قبل أي شيء ساقني الفضول لسؤال المخرج نبيل الشاذلي عن السبب الذي جعله يقدم على إخراج فيلم “تمساح النيل” حول قصة حياة وصعود بطل السباحة العالمي عبد اللطيف أبو هيف. كانت لديّ مشاعر وانطباعات حول كليهما: المخرج والسباح العالمي. أخبرني أنه ذات مرة قابل أبو هيف بعد أن علِم الأخير بتحول مساره إلى العمل في السينما. بعد تركه البورصة والاستثمار. قال له: اعمل فيلم عني يا بلبل.
كانت تفصيلة طلب رجل مثل “أبو هيف” نفسه بأن يُصنع عنه فيلم مؤسِسة وكاشفة للعديد من الأشياء التي يمكن خوضها أثناء الحديث عن فيلم استثنائي الصنع والحكايات.
أتذكر شيئا يمكن البداية من خلاله. قبل شهور قليلة كتب الباحث رافاييل ماكورماك في كتابه “منتصف الليل في القاهرة” حول مشهدية المساء في العاصمة المصرية خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. والذي وصفه على اعتباره يتسم بنشاط كبير للسينما والمسارح والموسيقى. كان يتناول خلاله قصصا مثل حدوتة منيرة المهدية وروزاليوسف اللتين ستصبحان في طي النسيان عقب ثورة 1952. سينساهما الجمهور وينسى إنجازهما.
في الوقت ذاته أعلن متحف التصميم بموسكو بجمع أعمال فنية من عهد الاتحاد السوفييتي السابق التي “جرى استبعادها لتلقى مصير النسيان”. بعد سقوط “إمبراطورية الشر” في عام 1991. حسبما كتبت صحيفة الجارديان في مقال جذبني قراءته والاحتفاظ به. ومن بين تلك الأعمال الفنية الملصقات الدعائية للأفلام في عقدي الخمسينيات والستينيات. في الحقبة المسماة بعصر “ذوبان الجليد” خلال عهد خروتشوف. وهي الفترة التي تلت وفاة جوزيف ستالين واتسمت ببعض التحرر. في هذا الوقت كانت التصميمات بها تعبير فني يعكس ذوبان الجمود في المعسكر الشيوعي والحلم بعالم جديد أكثر انفتاحًا.
“هل تصلح تلك الأشياء لاستهلال ما نحاول أن نكتبه هنا حول فيلم نبيل الشاذلي المهم (تمساح النيل)؟”.
تمساح النيل- فيلم استثنائي
ثمة أسباب عديدة يمكنها أن تجعل من “تمساح النيل” فيلما استثنائيا.
هل يمكنك أن تدري ما هي؟
مهما كانت لدينا ملاحظات فنية بنائية حول المنتج النهائي ربما ذلك لا يمكن تجاهله في فيلم التأريخ والصداقة. علينا أن نجيب عن الأسئلة السابقة أولًا.
يمكننا أن نكتفي بالقول إنه الفيلم الوثائقي الوحيد الذي يُنقل من خلاله صورة حقيقية للسباح العالمي المصري عبداللطيف أبو هيف. والذي يعتبر الصديق الأقرب للمخرج. متضمنَا مقابلات معه ومع آخرين. ويتتبع الفيلم رحلة أبو هيف بداية من مدينة نشأته بالإسكندرية مروراً بكندا والسفر حول العالم بعد 13 عاما وموته.
لكننا يمكننا أن نمط سردية الحديث لما هو أبعد تأريخيًا في سياق الحديث حول حكايات كحكايات أبو هيف التي نسقطها من الذاكرة. سواء بشكل متعمد أو غيره كما نؤسس للحديث عن سينما بديلة أكثر تجريبية وانفتاحا. كان محركها الوحيد هو صداقة شديدة وقدرية للمخرج مع بطله قبل الفيلم بسنوات عديدة.
إذا كنت من عتاة المتمرسين بالسينما سيقابلك نبيل الشاذلي كثيرًا على تترات الأفلام الأجنبية على الأغلب كمخرج منفذ وأحد أعمدة شركة أفلام مصر العالمية. تلك كانت المرة الأولى التي نشاهده فيها مخرجا لفيلم تسجيلي كما نشاهد للمرة الأولى صورة سينمائية لبطل تربع على عرش العالم لسنوات.
ولد أبو هيف بمدينة الإسكندرية عام 1929 وعشق السباحة منذ صغره فأصبح بطلاً محلياً قبل أن يلتحق بأكاديمية ساند هيرست العسكرية في بريطانيا. ثم احتل عرش سباقات المسافات الطويلة عالميًا لسنوات عدة كما عبر بحر المانش. وانضم إلى قاعة مشاهير السباحة الدوليين بالولايات المتحدة .ونال لقب سبّاح القرن عام 2001 من الاتحاد الدولي للسباحة.
وعلى مدى 62 دقيقة يبرز الفيلم الإنجازات الرياضية بالتوازي مع الجوانب الإنسانية للسباح الراحل الذي أضفى على الفيلم الكثير من روحه المرحة المحبة للحياة. عبر سرد تلقائي متدفق لصديقه المخرج الذي يقف خلف الكاميرا. كما ضم الفيلم شهادات لسباحين عالميين وجوانب عائلية شديدة الخصوصية على لسان زوجته وابنه ناصر.
من بين نحو 12 ساعة موجودة كمادة مصورة اختار الشاذلي أن يخرج الفيلم ساعة واحدة فقط. ومن بين كل الأسباب التي كان على الفيلم أن يخرج بها كتأريخ لبطل عالمي خرج الفيلم الوحيد الذي يحكي قصته بعد موته.
لماذا كل ذلك؟
دفعني فضولي لمقابلة المخرج نبيل الشاذي -بلبل- كما كان يناديه أبو هيف.
أخبرني الشاذلي أنه اختار من البداية ضغط الفيلم وتقديم ساعة فقط تحمل إنجازات الرجل بالرغم من عدم رضاه عن ذلك.
كما قال إن الفيلم تأخر خروجه نظرًا لعدم توفر شرائط للمسابقات العالمية التي فاز بها أبوهيف والتكلفة الكبيرة التي تحملها لشراء بعضها من تليفزيون الدولة.
عندما قرر الشاذلي أن يعمل على فيلمه وفيلمنا لم يجد منتجا مباشرا للتعاون. المثير للسخرية أنه بدلًا من مساعدة تليفزيون الدولة لرجل يقدم فيلما كان من الأولى تقديمه من خلالهم واجه طلبات مالية مجحفة لمجرد توفير شرائط أصابها العطب من الركنة في الأرشيف.
توقف العمل في الفيلم لسنوات. وأنقذ القدر تراكمها عندما وجد ابن أبو هيف مصادفة بعض الشرائط والمسابقات في منزلهم. كان ذلك السبب الوحيد في توقف فيلم شديد الأهمية في توثيق قصة السباح الذي كان علامة في تاريخ العالم العربي خصوصًا والعالم عمومًا.
عندما قابل نبيل الشاذلي السباح العالمي أبو هيف كان بهدف إقناع والدة الرجل الذي عرفه بمثابة أخيه الأصغر لإقناعها برغبة نبيل الصغير في الهجرة من البلاد. كانت الأوضاع السياسية والاجتماعية في الستينيات في قلب حدوتة الفيلم بشكل غير مباشر.
فيلم سياسي مهما حاول صانعه تجنب الحديث السياسي عمومًا. وربما يمكننا فيما بعد أن ننتج أعمالًا توثق تاريخ أبطالنا وتاريخنا من خلالهم قبل أن يموتوا دون أن يروا توثيق إنجازهم.
في 2019 كان الشباب المصري يتراقص على أنغام نجم جيله الأشهر على الإطلاق الرابر ويجز يقول: معدّي الناس أنا أبو هيف/ احنا كوابيس تشوفنا تقول يا لطيف يا لطيف… إبقى استعيذ. كانت إشارة مذهلة من شاب عشريني وجمهوره صغير السن في الغالب. يبدو أنه يعلم عن بعد أنه قد عاش قبله في هذا البلد رجل “معدّي الناس” مثل أبو هيف. وربما ما يدعو للسخرية والتأمل هو كون ذلك في أغنية اسمها “باظت خالص”. كوصف يصلح لكل شيء باظت باظت.. باظت خالص.. باظط باظط.. متقولش للناظر فاهم.
فيلم “تمساح النيل” وثيقة تاريخية ولقطة مهمة كادت تسقط من تاريخ أعلامنا الكبار. يصلح كمادة فيلمية تعليمية للطلاب ودارسي تاريخ تلك البلاد عمومًا. مساحة تجريبية طويلة في المحاولة التي قامت على أكتاف صداقة عُمر وسعي صادق تمامًا في كتابة اسم بطل على جدران دولته. مهما كانت لدينا ملاحظات على إخراجه الفني.