من بين الدروس العديدة المستخلصة من الصراع الروسي- الأوكراني. حدد الخبراء قدرة الدول متوسطة الحجم -بشكل غير متوقع بالنسبة للكثيرين- على معارضة الضغط العسكري للقوى العظمى بنجاح. في بداية “العملية العسكرية الخاصة” لروسيا، تم التكهن بأن الجيش الأوكراني سيستمر لبضعة أيام على الأكثر، وستنتهي العملية نفسها بالاستيلاء على كييف.

لكن، أظهر الجيش الأوكراني قدرته على المقاومة القوية. تشير هذه التجربة إلى أن التسلسل الهرمي العسكري التقليدي لعالم اليوم -الموروث من القرن العشرين- سوف يتآكل أكثر.

إذا كان هذا هو الحال، فإن التسلسلات الهرمية السياسية ستكون مهددة بطريقة أو بأخرى أيضًا. وستكون البلدان متوسطة الحجم قادرة على التأثير بشكل حاسم على الديناميكيات السياسية في مناطقهم. في بعض الحالات، ستحمي الدول متوسطة القوة الوضع الراهن -ألمانيا واليابان-  وفي حالات أخرى، ستروج لأجندة تعديلية تقوض الوضع الراهن -تركيا وإيران- لكن بشكل عام فإن نشاطهم سيقلل من قابلية الحكم في السياسة والاقتصاد العالميين بدلاً من زيادته.

أحد أمثلة هذا الاتجاه هو تفاقم الاختلافات بين الولايات المتحدة والسعودية، التي أعاقت طريق ضمان وصول كميات إضافية من النفط السعودي إلى الأسواق العالمية لتحقيق الاستقرار في أسعار السوق.

اقرأ أيضا: روسيا تتراجع أم تناور؟

الإصلاح.. إعادة تشكيل القوى في العالم

يقوم سيناريو الإصلاح على فرضية أن موسكو وكييف قد تتوصلان إلى تسوية سياسية خلال فترة زمنية متوقعة. تستند هذه التسوية إلى فهم القيادة الأمريكية بأن أوكرانيا لا تدخل في مجال المصالح الحيوية للولايات المتحدة. في حين أن الخصم الاستراتيجي الرئيسي لواشنطن في هذا التوقيت هو بكين بدلاً من موسكو، وفق ما يرى محللون أمريكيون.

ينطلق مؤيدو هذا السيناريو أيضًا من افتراض أن الغرب -والولايات المتحدة بشكل أساسي- مسؤول جزئيًا عن الأحداث الجارية حاليًا في أوكرانيا، التي “وكزت الدب” وفق تعبير السياسي الأمريكي المحافظ دوج باندو. يعترف مؤيدو هذا السيناريو بأن “إطالة أمد الصراع قد يمنح الغرب بعض المزايا التكتيكية”، وفق أندريه كورتونوف، المدير العام لمجلس الشؤون الدولية الروسي.

لكن، من الناحية الاستراتيجية -كما يقول كورتونوف- فإن هذا السيناريو محفوف بالعديد من النتائج غير السارة. منها التدمير الكامل للبنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية في أوكرانيا، والمزيد من التطرف السياسي في البلاد، وزيادة مخاطر التصعيد النووي. فضلا عن تآكل الوحدة الغربية تدريجيا، وخطر انزلاق الاقتصاد العالمي إلى أزمة جديدة

يُضيف: بالإضافة إلى ذلك، لا ينبغي الاستهانة بعزم القيادة الروسية على تحقيق النصر للعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا. على الرغم من كل المحاولات الغربية لإحباط مثل هذه النتيجة في الوقت المناسب. لذلك، يجب أن تأتي مبادرة التسوية السياسية -على ما يبدو- من القيادة الأمريكية أولاً وقبل كل شيء.

علاقات خاصة بين أوكرانيا وأوروبا

في هذا السيناريو، قد تعترف كييف والدول الغربية بالوضع الجديد لشبه جزيرة القرم ودونباس -على الأقل بحكم الأمر الواقع- مع إمكانية إجراء استفتاء في المستقبل، مع وجود هيئات رقابة دولية حول الوضع النهائي للأراضي المتنازع عليها. بينما تؤكد أوكرانيا تخليها عن محاولاتها للانضمام إلى الناتو، مقابل إعطائها ضمانات أمنية متعددة الأطراف ملزمة قانونًا. وقد يقبل المجتمع الأوكراني فكرة الحياد، لأنه لا يمنعها من تعزيز التعاون السياسي مع الغرب. مع السماح لكييف بلعب دور أكثر نشاطًا واستقلالية في الاتحاد الأوروبي.

ويقترح المحلل الروسي لأوكرانيا والاتحاد الأوروبي إقامة علاقات ذات وضع خاص، مثل علاقات الاتحاد الأوروبي مع النرويج. مشيرًا إلى أن هذا السيناريو يستلزم ترتيبات مقبولة للطرفين بشأن معايير الإمكانات العسكرية لأوكرانيا. وبشأن نظام تدابير الثقة العسكرية على طول الحدود الروسية الأوكرانية.

كذلك، يشير هذا السيناريو إلى أن الأزمة الأوكرانية قد تؤدي إلى تعديلات كبيرة داخل النظام قد تشمل أيضًا الاندماج الغربي. والذي لن يتجاوز الاستجابة للأزمة الأوكرانية.

اقرأ أيضا: أوكرانيا بين مطرقة الحياد وسندان الكرملين

سيناريو “الثورة” كما تراه روسيا

وهو السيناريو الأخير الذي تفترضه ورقة العمل الروسية الصادرة عن مجلس الشؤون الدولية الروسي. ويقوم على فرضية أنه لم يتم التوصل إلى ترتيبات لوقف الصراع في أوكرانيا. لا بين موسكو وكييف ولا بين روسيا والغرب.

في هذا السيناريو، لن ينسحب الجيش الروسي من الأراضي التي يسيطر عليها في دونباس أو في مناطق أوكرانية أخرى. بل ستُبذل محاولات متكررة لإنشاء “جمهوريات شعبية” جديدة خارج جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك اللتان اعترفت بهما روسيا كدولتين منفصلتين عن الأراضي الأوكرانية، وتتبعان أوامر موسكو.

في مرحلة ما هنا، ستفسح الأنشطة العسكرية للجانبين الطريق لهدنة غير مستقرة يتم خرقها بانتظام. بينما ستستمر المساعدة العسكرية الغربية لأوكرانيا، بمقادير أكبر من أي وقت مضى. من أجل منع موسكو من تحقيق انتصار عسكري حاسم تحت أي ظرف من الظروف. وإبرام اتفاق سلام بشروط روسيا، بينما سيتم تشديد العقوبات الغربية ضد روسيا وإطالة أمدها. بما في ذلك المحاولات المستمرة لمنع إنشاء آليات وإجراءات تسمح بتجاوز هذه القيود.

عندها، سيتم تأجيل مسائل إعادة الإعمار حتى وقت غير محدد في المستقبل. بينما ستزداد تكاليف الصراع بالنسبة لروسيا بمرور الوقت، مما يضع علامة استفهام حول الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في البلاد. وفق هذا السيناريو، ستكون إحدى النتائج الحتمية لهذه التطورات هي تدويل الصراع بشكل تدريجي بمشاركة مشاركين جدد من كلا الجانبين.

يقول كورتونوف: من الواضح أن الغرب قلق بشكل خاص من احتمال استخدام موسكو لمتطوعين من الشرق الأوسط ومرتزقة من ذوي الخبرة العسكرية في القتال في سوريا. ولكن يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن المسلحين يمكن أن يأتوا من تلك البلدان نفسها أو من جيرانهم للقتال إلى جانب أوكرانيا. نتيجة لذلك، ستصبح أوكرانيا في نهاية المطاف بؤرة لنزاع عسكري مزمن بين الشرق والغرب. مع اختبار الجانبين للقدرات العسكرية بشكل دوري.

تحولات أكثر جذرية وفوضوية في أوكرانيا

من ناحية أخرى، يقول الخبراء الروس إنه بدلاً من “تشويه سمعة أوكرانيا” -كما تفعل موسكو- سيؤدي الصراع الحالي حتماً إلى إعطاء نفوذ سياسي أكبر لما يراه الكرملين “الجماعات القومية الراديكالية”. التي لعبت بالفعل دورًا رئيسيًا في مقاومة القوات الروسية. لتكون هناك صعوبة في إزالة من تراهم روسيا “متطرفين يمينيين” من المجال السياسي الأوكراني.

وسط هذا الصراع الذي يعتاد الجمهور الأوروبي عليه تدريجياً، ستكون بروكسل أقل استعداداً لتقديم بعض الآليات الحصرية لكييف. للوصول إلى الاتحاد الأوروبي “فالأمور العملية المتعلقة بإطلاق مثل هذه الآلية سيتم تأجيلها مرارًا وتكرارًا، ولن تتلقى أوكرانيا حتى وضعًا رسميًا كمرشح للانضمام”.

بالمقارنة مع السيناريوهين السابقين، يتصور سيناريو الثورة تحولًا أكثر جذرية وأكثر فوضوية بكثير للنظام الدولي في السنوات المقبلة. مثل الانهيار التام للنظام العالمي الحالي، بما في ذلك أبعاده الاقتصادية، والمالية، والعسكرية، والاستراتيجية، والجيوسياسية.

لذلك، من الصعب التنبؤ بالأعماق والعواقب المحتملة لمثل هذا الانهيار. لكن من الواضح أن العالم سيخوض فترة طويلة من عدم الاستقرار، والأزمات، وسباق التسلح. والعديد من الصراعات العسكرية المختلفة. يرى كورتونوف أنه “في مثل هذا الوضع لن يتم الحفاظ على الوحدة الغربية لفترة طويلة. بعد فترة وجيزة من انتهاء المرحلة النشطة من الصراع الروسي- الأوكراني، سوف يُنظر إلى استراتيجية الولايات المتحدة في هذا الصراع بشكل متزايد. ليس على أنها ضمان للنجاح النهائي، ولكن كطريق نحو هزيمة حتمية، وشهادة على الضعف وعدم الكفاءة الاستراتيجية للقيادة الأمريكية الحالية”.