أثار تقرير الأستاذ محمد سيد أحمد بشأن “اقتصاد الحرب” الذي نُشِرَ منذ أيامٍ بموقع مصر360 في نفسي ما أثار من شجون. أعادني التقرير نصف قرنٍ إلى الوراء. كنت لا أعي من الأمر شيئًا سوى أن جيشنا العظيم بقيادة الرئيس السادات قد خَدع بِبِالغِ القدرة والاقتدار ذلك البُعبُع المغرور صاحب الابتسامة الباهتة والعصابة السوداء على عينه اليسرى فألقى به في مكانٍ قَصيٍ بجحيم التاريخ الذي ظَنَ هو وزُمرته أنهم قد امتلكوا ناصيته إلى الأبد. مَرت الأعوام سريعًا ولم أعُد أنا ذلك الغِرُ الذي انتشى فَرِحًا بشوارعِ القاهرة العتيقة على وَقْع زلزال أكتوبر 1973 الذي انفجر من رمال سيناء ليصيب شاهق بنايات عواصم العالم بتصدعٍ مازال يؤلمها.
مَرت الأعوام وقد جَرت تحت جِسرِ حياتي مياهٌ كثيرة أصقَلت رؤيتي لحرب أكتوبر وترتيباتها المسبقة وما تَلَاها من وقائع. قرأتُ قَدر الاستطاعة ودَققتُ كثيرًا والتقيت مراتٍ ومرات ببعض صانعي الحدث البديع فرَاكَمْتُ من الرؤى ما يُعين على محاولات الفهم شابًا وكهلًا وشيخا. ذَكَّرَني تقرير الأستاذ محمد سيد أحمد بما عرفته من ترتيباتٍ للحرب كان من أهمها هو ما حدثنا عنه الدكتور “عزيز صدقي” حين استدعاه الرئيس السادات -وقد كان يشغل قبيل أكتوبر 1973 منصب مُساعد رئيس الجمهورية- وسأله عن قدرة البلاد على تحمل الحرب دون أزمات اقتصادية.
درس الرجل الأوضاع وأقَر بأن سلعةً لن تنقص في الأسواق لمدة أربعة أشهر فكان “قرار” الرئيس بالحرب مَدعومًا “بإقرار” مُساعِدِه. كان هذا هو أقرب الأمثلة إلى تصوري عن اقتصاد الحرب أو فلنَقُل -للدقة- عن “الظل” الاقتصادي للمعارك العسكرية التي تدور على الأرض رُحَاها.
تشابكت العلاقات الدولية خلال نصف القرن الذي عِشتُه -زائدًا عَشرًا من السنين- فتطورت بها مُقدمات الأحداث وتَعَقدت على إثرها نتائجها، وبَقِيَ الاقتصاد ظِلًا للمعارك بقدر كونه مُحَرِكًا لها. الاقتصاد بهذا المفهوم فاعلٌ ومفعولٌ به في نفس الآن، فالاقتصاد فاعلٌ بِحُكم كونه دافعٌ لاندلاع الحروب (السيطرة على المواد الأولية ومصادر الطاقة مثالًا)، والاقتصاد أيضًا مفعولٌ به بِحُكم تَأَثُر غير المُشاركين في تلك الحروب بتبعاتها الخارجة عن الإرادة المباشرة وقد أصبح الكون بأسرِه -بسبب تشابك المصالح وتعدد التناقضات- مجتمعٌ واحد تقع مصر في القلب منه.
“الحقيقة العظمى في كيان مصر ونقطة البدء لأي فهم لشخصيتها الاستراتيجية، هي اجتماع موقع جغرافي أمثل مع موضع طبيعي مثالي وذلك في تناسب أو توازن نادر المثال، فالموقع والموضع هنا متكاملان جدا في الدور ومتناسبان إلى حد بعيد في المقياس، فكل منهما ضخم الحجم أو الخطر، ولكن في تناسق دقيق وشبه محسوب، فمصر ليست موقع أو موضع هام، بل الاثنان معا، ليست مجرد ممر أو مقر خطير، بل كلاهما، ليست مجرد محطة طريق حاسمة أو صومعة غلال ضخمة، بل هي هما على السواء”، هكذا تحدث الدكتور “جمال حمدان” عليه رحمة الله*.
من هنا نبدأ بالتأمل في سؤال الأستاذ/ محمد سيد أحمد، لنشرع في قراءة التاريخ بالجغرافيا في سياقٍ علمي مع دراسةٍ للواقع وتناقضاته ومن ثَم تفكيكها بُغية التنبؤ بما يَدخره المستقبل من أحداثٍ حُبلى بمخاطر يتعين إدارتها بأعلى قدر من اليقظة والحذر. الحرب “حالة” أكثر من كونها مجرد حدث يقع وينتهي بانسحاب الجيوش المقاتلة كما في المعارك العسكرية. الاقتصاد بآلياته هو أحد أدوات تلك الحالة التي قد تصيب مجتمع ما بطريق غير مباشر كما أسلفت. مصر بهذا المفهوم تقع في قلب المعركة الدائرة حاليًا في أوكرانيا رغم كونها بعيدة جغرافيًا عن مسرح عملياتها العسكرية، والأمر عندي لا يقتصر على مجرد مواجهة صعوبات تكتنف حياة المصريين بغرض التخفيف من آثارها الحالية التي تسببت فيها تلك المعركة لكنه، يمتد ليشمل الاستعداد لمواجهة المخاطر المُحتملة لتلافي آثارها في المستقبل**. نعود إلى التقرير الهام الذي حوى نقاطًا متعددة أُضيفُ إليها ثم أُصَنِفُها بشكل تجميعي حسب تجانسِ طبيعتها في ثلاثة محاور رئيسة على النحو التالي:
“المحور الاقتصادي والتنموي” ويشمل الموضوعات ذات الصلة بتحديد طبيعة دور الدولة ومدى تدخلها في العملية الاقتصادية وتوصيف نمط الإنتاج المأمول، وتصميم حلول التنمية المستدامة -لا مجرد النمو- مع تحديد حصص التوزيع النسبي التقريبية لمساهمة قطاعات الأعمال العامة والخاصة والتعاونية في التنمية، ورسم سياسات لتطوير التصنيع وتحديث الزراعة بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي كليًا أو جزئيًا خلال أمدية زمنية محددة، وابتكار آليات غير تقليدية للنهوض بالصناعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، وتخطيط عناصر حماية البيئة وما يرتبط بها من تحديات المناخ ومستقبل الطاقة النظيفة.
“المحور المالي والنقدي” ويشمل الموضوعات المتعلقة بمواجهة مشكلات الموازنة العامة كالعجز الكلي وكيفية تقليصه وسُبل تمويله والتوزيع النسبي لبنود الانفاق وإحكام إدارتها والرقابة عليها والبدائل الضريبية المتاحة ووسائل تعظيم الموارد في ظل كل الاحتمالات التي يتم تحديدها استخدامًا لمعايير إدارة المخاطر، بالإضافة إلى ما يرتبط بحلول معضلات ميزان المدفوعات واحتياطي النقد الأجنبي والدين العام والتضخم، وكذلك ما يُقتَرَح لتطوير سوق المال ليكون وعاءً لاستقطاب الاستثمار الأجنبي المباشر.
“المحور الاجتماعي والتشريعي” ويشمل الملفات المرتبطة بالسكان والتعليم والصحة والبطالة والثقافة وتمكين المرأة ومكافحة التمييز وتطوير تشريعات الاستثمار والعمل بمفهومها الشامل.
وأحسب أن مُلتقى للاقتصاديين الوطنيين علي اختلاف مدارسهم الفكرية قد يكون مطلوبًا لمناقشة هذه المحاور وما تحتويه من بنود فرعية وما يُحتَمَل أن يضاف إليها، ومن الممكن إدراج تلك المحاور على جدول أعمال الحوار الوطني المُزمَع عقده والذي إن تمت إدارته بما يليق بأهدافه فسيمثل فرصة سانحة لا ينبغي إهدارها حيث يوفر لُحمةً وطنية مُتَجَرِدة وتلاقيا تاريخيا يحقق احتواءً تستوجبه متطلبات اليوم وتستدعيه آفاق الغد من أجل بناء تركيب اقتصادي جديد تتجاوز مصر بموجبه تحديات الواقع ويحمل هو لها مكانًا مُستَحَقًا تحت شمس المستقبل.
*انظر صَفحَتَي 690 و691 من الفصل الخامس والعشرين- الجزء الثاني “شخصية مصر”- طبعة دار الهلال 1994.
**انظر مقالات الكاتب عن إدارة المخاطر بموقع مصر360.