في أكتوبر/ تشرين الأول 2012 احتجزت القوات البحرية في غانا سفينة التدريب العسكرية “ليبرتاد” أعرق القطع العسكرية الأرجنتينية وعلى متنها أكثر من 300 فرد. وذلك تنفيذا لحكم محكمة لصالح شركة “إن إم إل كابيتال” التابعة لصندوق إليوت الأمريكي للاستثمار. والذي أتاح لها الاستيلاء على السفينة بعد أن قدمت الشركة ما يُثبت استدانة الأرجنتين للشركة وتخلف الحكومة الأرجنتينية عن الدفع.
وأُفرج عن السفينة بحكم من المحكمة الدولية لقانون البحار التابعة للأمم المتحدة بالتوازي مع تسوية مع الحكومة الأرجنتينية بجزء من مديونتها. وذلك في يناير/ كانون الثاني عام 2013. وهو الشهر الذي استقلت فيه رئيسة الأرجنتين طائرة خاصة في رحلتها إلى آسيا بدلاً من طائرتها الرئاسية بعد تحذير من محاميها من احتمالية احتجاز الطائرة الرئاسية واستيلاء الدائنين عليها. وهو السبب نفسه الذي منع الرئيسة من إرسال الطائرة للصيانة الدورية خوفا من استيلاء الدائنين عليها.
قبل تلك الحوادث بأكثر من 40 عاما خرج الجنرال خورخي فيديلا من الحكم بعد 5 سنوات من حكم عسكري قاس ومؤلم بيد الجنرال الأرجنتيني الذي ترك البلاد في بركة من فقر شديد عانى منه الملايين. والذي كان عبر طريق رسمته له وصفات وتوصيات صندوق النقد الدولي. بداية من تعويم العملة والإجراءات التقشفية وصولاً إلى بيع المنشآت والأصول الحكومية.
ولكن الأكثر رعبا كانت الديون التي تضاعفت في عهده 5 مرات. كل ذلك راح هباءً منثورا دون إنجاز أي مشاريع إنتاجية تُسهم في تسديد الديون أو إصلاح الاقتصاد. وبعد أن تركها ورحل ظلت الأزمة تتفاقم جراء فوائد تلك الديون والديون الجديدة لتسديد أقساط وفوائد الديون الأولى. حتى انفجرت الأزمة عام 2001 بإعلان الدولة إفلاسها وعدم قدرتها على تسديد أقساط الديون وفوائدها. وهو ما تكرر مرة أخرى وأصبحت الدولة رهينة للدائنين وتجار الخراب من المستثمرين في الديون وفوائدها والذين حققوا أرباحا وصل بعضها إلى 3000%.
عزيزي القارئ. في هذه اللحظة التي تقرأ فيها هذا الكلام لا يزال الملايين من أبناء الأرجنتين يُعانون تبعات الخراب الذي صنع بهم قبل 40 عاما. حتى إن ملايين الناس يعتمدون على مطابخ عامة ومعونات غذائية وجمعيات خيرية ودينية لسد حاجة بطونهم من الطعام الكافي بالكاد لبقائهم أحياء. ومئات الأطفال الذين ينتظرون طعام المدارس المدعوم للغذاء.
ولقد جاء إعلان رئيس وزراء مصر عن نية الحكومة بيع مواني وفنادق وشركات حكومية وأخرى تابعة للقوات المسلحة باعثا الرعب في نفوسنا جميعا. فهذا النظام الذي يتصرف في المال العام واقتصاد الدولة وثروة الأمة بأكملها كماله الخاص يجعلنا نموت رعبا. ويجعل كل صاحب ضمير يسأل لماذا تباع أصول مصر؟
ثماني سنوات ونحن نرى كيانات اقتصادية تنشأ بأموال عامة وعن طريق أجهزة ومؤسسات عامة وتعلو أسماؤها وتسيطر على السوق ثم تختفي. لا نعرف لماذا صعدت ولا لماذا اختفت ولا كيف أنشئت دون أدنى رقابة. وتذهب كيانات وتأتي كيانات أخرى لا أحد يدري عنها شيئا. لأنها مثلها مثل كل شيء في مصر ممنوع الاقتراب أو التصوير أو السؤال أو الكلام.
ومرت السنوات وراء السنوات والأحوال المعيشية للغالبية العظمى من المصريين في تدهور. ومعدلات الفقر في زيادة وأرقام الديون تزداد بشكل هيستيري ولا يجرؤ أحد على السؤال.
بلا شك كانت مصر تُعاني من أزمة اقتصادية قبل تولي النظام الحالي مقاليد الحكم. وقد بلغت الديون الخارجية نحو 44 مليار جنيه. كان يمكن للمعونات والمنح والهدايا التي دخلت الدولة بعد ذلك -التي شبعنا تقريعا ومعايرة من أصحابها- أن تُنقذنا من تلك الأزمة. وتُزيح همّ الديون الخارجية وفوائدها وخدماتها وعمولاتها. وتفك أسر الموازنة العامة أو كانت لتُصلح منظومتي التعليم والصحة فتجعل المستقبل أكثر إشراقا لهذا البلد. ولكن ويا للكارثة في بلادنا التعيسة تفاقمت أزمة الديون وتضاعفت مرات عدة لتصعد من 44 إلى أكثر من 150 مليار دولار وأصبح أكثر من نصف الموازنة يذهب لخدمة الديون.
فلماذا يتم بيع المواني والشركات المنتجة المساهمة في الموازنة؟
للإنفاق على مشاريع لم يوضع لها دراسات جدوى-إن كان لها جدوى من الأساس؟
أم لتسديد ديون أنفقت دون أدنى مشاركة سياسية أو مجتمعية على تلك المشاريع؟
إن الخطوة الأولى التي لا بديل عنها لوقف هذا السيناريو الجحيمي هو وقف الإهدار والمال السائب وإعادة انتخاب المؤسسات الدستورية البرلمانية والمحلية. لتشكيل رقابة شعبية حقيقية على ثروة هذه الأمة وإعادة وضع أولويات الإنفاق. وهذا ما لا مفر منه لوقف ضياع البلاد. تلك الأولويات التي يأتي على رأسها وقف طوفان الديون الذي أغرق البلاد. وتوجيه النسبة الأكبر لمشاريع إنتاجية تسهم في دعم الاقتصاد وأخرى اجتماعية لمحاربة الفقر والجوع.
“أوقفوا بيع البلاد!”.