عن أي موضوع أكتب؟

غبت أياما عن متابعة الشأن العام، ولما فكرت في الكتابة احترت في اختيار موضوع المقال، فهناك قضايا عالقة في حياتنا يمكن لأي كاتب بسهولة أن يخوض فيها وهو مغمض العينين، مثل غياب الديموقراطية ومشاكل الغلاء والظلم والتخلف الاجتماعي والسياسي، لكن هذه القضايا المزمنة تجدد ظهورها في حياة الناس من خلال أحداث وأخبار مثيرة للاهتمام والمتابعة والتعليقات التي تكشف عن طبيعة المجتمع وتمزقاته الفكرية والسياسية والأخلاقية، لهذا طرحت سؤالا على أصدقاء التواصل الاجتماعي: عن أي موضوع أكتب؟

التريند

تنوعت الإجابات، لكنها رسمت صورة شعبية للمشهد العام ونتائج تفاعلات الناس مع الإعلام وقضايا المعيشة، فقد تصدرت شيرين أبو عاقلة نتيجة الاستفتاء المصغر، تلاها موضوع الحوار السياسي الذي دعت إليه السلطة، وفي المركز الثالث جاءت المخاوف الاقتصادية والخوف من الأزمة التي يروج لها الإعلام الخارجي والداخلي معا على خلفية حرب الروس والغرب في أوكرانيا، ثم أعادت هذه القضايا نفسها في عناوين أخرى، فالاهتمام باغتيال شيرين أبو عاقلة ظهر في اقتراحات من نوع: اكتب لنا عن “الدم العربي” وبربرية الصهاينة، وهل يجوز للمسلم أن يترحم على شخص ليس من دينه مهما كان نافعاً أو طيبا؟، وهل أبو عاقلة شهيدة أم قتيلة وخلاص؟ وما مدلولات جنازتها وتعاطف الشارع العربي كله معها وتأثير ذلك علينا كعرب وكذلك على الصهاينة؟ وذكر بعض المعلقين أن أبو عاقلة “صارت رمزا لفلسطين”.. اكتب كيف أعادت لنا شيرين الأمل في أن أمتنا ستنتصر وتحرر فلسطين، هذا بجوار تعليقات أخرى تتناول ديانتها واستنكار الدعاء لها بالرحمة أو الصلاة عليها!

وتنويعا على موضوع الحوار ركز البعض على سؤال المصداقية: هل السلطة ناوية تطبق كلام المعارضة فعلاً أم الموضوع مجرد خدعة وتضييع وقت بهدف امتصاص غضب محتمل نتيجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة والحديث عن قرب إفلاس مصر؟، وركز الموجوعون من حال السجون على القضية الأبرز في موضوع الحوار السياسي، والتي يعتبرها البعض شرطا للقبول بالحوار وليس نتيجة له، بمعنى أن يسبق العفو والإفراج أي خطوة للحوار، وقال المعلقون في هذا: اكتب لنا عن المعتقلين والإخفاء القسرى والتدوير والظلم والقهر وعجز الأهالي والمحامين عن فعل أى شيء.

وربط أحد الأصدقاء بين الإرهاب والحوار السياسي قائلاً: عاد الإرهاب من جديد، وهناك دلالة مهمة للتوقيت، هل هي لإفشال المصالحة والحوار المزعوم أم لفرملة عملية الإفراج عن السياسيين، وهنا يثار السؤال: من إذن يحرك الارهابيين؟ ومن المستفيد من إفشال الحوار المزعوم أو خروج المعتقلين السياسيين من السجون؟

خارج التريند

اجتمع عدد من المشتغلين بالسياسة والقانون والمثقفين المهتمين بالشأن العام على طلب الكتابة في الأدب والسينما بهدف راحة الدماغ من السياسة وهمومها والحصول على قدر من الطاقة الإيجابية يفيد في دعم قدرة النفس على مواصلة الحياة في هذه الظروف الصعبة، وطلب آخر الكتابة عن أسباب تفشي الجرائم باعتبارها ظاهرة تدعو للقلق وتشير إلى تفسخ المجتمع، وسأل آخرون عن المستقبل، وكيفية التحرر من الخوف القاتل، وسبل زيادة وعي الشعب بخطورة الموقف الراهن، ولماذا سبقتنا كوريا الجنوبية بعد أن كنا السابقين؟، وقال ساخر بمرارة تكفي لختام الاقتراحات: اكتب لنا عن الحياة الرغدة اللي بنعيشها، عن المشاريع العملاقه التي نفخر بها، والاكتشافات العلمية المذهلة التي وضعتنا في مقدمة الأمم، اكتب لنا عن نعيم رخص الأسعار وارتفاع دخول الفقراء حتى صاروا أغنياء..

سؤالي وإجابة جحا

وعدت بكتابة إجمالية للمقترحات الرئيسية التي يقدمها الأصدقاء، وهذا يعني الاهتمام بثلاث قضايا: أولها جريمة اغتيال الإعلامية شيرين أبو عاقلة وعلاقتها بالجرح الفلسطيني في قلب كل عربي، وثانيها موضوع الحوار السياسي المزعوم، وثالثها سؤال المعيشة والاقتصاد الذي وصل بدولة كانت سلة غذاء العالم للقبض على مزارعين وإحالتهم للنيابة بتهمة عمل “فريك” من قمح زرعوه بأيديهم في غيطانهم الخاصة!

وعندما جلست للكتابة سألت نفسي: ما الجديد الذي يمكن أن أقوله لقراء يعرفون أكثر مني ويملون عليّ ما أكتب؟، ونطت في مقدمة دماغي حكاية جحا عندما استدعاه أهل القرية ليخطب في صلاة الجمعة، فصعد على المنبر وبعد الصلاة على النبي سأل المصلين: هل تعرفون ما أقول؟

قالوا: لا

فنزل من المنبر وهو يقول السلام عليكم ورحمة الله فما فائدة ما أقوله إذا كنتم لا تعرفون؟

فدعوه للجمعة التالية بعد أن اتفقوا أن يجيبوا بنعم

وصعد جحا على المنبر وسألهم: هل تعرفون ما أقول؟

قالوا نعم

قال وهو ينهي الخطبة: عظيم.. ما فائدة أن أكرر ما تعرفون.. أقيموا الصلاة

واتفق أهل القرية على الانقسام إلى فريقين أحدهما يقول: “نعرف” والآخر يجيب: “لا نعرف”، وعندما فعلوا ذلك في الجمعة الثالثة قال لهم جحا: اللي يعرف يبلغ اللي ما يعرفش، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.. أقيموا الصلاة

أنا مش قُصّير وأوزعة

حكاية جحا مجرد طرفة تتعارض مع الواقع، لأن واقع الحياة يخبرنا بأهمية أن نتكلم بما نعرف ونسأل عما لا نعرف، لأن المشاركة فعل إنساني يدعم الذات، النقاش نفسه مهم، تكرار الكلام الذي نعرفه مهم، لأنه يؤكد على ما نريد ويدعم معارضتنا لما لا نريد، فمن له أصدقاء أو زوجة أو خطيبة يتذكر عظمة أن يكرر كلمات الحب والمديح وذكر الصفات الحسنة، وإذا تأخر في تكرار ذلك ينزعج الطرف الآخر، وكل واحد فينا يحب أن يلتقط لنفسه الصور برغم أن الصور مجرد تكرار لمنظره، هذا الاستنساخ في الكلام والصور جزء من إحساس الناس بالأمان، سواء الزوجة التي تكتب بلا ملل عن زوجها الغائب في سجن أو في سفر، أو الرئيس الذي يحوم دوما حول مكان جريمته، فيطلق التصريحات وينتج المسلسلات ليكرر تعليق سيدة كرداسة الشهير بعد حرق قسم الشرطة وهي تنظر للضباط المغتالين: “أنتوا إلى عملتوا في نفسكوا كده”!

هذا يعني أن تكرار الكلام هو تأكيد لمعنى يسعى كل شخص لتثبيته، أنت تكرر: الحرية لمصر.. أو الحرية لفلان فقط، هذا يكشف عن نظرتك للحرية مساحة طلبك.

أنت تكرر رحمة الله على الجميع، أو على المؤمنين أو الطيبين أو المسلمين فقط، هذا يحدد مساحة إنسانيتك وفهمك للعقيدة ومقدار عشمك في كرم ورحمة الله.

أنت تشتم أو تحقد أو تتسامح أو تهتم بسلوك معين، هذا يكشف عن أخلاقك وسلوكك أنت، بحيث يمكننا أن نفهم حقيقة الشخص من خلال تحليل مضمون الكلام الذي يكرره، والمقصد الخفي من التكرار، وهذا يكشف أن التكرار هو نوع من “الاختيار”.. كل شخص يكرر الكلام في الموضوعات التي اختار التركيز عليها للنفي أو التأكيد، وإذا اتفقنا مع لومبروزو على أن المجرم يحوم عادة حول مكان جريمته، فإن فكرة التحقيق والتحقق تصبح مفيدة في استجلاء حقيقة وأهداف الحريصين على تكرار فعل ما، لنعرف هل هو تكرار المجرم أم تكرار الباحث عن الحقيقة؟

من فمك أدينك

فكرة التكرار والاختيار في الفقرة السابقة “لسه غامضة شوية”، لذلك نحاول تقريبها في هذه الفقرة: أنت تصلي على النبي، أو تبلغ أهلك أنك تحبهم، او تتحدث دائما عن غباء جارك، هذا ليس خبرا ينتهي بمجرد الإعلان عنه مرة واحدة، لكنه سلوك يكشف عن خريطة مشاعرك وانحيازاتك وأخلاقك وموقفك من العالم، وإذا وسعنا الموضوع أكثر، فإننا يمكن أن نفهم منه علاقتك بالقيم، وليس بالأشخاص.

يعني إيه؟

يعني الأخ العزيز الذي يرفض الدعاء بالرحمة لشخص آخر مختلف معه، شخص يرغب في احتكار الرحمة لفئة معينة، ويخشى أن تمتد رحمة الله إلى غيره، فهل يمكن أن يكون هذا الشخص مؤشرا على سماحة العقيدة التي يؤمن بها؟، أم إنه مشغول بالاحتكار والخصخصة ومحاباة فريقه دون سواه؟.. هل يمكن لمثل هذا الشخص أن يكون مؤتمنا على العدل تجاه خصوم اختلف معهم في قضية؟، أو التحكم في “أغيار” يقعون تحت سلطته إذا حكم؟، هل تصلح مثل هذه النماذج لتقيم نظام حكم يتسع لمعارضين أو ديموقراطية أو كفاءات علمية ومهنية لا تنتمي إلى الحزب أو الفكرة أو المعتقد الديني للحاكم الذي يحبس نفسه في نموذج يرفض الاعتراف بإنسانية المختلفين عنه؟!

هذا الأمر ليس تعليقا على رفض فئة ما الترحم على شيرين أبو عاقلة أو اعتبارها شهيدة بحجة أنها مسيحية، لكن توضيح للمنهج الذي ينطبق على أي حالة أخرى مثل عدم دخول طبيب القلب مجدي يعقوب الجنة أو عدم تهنئة فئات في المجتمع بمناسباتهم لأنهم من المخالفين للعقيدة، فالمنهج العام يساوي بين ديكتاتور وبين شخص (قد يكون من ضحايا القهر) لكنه لو وصلت إليه فرصة الحكم وهو بهذه العقلية سيمارس أشد أنواع البطش بخصومه ولن يرحمهم أو يدعو لهم برحمة الله، وأعتقد أن هذا الفهم يكسر الحواجز الوهمية المصطنعة بين الضجة التي أثيرت بشأن الترحم على الإعلامية “النصرانية”، وبين الرغبة الحقيقية في الدعوة إلى حوار سياسي من جانب سلطة لا تؤمن أصلا بفكرة الحوار، لكنها تستخدم الكلمة كفخ توهم به الجياع أن الحصى الذي يتم إليه في الماء هو طعام قيد الطهي، بينما الهدف هو تنويم الجياع، وليس تقديم حل لمشكلة الجوع، وهذا يفضي إلى المقترحات التي تحدثت عن المخاوف من أزمة المعيشة وطريقة التعامل المنتظرة من جانب السلطة لها، وبناء على هذا لن أكرر كلاما اخترته في مواجهة كلام المعارضين، بالعكس سأكرر كلام المعارضين وأحرضهم على استكمال منهجهم لنهايته، فالشخص يجب أن يتسق مع معتقداته.. فهي أفكاره و”اختياره” وبالتالي لا يصح أن يتلاعب بها ويتقافز بينها ويتشدد فيها مرة ويفرط فيها مرات، ولهذا أوافق الإخوة الذين يرفضون الترحم على مخالفيهم، وأدعوهم إلى المزيد لكي أحترمهم إذا كانت لديهم الشجاعة للتمسك بمواقفهم كل الوقت وفي كل المواقف..

يعني إيه مكرر؟

يعني يا أخي ويا أختي التي تفهم أن دينها يعني مصادرة الحياة والعدل والرحمة على كل من لا يشبهك.. أنتم على حق، لا تترحموا على شيرين أبو عاقلة واعترضوا على دخول يعقوب الجنة (إذا كنتم قادرون)، بشرط أن تكسروا الموبايل الذي في أيديكم وتتخلصوا من الكومبيوتر والتليفزيون والسيارة والمترو وحقنة البنسلين وكل الأدوات التي اخترعها أو شارك فيها نصارى ملعونون خارج الملة.

في هذه الحالة التي أشعر فيها أنك قادر على العيش بمقوماتك فقط دون الحاجة لخلق الله الآخرين، يمكنني أن أحترم ما تقوله وتدعوا إليه، وأصدق أن الله الذي أمهل الشيطان لأداء مهمته سيطهر لك الأرض من رجس المخالفين، أما أن تتزوج من مسيحية وتحارب وتسافر وتستمتع بأدوات اخترعها آخرون لا تحترمهم ولا تدعو لهم بالخير والرحمة، فأنت شخص أنوي جاحد، غير مؤتمن، وغير منصف، و”اختيارك” يكشف عن مكنون نفسك الاحتكارية الخبيثة، مهما حاولت أن تبرر اختيارك بالكباب إن فشل الإرهاب، أو بالحوار إن فشل القمع وفسدت السياسات وتعرت الانجازات.

وعد بالعودة

وفي مقالات مقبلة نستكمل الحديث عن الحوار والإفلاس ونكشف عن كوامن الخديعة بأسلوب الذهاب مع الكداب حتى الباب، سنمد خط كلامك المكرر على استقامته ولن نعترض على ما تقول، بالعكس سنريده ونوسعه ونعممه ونسافر معك إلى نتائجه لنراها واضحة أمام الجميع وتحت ضوء الاتساق مع الفكرة إلى آخرها، فإلى لقاء.

إهداء: إلى يحيى حسين عبد الهادي والإمام أحمد بن حنبل