلك الأحداث يحتاج بلا شك إلى الكثير من التأمل والتقصي والفهم لحقيقة ما جرى، لا ما أرادت أطراف الصراع أن تصبغ به الحقيقة بألوان من صنع أفكارهم وانحيازاتهم وتبريراتهم لمواقفهم ومواقعهم من الحدث الكبير.

وربما لا نجازف إذا قلنا إنه ـ بعد مرور كل هذه السنين ـ قد حان وقت إجراء جردة حساب ختامي حول الدور الذي أداه الأستاذ هيكل في أحداثٍ كان لها ما بعدها، وما تزال تلقي بظلالها، وتداعياتها في الحاضر، وبالتالي تفرض نفسها على جدول أعمال القراءة المعمقة حول الأسباب والمقدمات والتداعيات والدروس التي يقع علينا واجب استخلاصها خدمة للمستقبل وليس مجرد محاكمة للماضي.

حتى يومنا هذا يتبادل أطراف الصدام عند قمة السلطة توصيف ما جرى في مايو/أيار 1971 بأنه انقلاب، السادات ومن معه يرون أن من سموهم بجماعة مايو كانت تتآمر للانقلاب على الشرعية، ومن ناحيتهم يصر الآخرون على أنه انقلاب السادات على من يرون أنفسهم رجال عبد الناصر، والحقيقة أن وقائع التاريخ أثبتت أن ما جرى ـ على الحقيقة ـ كان هو التأسيس لأخطر انقلاب استراتيجي في العالم وفي المنطقة العربية وليس في مصر وحدها.

**

موقع الأستاذ هيكل في تلك الأحداث لم يكن موقع الصحفي صاحب المكانة الاستثنائية، ولكنه كان في تلك الفترة من تاريخ مصر، في موقع صناعة الحدث وليس الكتابة عنه فقط، موقع رجل سلطة، يخطط، ويتصل بمراكز القوة والفعل، ويرتب مع آخرين على محيط القمة، ويهيئ مسرح العمليات بما يضمن نجاح خطة إبعاد مجموعة المتنفذين في قمة السلطة، وتمهيد الأمر لانفراد السادات بمقاليد السلطة كاملة بين يديه.

موقف هيكل الثابت في كتاباته وحواراته على مدار عقود متتالية أن ما جرى في مصر بعد رحيل عبد الناصر كان صراعًا على السلطة، حُسم في يوم 13 مايو/أيار لصالح السادات، وأن جماعة مايو كانت تغامر فيما تقوم به، وأن نوعًا من الهرطقة والغيبية كانت تسيطر عليها، وتوجهها فقد كانت تحضر الأرواح، وتعيش على الخرافاتٍ، وظل يكتب عن السادات باعتباره الخلف الشرعي والموضوعي والأمين على مسيرة عبد الناصر حتى حرب أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1973.

عبد الحكيم وعبد الناصر
عبد الحكيم وعبد الناصر

في حوار له بعد خروجه من سجن السادات قال هيكل: “عندما نحكم على الموقف في 13 مايو/أيار 1971 يجب أن يكون الحكم على ما كان موجودًا وقتها، فلا يملك أحدٌ أن يدعي الحكمة بأثر رجعي”.

كان هيكل يراه صراعا على السلطة، وكانت حجته أنه لم يكن أمام خيارات متعددة، يمكن أن يفاضل بينها حين يقرر موقفه مما يجري حوله من صرعات عند قمة السلطة في الشهور السبعة التي أعقبت رحيل جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر/أيلول سنة 1970 إلى 15 مايو/أيار سنة 1971، ولا زلت أتذكره وهو يتحدث إليَّ بمكتبه حول تلك المأساة، أن يجد الإنسان نفسه أمام أمرين أحلاهما مُر، وأفاض وقتها في الحديث عن الموقف الذي لا يحسد عليه، وقد وجد نفسه في خضم صراعٍ فوق محيط القمة، كانت السلطة هي هدفه، ثم يكون الخيار محصوراً بين “الجهالة” و”السفالة”.

سألت الأستاذ: «ماذا لو أنك وأنور السادات كنتما في الجانب الخاسر يوم 13 مايو/أيار سنة 1971؟ ما هي النتائج التي تتصورها لو أن هذا حدث؟».

ضحك هيكل وهو يقول لي مداعبًا: لن تكون النتائج مختلفة كثيرًا عما يحدث في “الحزب الناصري” وما يجري عندكم في جريدة “العربي”، (مشيرًا إلى الانقسامات داخل صفوف الحزب الذي كان يرأسه يومها واحد ممن كان يطلق عليهم تعبير “مراكز القوى”، ويشير كذلك إلى الأوضاع المالية المتردية التي تعاني منها جريدة الحزب).

السادات بين شعراوي وعبد المحسن
السادات بين شعراوي وعبد المحسن

ثم عاد ليقول جادا: أتصور أن أكثر شيءٍ كانت البلد مرشحة له هو حرب أهلية، وكنتُ أكاد أرى ألسنة نيرانها عند الأفق، وأتصور أن مصر كانت ستُحكم بالحديد والنار، وبأشد الأساليب البوليسية بطشاً وجوراً، وكان كل ذلك سيتم تحت أعلام ناصرية، وخلف صورة جمال عبد الناصر.

صمت هيكل قليلًا ثم عاد ليقول: أعتقد أن مصر تحت حكم هؤلاء كانت مرشحة للسقوط بطريقة غير كريمة في قبضة الاتحاد السوفيتي.

**

أكد هيكل مرارًا على أنه لا يتنصل من موقعه في أحداث مايو/أيار 1971، وأعلن في حوارات عدة أنه راضٍ عن موقفه فيها، وذكر مرة أنه «قال لبعضهم عندما اتفقوا على اختيار أنور السادات لخلافة عبد الناصر: أنتم ترتكبون خطأ له سابقة في تاريخ مصر، فبعد وفاة سعد زغلول اختير مصطفى النحاس بدلًا من فتح الله بركات متصورين أن النحاس هو الأضعف ولكن النحاس عصف بهم جميعًا».

الأمانة تقتضي أن نبادر إلى القول بأن أي منصف لا يمكن أن يختصر مسيرة الأستاذ هيكل في موقفه أو موقعه في تلك الأحداث، فالرجل الذي ركب قطار السادات، وقاده في كثير من الأوقات، ترجَّل منه بعد أن اكتشف أن الرئيس سوف يمضي في الطريق العكسي لكل ما آمن به ودافع عنه ضمن المشروع الناصري، وقرر أن ينأى بنفسه بعيدًا عن الانخراط في هذا المشروع المضاد، وامتلك شجاعة معارضة مشروع السادات، حتى وصلت به معارضته إلى سجن مزرعة طرة في آخر أيام السادات.

**

كان محمد حسنين هيكل إلى جانب جمال عبد الناصر وبالقرب منه يجيء تأثيره من كونه «مطلعًا» أكثر من غيره، ليس فقط على فكر الزعيم ورؤيته، ولكن أيضًا بسبب قربه من مطبخ صناعة القرار وحفظ الأسرار السياسية.

هيكل
هيكل

ثم كان تأثيره إلى جانب أنور السادات في البداية يجيء من كونه “مشاركًا” بشكل علني أحيانًا في صناعة القرار، بل بدا لفترات وكأنه يقود خطى السادات، وظل قرابة ثلاث سنوات واحداً من أعمدة مطبخ صناعة القرار مع السادات، وكان من موقع “المشارك” يستطيع أن يكون نفوذه أوسع وتأثيره أكبر.

وهو -لاشك- تأثيرٌ مغاير لتأثير «المختلف» علنًا مع أنور السادات بعد ذلك في النصف الثاني من مدة حكمه، في تلك الفترة كان تأثيره يجيء من كونه «معارضًا» لمجمل سياسات الرئيس، وكان من موقع المختلف لا يزال قادرًا على إذاعة العديد من الأسرار إلى جانب حصيلة تأمله فيما يجري.

عبَّر عن هذا بتعبير دقيق وبليغ “أنتوني ناتنج” (وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية في وزارتي “أنتوني إيدن” خمسينيات القرن الماضي)، في حوار له مع الإذاعة البريطانية بقوله: “عندما كان هيكل قرب القمة، كان الكل يهتمون بما يعرفه، وعندما ابتعد عن القمة، تحول اهتمام الكل إلى ما يفكر فيه”.

في تلك الفترة زاد تأثير هيكل توهجًا، كان قد انتقل من مثقف ملتحق بالسلطة في زمن عبد الناصر، إلى محاولة فرض المثقف على صاحب السلطة في زمن خلفه، ثم عبر معارضته لنظام السادات وسياساته حاز «سلطة المثقف»، كما استحق مشروعية سياسية نضالية، خاصة بعد سجنه ضمن حملة سبتمبر الشهيرة.

**

لم يكن الأمر قاصرًا على نفور هيكل من عدد من قيادات الدولة وقادة الاتحاد الاشتراكي فقط، ولكن تمثلت معركة هيكل الأساسية على الدوام في كيفية الحفاظ على أمنه الشخصي.

بعد غياب عبد الناصر وجد نفسه في مواجهة أشخاص يمسكون في أيديهم مفاتيح السلطة ومغاليقها، ولم يكن على علاقة ود مع الغالبية من هؤلاء الذين وصفهم “ورثة عبد الناصر”، وكان السادات يعلم علم اليقين “العداوة” التي يُكنها بعض الذين يحكمون معه تجاه هيكل، وكان يعلم تفاصيل “المعركة المكتومة” بين الطرفين.

حتى في عهد الرئيس عبد الناصر كان السادات يقول لهيكل: “لولا التليفون الذي بينك وبين المعلم لكانوا قطعوا رقبتك”.

كان السادات يعرف مكنونات النفوس بين هيكل والجماعة التي سوف يقدم بعد شهور على اعتقالهم ورميهم في السجن تحت لافتة محاولة قلب نظام الحكم، وكان يلعب على هذه النقطة بل إنه في الحقيقة تلاعب بها واستخدمها لمصلحته طول الوقت، ظل يزكي مخاوف هيكل ويشعل نار هواجسه، وعلى جانب آخر كان يستخدمه لإيصال رسائل “مفخخة” إلى بعض “الخلفاء” منها رسالته إلى شعراوي جمعه التي حملها هيكل إليه في صورة “وعد رئاسي” بأن يُجهز نفسه ليتولى منصب رئيس الوزراء.

السادات
السادات

**

لم تكن تخوفات هيكل وخوفه على أمنه الشخصي محض أوهام خيال مريض، أو تهويمات واهم شطح به الخيال، فقد كان طول الوقت في معركة مفتوحة مع بعض من أسماهم «مراكز القوى» حتى تحت حكم عبد الناصر، وفيما بعد انتخاب الرئيس السادات خلفاً للرئيس الراحل كان نفوذ هؤلاء قد تضاعف، حتى السادات نفسه كان يدرك أن ما في أيديهم من «نفوذ» أقوى مما بين يديه من “سلطة”.

كان أمنه الشخصي على المحك طول الوقت، وكانت انحيازاته الاجتماعية والطبقية والفكرية أقرب إلى توجهات السادات لحظة اصطدام الإرادات، وعند ذروة التصعيد بين الطرفين.

**

في ذلك الصدام بدا أن علي صبري، وشعراوي جمعه، وسامي شرف، ومن معهم من الوزراء، وكبار رجال الدولة، وقيادات الحزب الحاكم في طرف، وفي المواجهة كان السادات ومعه هيكل، ومعهم جميعًا كثيرٌ من إفرازات السنوات العشر الأخيرة في نظام جمال عبد الناصر في الطرف الآخر.

لم يكن الصدام خلافًا بين شخصيات هي بحكم تكوينها مختلفة حد التناقض في بعض الأحيان، ولم يكن صراعًا على السلطة، قدر ما كان تصادمًا بين توجهات سياسية متباينة، لا السادات ومن معه، ولا من أطلق عليهم جماعة مايو، هم الممثلون الحقيقيون لهذه التوجهات، لكنها المقادير التي وضعت السادات ـ في تلك الظروف وهذا التاريخ ـ موضع ممثل التوجه نحو الغرب ومعاداة السياسات الاجتماعية التي كان يسميها اشتراكية الفقر، وجعلت علي صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف والآخرين معهم هم ممثلو التوجه الناصري بما يعنيه من توجهات وسياسات وإجراءات وانحيازات.

**

هل كان بالإمكان تجنب الصدام في مايو 1971؟

تاريخ العلاقات بين هذه الشخصيات التي تواجدت عند قمة السلطة في تلك الفترة لم يكن يرشح لغير الصدام، إضافة إلى ما استجد في علاقاتهم بعد رحيل عبد الناصر.

السادات على الجبهة المصرية
السادات على الجبهة المصرية

من ناحيته، لم يكن أنور السادات في وارد أن يصبر على مشاركة آخرين معه في اتخاذ القرارات الحاسمة، لم ينظر إلى هذه المشاركة باعتبارها انتقاصًا من صلاحياته كرئيس للجمهورية فقط، ولكنه كان يراها مشاركة له في الحكم، وهو الأمر الذي لم يهضمه ولا استساغه، وكان السؤال الذي يدور في ذهنه طول الوقت: هل كان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك مع عبد الناصر؟

مؤكدٌ أن السادات لم يكن يريد الدخول إلى المعركة في وجود هؤلاء جميعًا حوله، (فإن انتصرنا يحسبون النصر لهم، وإن انهزمنا يحملونه نتيجة الهزيمة) كما ذكر في “البحث عن الذات”.

وقبل ذلك ومعه، كان السادات يرى أن المعركة يجب أن تكون هي آخر خياراته، وليس أولها، كما يضغطون عليه ويلحون في ذلك.

السادات أثناء كلمته بمجلس الشعب احتفالًا بالنصر
السادات أثناء كلمته بمجلس الشعب احتفالًا بالنصر

**

على الجانب الآخر كانوا يرون أن المعركة واجبة وعاجلة، خاصة بعد الجهود السياسية والديبلوماسية التي بُذلت في تعبئة الراي العام الدولي حول عدالة مطلب مصر بتحرير أرضها من الاحتلال الإسرائيلي.

وكانوا يعرفون أن تعطيل السادات لقرار الدخول في المعركة ليس مجرد تهربًا منها فقط، ولكنه يبيت النية التخلص منهم أولًا، أو تقليص نفوذهم على الأقل، ليكون له حرية الحركة في مواجهة قرار صعب مثل قرار الحرب، ولم يكن ممكنًا أن يغضوا الطرف عمَّا رأوه انحرافاً عن السياسات المعلنة للدولة، خاصة تلك المتعلقة بالقضية الوطنية، وتحرير الأرض.

كذلك لم يكن بإمكانهم الوقوف مكتوفي الأيدي أمام ما يرونه ويرصدونه من تحركات السادات المتصاعدة للانفراد بالقرار، ومحاولاته الدؤوبة لتقليص سلطاتهم، والتمهيد للإطاحة بهم في أقرب فرصة ممكنة، والتواصل بأساليب سرية مع الأمريكان والمخابرات السعودية.

هل كان الصدام محتمًا؟

السؤال يفرض على أي منصفٍ للحقيقة ضرورة الرجوع إلى الخلف قليلًا، لننظر في العلاقات بين هؤلاء جميعًا في ظل عبد الناصر، وهو رجوع يكشف الكثير من خبايا الصراع الذي انفجر في مايو سنة 1971، وربما يرسم لنا خريطة الانقسامات التي تبدت تضاريسها مجسمة بوضوح بعد رحيل عبد الناصر.

والحديث ممتد الأحد المقبل.