أضافت العودة المشروعة للإسلاميين إلى الشارع السياسي في السودان إلى ثوب “التيار الإسلامي العريض” مزيدًا من الارتباك للمشهد السياسي السوداني. مع استمرار الحرب الباردة بين أطراف العملية السياسية من أحزاب وتيارات مدنية ومكون عسكري ممثلًا في مجلس السيادة والحركات المسلحة من جانب آخر.

وقد وصلت حالة الاضطراب السياسي في السودان إلى أوجها مع انقلاب قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان على المكون المدني وعزله من الإدارة المشتركة للمرحلة الانتقالية بتجميد الوثيقة الدستورية في 25 أكتوبر من العام الماضي. وهو أمر تواصلت معه حالة الارتباك إلى حد إعلان 8 تنظيمات سياسية ذات مرجعية إسلامية، تضم بعض عناصر حزب المؤتمر الوطني المنحل، تدشين “التيار الإسلامي العريض” الشهر الماضي. ذلك دون اعتراض رسمي من السلطات السودانية، ممثلة في مجلس السيادة الجديد.

اقرأ أيضًا: خلافات العسكريين والمدنيين تضعف فرص التحول الديمقراطي في السودان

في المؤتمر الصحفي نفسه الذي أعلن الإسلاميون خلاله تدشين التيار الإسلامي العريض، كان منتمون لنظام الرئيس البشير وقادة جماعة الإخوان أبرز الفاعلين. وقد ضم التيار حزب “حركة الإصلاح الآن” بقيادة غازي صلاح الدين. وهو رجل عمل مستشارًا سابقًا للرئيس المعزول عمر البشير. كما شغل عدة مناصب في حكومة الإنقاذ منها وزير الإعلام، قبل أن ينفصل ويؤسس تنظيمًا إسلاميًا منفصل في 2013.

كذلك ضم هذا التيار الإسلامي حزب “منبر السلام العادل” المنتمي للإخوان. بالإضافة إلى جماعة “النهضة والتجديد” التي يتزعمها الإخواني محمد المجذوب. وأيضًا حزب جماعة الإخوان المسلمين بفصيليه.

عودة الإسلاميين.. مناورات العسكر

ورغم عدم تعليق الجهات الرسمية في السودان على تدشين التيار الإسلامي بالعرض أو الإشارة للسماح لهم بالعودة لممارسة النشاط السياسي، نشر عدد من الصحف السودانية تقارير تؤكد عدم تحالف الجيش ومجلس السيادة مع أي من رموز الإسلاميين. كذلك أكدت هذه التقارير استمرار السعي لتحقيق توافق وطني واسع يستثني حزب “المؤتمر الوطني” في أي حوار يجمع أطياف المجتمع السياسي السوداني.

وعلى عكس ما بدا من التطمينات الرسمية بعدم السماح للإسلاميين بدخول الحياة السياسية في السودان. فإن أحكام قضائية بدت أكثر مرونة مع الإسلاميين. وذلك منذ عزل وحبس قيادات لجنة التفكيك ومصادرة الأصول المرتبطة بالنظام المنحل وحزب المؤتمر الوطني.

وهو ما أكدته الشهور القليلة الماضية. فقد أعادت محكمة خاصة إلى العمل عشرات من موظفي البنك المركزي والقضاء والنيابة العامة ومكتب رئيس الوزراء ووزارة الخارجية ووسائل الإعلام الحكومية من بين مؤسسات أخرى، كان قد تم عزلهم بداعي انتمائهم للنظام المنحل. وكذا تمت إعادة تكليف بعض الدبلوماسيين العائدين بقيادة بعثات في الخارج.

الإسلاميون وتهديد الحوار

يرى مراقبون أن عودة التيار الإسلامي العريض مبكرًا إلى الساحة السياسية والمجتمعية سيكون أولى العقبات أمام إنجاح المباحثات السودانية – السودانية التي تسيرها الآلية الأممية الثلاثية، وتضم بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، وتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير المجلس المركزي وقوى إعلان الحرية الموالية للجيش وغيرها من الأحزاب كالحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل. إذ كانت أولى شروط “الحرية والتغيير”، رفض الدخول في أي حوار يأتي بفلول نظام الإخوان الذي أسقطته الثورة الشعبية.

ومع انطلاق الجولة الثانية من المباحثات أمس السبت، أكدت قوى إعلان الحرية والتغيير، في بيان صحفي آخر، أنها أبلغت الآلية الأممية بعدم السماح لمن أطلقت عليهم فلول النظام والقوى الانقلابية والإسلاميين، ببناء حاضنة سياسية عبر العملية السياسية. الأمر الذي تخشى قوى إعلان الحرية والتغيير أن يؤدي إلى الانحراف عن أهداف قوى الشارع التي تتمسك بإنهاء الحكم العسكري، وتأسيس مسار مدني حقيقي.

ذكر البيان أن “استمرار استخدام العمل الشعبي السلمي باعتبار الحل السياسي مكملًا له، بكونه إحدى آليات نقل السلطة لقوى الثورة”.

إلى ماذا يسعى الإسلاميون؟

يذكر ميثاق “التيار الإسلامي العريض” أن الهدف من تأسيس هذا التحالف الإسلامي “الحرص على تنزيل قيم الدين على أوجه الحياة السودانية. بالإضافة إلى بسط الحريات العامة وصيانة الحقوق. وأيضًا إصلاح الشأن السياسي في البلاد. مع تأكيد حاكمية الشورى وإعلاء البعد المؤسسي وتوسعة قاعدة المشاركة في الشأن العام”.

وقد بدأت المطالب بإطلاق سراح قادة إسلاميين كانوا في السجون على خلفية بلاغات من لجنة إزالة التمكين المجمدة. وعلى رأسهم زعيم حزب دولة القانون والتنمية محمد علي الجزولي.

هذه الأهداف المعلنة لقوى “التيار الإسلامي العريض” في حد ذاتها ينظر لها باعتبارها مهددة لمسار الانتقال الديمقراطي، الذي لا يزال يشهد حالة لا منتهية من الجدل والتشتت بين أطراف الشارع السياسي. حيث يتردد بين القوى السياسية أن سكوت المكون العسكري على عودة الإسلاميين، بل وإضفاء حالة من الشرعية عليها من خلال السماح لهم بالإعلان عن كيان سياسي وإخلاء سبيل عدد من القيادات الإسلامية، هو محاولة لإضعاف التيار المدني. خاصة وأن القوى الإسلامية لا تزال تحظى بنوع من التنظيم والقدرة على الحشد. ما يمكنها من الحفاظ على وضعها عبر أي انتخابات مقبلة.

لماذا يخشى المدنيون عودة الإسلاميين؟

لقد أثرت تجربة حكومة الإنقاذ الإسلامية خلال عهد الرئيس المعزول عمر البشير لأكثر من ثلاثة عقود، وخلفت كراهية واسعة في الشارع السوداني لجماعة الإخوان. إلا أن بعض التيارات الإسلامية لا تزال تحتفظ بمكانتها في الشارع السياسي بالبلاد. وهو ما يزيد من شكوك التيارات المدنية من قدرة الإسلاميين على العودة في إطار جديد بمساعدة المكون العسكري.

ومما يزيد مخاوف التيار المدني من دعم عسكري مستتر للإسلاميين هو توقيت الإعلان عن “التيار الإسلامي العريض”. وقد جاء بعد أيام من الإفراج عن 13 قياديًا إخوانيًا، بينهم إبراهيم غندور، ومحمد علي الجزولي، وأنس عمر. وكانوا تعرضوا للاعتقال لعدة أشهر، متهمين بالإرهاب وإثارة العنف.

وقد استولى الرئيس المعزول عمر البشير على السلطة عبر انقلاب عسكري في 1989. لكنه سرعان ما لبس عباءة الإسلاميين وسمح بشيوع ونفوذ الفكر الإسلامي المتشدد. فتبنى حزب “المؤتمر الوطني” الحاكم سابقًا، فكر جماعة الإخوان. وشهدت تجربة الحكم خلال هذه الفترة حالة من الاندماج الطائفي الإكراهي في التعامل مع قضايا التعدد الاجتماعي والسياسي في المجتمع السوداني.

عين على صناديق الاقتراع

أبرز نقاط الخلاف بين التيارات المدنية والمكون العسكري هو التعجيل بموعد الانتخابات. إذ يرى العديد من التيارات المدنية أهمية تأجيل خطوة الانتخابات لإتاحة الفرصة للأحزاب والتيارات الثورية الجديدة. ذلك لكسب أرضية واسعة داخل الشارع السوداني، ومنع عودة فلول النظام المنحل. وهي المخاوف التي سرعان ما ترجمتها تصريحات قادة التيار الإسلامي العريض منذ الإعلان عن تأسيسه.

ويدعو منتمون للتيار الإسلامي الجديد إلى أهمية انعقاد الانتخابات في أقرب وقت. كونها المسار الديمقراطي الآمن لاختيار الحكومة وبناء مؤسسات الدولة. خاصة مع حالة العنف والاضطرابات التي يشهدها الشارع السوداني، واعتبار أنفسهم التيار الوحيد الأكثر تنظيمًا والأكثر قدرة على الحشد والفوز بصناديق الاقتراع.

ولم يقتصر الأمر على الدعوة بالتعجيل بالانتخابات. إلا أن تصريحات للقيادي الإسلامي ربيع عبد العاطي حذرت من تأخير الانتخابات كونها مغامرة غير محسوبة العواقب، من شأنها الإضرار بوحدة ومصير السودان، متهمًا تعدد مراكز القوى بأنه السبب وراء الانفلات الأمني وغياب القانون في السودان. خاصة مع ضعف الأحزاب السياسية التقليدية وانعدام القواعد الشعبية الفاعلة لدى الأحزاب الليبرالية والعلمانية. بالإضافة إلى تآكل قواعد قوى الحرية والتغيير بسبب فشلهم السياسي في الأعوام التي تلت سقوط الإنقاذ.

اقرأ أيضًا: كيف تتعامل واشنطن مع انقلاب أحرجها في السودان؟

وامتلأت صفحات المواليين والمؤيدين للقوى الإسلامية بكتابات تؤكد القوة السياسية للتيارات الإسلامية وفاعليتها في المجتمع السوداني. مراهنين على القدرة على إظهار ذلك في أقرب انتخابات ستعيد الإسلاميين إلى حكم السودان عبر البوابة الديمقراطية.

كان حسن عثمان رزق، الوزير السوداني السابق ونائب رئيس حركة “الإصلاح الآن”، أعلن عن خوض التيار الإسلامي العريض أي انتخابات حرة ونزيهة. حيث سيكون له مرشح  في الانتخابات الرئاسية المقبلة. مؤكدًا أن التيار الإسلامي لن ولم يكن واجهة للمؤتمر الوطني المنحل.

الرفض الدولي.. عودة الإسلاميين

ويبقى الرفض الدولي لعودة الإسلاميين لتصدر المشهد السياسي في السودان، بمثابة حائط صد لتبديد مخاوف التيارات المدنية من بروز نجم التيارات الإسلامية مرة أخرى، والحيلولة دون أي مناوشات سياسية يقوم بها المكون العسكري. خاصة مع ربط القوى الدولية المساعدات ورفع العقوبات بعدم وجود الإسلاميين في الحكم أو الحياة السياسية في السودان.

وقد علق وفد أوروبي أمريكي الشهر الماضي على عودة الإسلاميين. وقال بيان صحفي إن هذه العودة ستزيد من حدة التوترات في المجتمع السوداني. كما أنها تعرقل تنفيذ الإصلاحات التي تعد وحدها الضامن لاستمرار المساعدات والدعم المالي المقدم للحكومة السودانية، بما في ذلك الإعفاء من الديون.

ولا يمثل التعويل على دور للقوى الدولية ذو أثر كبير في التجربة السياسية بالسودان. إذ تبقى الإدانات الدولية والضغوط على قادة مجلس السيادة الانتقالي منذ الإطاحة والانقلاب على المكون المدني غير ذي جدوى. ذلك رغم التهديد بخفض المعونات الدولية والتلويح الأمريكي بالعقوبات على المشاركين في الانقلاب، عقب تصويت بالإجماع من مجلس الشيوخ الأمريكي بإدانة الانقلاب العسكري.

ولا تزال الجهود الأممية لإنجاح الحوار السياسي تواجه تحديات بالغة. مع جمود مواقف القوى المشاركة في الحوار من الطرفين المدني والعسكري على حد سواء. وقد يكون من الصعب أن يتخطى التيار الإسلامي المنتمي لجماعة الإخوان في السودان حالة من الكراهية والرفض الواسع في الشارع. لكن حسابات من يديرون المرحلة الانتقالية قد تتفق وتساعد في عودة مشروعة للإسلاميين. خاصة مع استمرار حالة التشتت وعدم التوافق بين تيارات المكون المدني.