على عكس ما يحاول عدد من المحللين الروس ترويجه، لا يمكن اعتبار الصراع بين روسيا وأوكرانيا. أزمة أوروبية ذات أبعاد إقليمية في المقام الأول. بل أتى بالعديد من التداعيات العالمية. فقد أصبح الصراع الذي اندلع في أوروبا عاملا مساعدًا، أدى إلى تفاقم الأزمات في مناطق أخرى. مثل قرار تركيا بإطلاق عمليتها العسكرية الخاصة في شمال العراق، أو تعقيد الوضع في ناجورنو كاراباخ -وإن كان بشكل غير مباشر- وربما حفز قيادة كوريا الشمالية على استئناف تجارب الصواريخ ، وما إلى ذلك.
في الوقت نفسه، قد تمتد تداعيات الصراع في أوروبا للمناطق الغارقة في عدم الاستقرار والوجود العسكري والسياسي الروسي المهم. مثل الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا. أو الدول الهشة للغاية في القارة الأفريقية. ما يعطي الشعور باحتمالية تصعيد جديد في الأشهر المقبلة.
أيضا، كان للصراع تأثير سلبي واضح على المحادثات متعددة الأطراف، بشأن برنامج إيران النووي. صارت هناك مخاوف بشأن الامتثال لاتفاقية الأسلحة البيولوجية، واتفاقية جنيف بشأن أسرى الحرب، واتفاقية جنيف بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب. وغيرها من الصكوك القانونية الدولية المتعلقة بالحرب.
يعتقد المتشائمون أن الحرب أحدثت مواطن خلل في العلاقات الاقتصادية لا رجوع فيها. حيث تعمل الأزمة فقط على تسريع الاتجاه الحالي، لتراجع العولمة وتفكك الاقتصاد العالمي. أمّا المتفائلون، فيرون أن هيكل التجارة والاستثمار والتمويل العالمي لا يزال يتمتع بهامش استقرار كبير. يجب أن يمنع العالم من الانزلاق إلى ركود جديد، أو نقص مزمن في الغذاء، أو تخل مسعور عن الدولار. باعتباره العملة الاحتياطية الدولية الرئيسية.
اقرأ أيضا: أحاديث الحرب تشعل أسواق أوروبا.. الدولار يربح وتركيا الأكثر تضررًا
ارتفاع احتماليات الركود
تشير أحدث تقديرات البنك الدولي في مطلع إبريل/نيسان الماضي. إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا، سينكمش بنسبة 45.1% في عام 2022. بينما سينكمش الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 11.2%. لأن التأثير السلبي على الاقتصاد موجود بالفعل، ويمتد إلى ما هو أبعد من المشاركين المباشرين في الصراع.
وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي، تبين أن التطورات الأخيرة في أوكرانيا، كانت من بين العوامل الرئيسية. التي تبطئ تعافي الاقتصاد العالمي، من الأزمة التي أحدثتها جائحة فيروس كوفيد 19. اضطر صندوق النقد إلى خفض توقعاته للنمو الاقتصادي للعام الحالي لـ143 دولة، والتي تمثل مجتمعة 86% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
حاليًا، يقوم الاقتصاديون بتعديل توقعاتهم الإجمالية للتنمية الاقتصادية على مستوى العالم. مخفضين توقعاتهم من نمو بنسبة 3.6% إلى نمو بنسبة 2.6%. تمتد التعديلات إلى عام 2023، مع انخفاض بنسبة 0.2% في مؤشرات النمو المتوقعة سابقًا. وقد تكلف الزيادة الحادة في أسعار الهيدروكربونات، والأغذية، والأسمدة المعدنية. إلى جانب إعادة هيكلة سلاسل النقل، واللوجستيات الدولية. بالإضافة إلى مواطن الخلل الناشئة في أنظمة الدفع العالمية، الاقتصاد العالمي/ ما يقرب من تريليون دولار أمريكي في عام 2022، أي حوالي 1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
قد يؤدي تزايد عجز الميزانية -بما في ذلك المبالغ الناجمة عن تزايد الإنفاق الدفاعي- إلى زيادة الديون السيادية في العديد من الدول. من المرجح -وفق تقديرات صينية- أن يرتفع التضخم العالمي. الذي تصاعد بالفعل في العامين ونصف العام الماضيين، بنسبة 2-3% أخرى في عام 2022 -تصل إلى 5.7% للاقتصادات المتقدمة وحتى 8.7% للدول النامية. يليها 1.5- 2% عام 2023.
ربما إذا امتدت المواجهة بين روسيا وأوكرانيا لبضعة أشهر أخرى، فسيتعين تعديل هذه الأرقام صعودًا مرة أخرى. وسيتحول تصاعد التضخم غير المسبوق إلى تضخم مزمن. حيث يفترض بعض الاقتصاديين في الغرب احتمالية ركود عالمي جديد في وقت مبكر من عام 2023.
تضرر الاقتصاد العالمي بسبب روسيا وأوكرانيا
تشير ورقة عمل أعّدها أندريه كورتونوف، المدير العام لمجلس الشؤون الدولية الروسي. إلى تضرر بعض الأجزاء المكونة للاقتصاد العالمي بشدة من الأزمة. مما تسبب في حدوث مواطن خلل في التجارة العالمية. بل وعواقب اجتماعية واقتصادية وسياسية غير متوقعة. لعدد من الدول الواقعة في مناطق مختلفة. حيث تتجاوز حصة روسيا وأوكرانيا في صادرات القمح نصف إجمالي واردات القمح لـ36 دولة.
يقول كورتونوف في الورقة التي حملت عنوان “مخططات النظام العالمي بعد الصراع بين روسيا وأوكرانيا”: ليس من المستغرب أن تكون أسعار الغذاء العالمية الإجمالية في مارس/أذار 2022 أعلى بمقدار الثلث عما كانت عليه قبل عام. كذلك، تمثل روسيا وبيلاروس حوالي 20% من الصادرات العالمية من الأسمدة المعدنية، ما يعني أن وجود أي خلل في مثل هذه الصادرات، يؤثر حتما على المحصول الزراعي في أفريقيا والشرق الأوسط، وحتى في أمريكا اللاتينية.
يضيف الباحث الروسي: في أوائل مارس/أذار، وصلت أسعار النفط العالمية إلى 130 دولارًا للبرميل. في غضون ذلك، فإن أي زيادة بمقدار عشرة دولارات في هذه الأسعار تستلزم -كما يزعم صندوق النقد الدولي- انخفاضًا سنويًا بنسبة 0.5% في النمو الاقتصادي على مستوى العالم. لتظهر علامة استفهام حول الوضع في أسواق الطاقة العالمية، والخطط المعتمدة مسبقًا لتحول الطاقة العالمي. حيث يمكن أن تؤدي أسعار الهيدروكربون المتزايدة، إلى استثمار واسع النطاق وطويل الأجل في مصادر الطاقة التقليدية. ليس فقط النفط والغاز، ولكن حتى الفحم.
اقرأ أيضا: روسيا والناتو.. محددات الأزمة ومستقبل صراع الأقطاب
سيناريوهات روسية للنظام العالمي
عند تحليل العواقب المحتملة للنزاع الروسي- الأوكراني على الهيكل الدولي بأكمله، يجب الإشارة إلى أن الصراع نفسه لا يزال بعيدًا عن نهايته. حيث يشير الخبراء في الغرب إلى استمرار الصراع -بشكل أو آخر- لعدة أشهر أو حتى سنوات. ما يُراكم العواقب الدولية بمرور الوقت. كما يكشف الصراع بين موسكو وكييف أزمات واضطرابات أخرى لا تقل أهمية. مثل تفاقم التوترات في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وتغيير النظام السياسي في أفغانستان، وعدم الاستقرار في منطقة الساحل، والحرب أهلية في اليمن، والبرنامج النووي لكوريا الشمالية.
قدمت ورقة العمل التي صاغها كورتونوف ثلاثة سيناريوهات محتملة للتحول المستقبلي بعد الأزمة للنظام الدولي. والتي أطلق عليها مؤقتًا “الاستعادة” و”الإصلاح” و”الثورة”. واضعًا لكل منها منطقه الخاص ومجموعة الحجج الخاصة به. وفهمه الخاص للاتجاهات العالمية الحالية، ومفاهيمه الخاصة عن الآفاق المتوسطة وطويلة الأجل للنظام الدولي والمجتمع العالمي.
يعني سيناريو “الاستعادة” أن الأزمة الحالية سيجري حلها وفقًا للشروط التي حددتها الولايات المتحدة وحلفاؤها. لأن أي تسوية أخرى سيكون لها عواقب وخيمة ولا رجوع فيها بالنسبة للغرب. تفترض الاحتمالية إلى أنه للفوز على موسكو، سيتعين على الغرب تعبئة كل سياسته والموارد العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية لمعارضة روسيا.
يمكن أن تتضمن الاستراتيجية الغربية -في ظل هذا السيناريو- هدف الاستنزاف الاقتصادي لموسكو على المدى الطويل. والذي يقوم على فرضية تراكم تكاليف “العملية العسكرية الخاصة” -وفق التعبير الروسي- في ضوء المشاكل الهيكلية العديدة التي يواجهها الاقتصاد الروسي. مع ذلك، فمن مصلحة الغرب تحقيق السلام مع موسكو بشروط الغرب في أقرب وقت ممكن. حيث إن طول أمد الصراع سيعرض التضامن الغربي للخطر، ويحبط استعداد بعض الدول الغربية للتضحية بمصالحها الحالية باسم انتصار مشترك مؤجل. كما يظن ميشيل دوكلوس، السفير الأمريكي السابق في سوريا.
استعادة النظام الدولي قبل الأزمة
عاجلا أم آجلا، من المفترض أن تُجبر روسيا على العودة إلى الوضع الراهن قبل 24 فبراير/شباط 2022. وتسحب قواتها من أوكرانيا دون الحصول على أي اعتراف قانوني واضح بالوضع الدولي الجديد لشبه جزيرة القرم ودونباس وفق ما أكد دينيس روس، المبعوث الأمريكي للسلام إبان إدارة بوش الابن.
يلفت الباحث الروسي إلى أنه في تلك الحالة لن تُفرض على موسكو قيود نوعية، أو كمية صارمة على الإمكانات العسكرية لأوكرانيا. تمامًا مثل طبيعة التعاون التقني العسكري لأوكرانيا مع شركائها من الغرب. بل، ستفشل موسكو بالمثل في “تشويه سمعة” أوكرانيا من خلال إصلاح نظامها السياسي الحالي أو أقل من ذلك بكثير في “إعادة ضبط” أوكرانيا بصفة عامة كمشروع دولة.
توضح ورقة صادرة عن جامعة ستانفورد أن العقوبات المفروضة على روسيا ستظل سارية لفترة طويلة قادمة. علاوة على ذلك، قد تصل العقوبات الأوروبية والأمريكية إلى مستوى جديد. لكن، يرى المدير العام لمجلس الشؤون الدولية الروسي أن ضغط العقوبات المتزايد سيؤدي إلى قطع كامل للتعاون في مجال الطاقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي. مما يؤدي بشكل أساس إلى قطع القناة الرئيسية لملء الخزانة الروسية.
يقول كورتونوف: موسكو لن تكون قادرة على تغيير جغرافية صادراتها من الطاقة بسرعة. لن يتم إعادة أصول البنك المركزي الروسي المجمدة بعد بدء النزاع إلى موسكو – وبدلا من ذلك، سيتم إنفاقها على استعادة أوكرانيا بعد الصراع. وعلى مدفوعات المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا، وعلى التعويضات للدول الأوروبية التي استقبلت التدفقات الرئيسية للاجئين الأوكرانيين. على مدى فترة زمنية قصيرة نسبيًا.
يُضيف: لسنوات عديدة، ستعقد المحاكم الدولية جلسات استماع للعديد من التهم الموجهة ضد روسيا. بشأن جرائم الحرب في أوكرانيا التي ارتكبت خلال العملية الخاصة. ستظل القيادة الروسية سامة بالنسبة لأي محاورين دوليين لفترة طويلة. بما في ذلك أولئك الذين كانوا من بين أصدقاء وشركاء موسكو التقليديين قبل الصراع.
سياسات مشتركة في مواجهة موسكو
يتصور هذا السيناريو خروج الغرب من الصراع أكثر تماسكًا مما كان عليه منذ نهاية الحرب الباردة. لن تصبح الخلافات التكتيكية بين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا عقبة كأداء في طريق سياسة مشتركة تجاه روسيا وغيرها من القضايا ذات الأهمية الحاسمة.
بمجرد أن تصبح المناقشات الأوروبية النشطة حول “الحكم الذاتي الاستراتيجي” من الولايات المتحدة شيئًا من الماضي. سيعمل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي معًا، وينسقان باستمرار جميع مجالات أنشطتهما. مع إيلاء اهتمام خاص لعدد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي غير المنحازة التي تنضم حاليًا أيضًا إلى الناتو.
يعتقد بعض الخبراء أنه في حالة حدوث مثل هذا السيناريو، لا ينبغي اعتبار مسألة عضوية أوكرانيا في الناتو مغلقة نهائيًا. هناك ادعاءات مفادها أنه لا يوجد خيار آخر لضمان أمن أوكرانيا -بما في ذلك الضمانات المتعددة الأطراف من القوى العظمى- سيكون موثوقًا بدرجة كافية، نظرًا لطموحات موسكو الحتمية الانتقامية بعد النهاية غير المواتية للصراع.