أخيرًا وبعد عشرين عامًا من البحث عن المشتبه به في الإبادة الجماعية في رواندا “بروتايس مبيرانيا”. انتهى البحث في قبر مجهول في زيمبابوي. حيث اختتمت مطاردة واحد من أكثر القتلة وحشية في العالم بالعثور على رفاته في مقبرة خارج العاصمة هراري. حسبما ذكر تقرير لجريدة الجارديان البريطانية.
وكان تقرير سابق لـ BBC أظهر أن بروتايس مبيرانيا -القائد السابق للحرس الرئاسي الرواندي- المتهم بالإبادة الجماعية إبان الحرب الأهلية الرواندية عام 1994 بين قبيلتي “التوتسي” و”الهوتو” قد دُفن بالفعل هاربًا من اتهامات بذبح أكثر من مليون مواطن أغلبيتهم من التوتسي، خلال 100 يوم.
أثّرت جرائم مبيرانيا في مسار رواندا بشكل قاس. حيث شغل خلال الحرب الأهلية منصب رئيس الحرس الرئاسي واتُهم بإصدار أمر بقتل رئيسة الوزراء -آنذاك- “أجاثي أولينجييمانا”. والتي كانت تنتمي لقبيلة الهوتو. وعرفت بآرائها المعتدلة. وكذلك اتهم ضباطه بقتل عشرة بلجيكيين من قوات حفظ السلام التابعين للأمم المتحدة عملوا لحراستها.
ووفقًا للحكومة الرواندية كان مبيرانيا ضمن قائمة من 6 أشخاص من مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية. ولم يتم تقديمهم للعدالة. وهناك أيضًا الآلاف من الجناة المشتبه بهم الأقل شهرة الذين يختبؤون حاليًا خارج رواندا كما ذكر تقرير سابق لدويتش فيله الألمانية.
مقبرة مجهولة
وبينما بدأت زيمبابوي العام الجاري توقيع بروتوكولات تعاون مع رواندا في مجالات عدة ستساعد البلدين على النهوض من كبوتها. جاء اكتشاف قبر مبيرانيا ليضع احتمالية تأثر هذا التعاون. بعد سنوات من كذب الرئيس الأسبق روبرت موجابي بشأن وجود متهمين بالمذبحة في بلده.
فخلال العقود القليلة الماضية أصدر المدعون الروانديون أكثر من ألف مذكرة توقيف ضد المشتبه بهم في 33 دولة.
وذكر فريد موفوني -الصحفي الذي غطى محاكمات الإبادة الجماعية في رواندا- أن هناك وحدة بحث خاصة للشرطة الرواندية “تبحث عن الجناة المشتبه بهم. الذين لا يزالون يتجولون بحرية في بلدان مختلفة حول العالم”.
وأضاف: “يُعتقد أن العديد منهم موجودون في أوغندا أو جمهورية الكونغو الديمقراطية. بينما فر آخرون إلى ملاوي والكاميرون وزيمبابوي. ويُعتقد أن عددًا أكبر منهم موجود في أوروبا، خاصة في ألمانيا وهولندا وفرنسا وبلجيكا”.
وفي مايو/أيار الجاري تأكد محققو الأمم المتحدة -بعد جولات عدة- أن زيمبابوي أخفت بعضهم، حيث تم التأكد أن مبيرانيا -الذي استخدم أسماء مستعارة لمدة 12 سنة لتفادي القبض عليه- توفي في أكتوبر/تشرين الأول عام 2006. إثر نوبة قلبية ناجمة عن مرض السل عن عمر ناهز الخمسين. ودفن تحت اسم مستعار في مقبرة جرانفيل في هراري. المعروفة شعبيا باسم “كومبودزي”.
وقام المحققون بتحديد مقبرته بمساعدة دليل حاسم تم العثور عليه على جهاز كمبيوتر تمت مصادرته. حيث وجدوا تصميما مرسوما باليد لشاهد قبر مبيرانيا. إضافة إلى تحليل الحمض النووي.
ونقلت صحيفة المانية عن سيرج براميرتز -المدعي العام للأمم المتحدة الذي قاد عملية المطاردة- قوله إنه كان آخر الهاربين الرئيسيين في قضية الإبادة. وأن العثور على جثته “يشكل عزاءً لمعرفة أنه لا يمكن أن يتسبب في مزيد من الأذى”.
اختفاء غامض
كانت وفاة قائد الحرس الرئاسي الرواندي السابق غامضة مثل فصول كثيرة من حياته. فقد كانت مغطاة بالسرية من قبل عائلته وأنصاره. بعدما عاش مبيرانيا في زيمبابوي بهوية مزيفة لمدة أربع سنوات. رغم إصرار حكومة زيمبابوي على عدم وجوده في أراضيها.
وجد المحققون الذين تعقبوا مسار مبيرانيا خلال الأعوام السابقة إلى أنه وصل على متن طائرة عسكرية من زيمبابوي. وكان على اتصال متكرر أثناء إقامته مع مسؤولين في نظام الرئيس -آنذاك- روبرت موجابي. والذين كانوا يدركون هويته كحليف مهم في حرب الكونغو الثانية التي جرت بين عامي 1998-2003. وانتهت رسميًا بتولي الحكومة الانتقالية لجمهورية الكونغو الديمقراطية السلطة في يوليو/تموز 2003.
قبيل اكتشاف موته نشرت صحيفة الجارديان العام الماضي تقريرا يفيد بأن رواندا “تضع زمبابوي تحت التساؤلات”. وذلك بسبب عدم مساعدتها في العثور على مجرم الحرب.
وأشار التقرير إلى اعتقاد الحكومة الرواندية أن مبيرانيا “أصبح قريبًا من كبار الضباط في جيش زيمبابوي عندما نشر موجابي جيشه في الكونغو. وأنشأ شركات مشتركة سمحت بتدفق مئات الملايين من الدولارات من الموارد الطبيعية الثمينة -بما في ذلك الماس- ليتم تعدينها في الكونغو ثم بيعها لصالح جنرالات موجابي. كما اعتقدت رواندا أيضا أن مبيرانيا “متورط في عمليات شراء أسلحة وتهريب. شارك فيها المتمردون والقوات الزيمبابوية”.
تقرير الصحيفة البريطانية أكده محققو الأمم المتحدة في وقت مبكر من ديسمبر/كانون الأول 2010. والذين أفادوا بأن مبيرانيا “كانت له صلات بزيمبابوي وعاش هناك لفترات طويلة”.
حيًا أو ميتًا
في عام 2012 وتحت ضغط من كيجالي -العاصمة الرواندية- اعترفت سلطات زيمبابوي بأن الهارب “يمكن أن يكون على أراضيها”. وتعهدت بالعثور عليه “حيًا أو ميتًا”. حيث نوقش وجوده المزعوم في زيمبابوي في البرلمان وأدرجت وسائل الإعلام المحلية الأسماء المستعارة والعناوين المحتملة المرتبطة به.
مع ذلك في 2020 أبلغ كبير محققي الأمم المتحدة مجلس الأمن الدولي أنه رغم “الأدلة الموثوقة على مكان وجوده فإن عدم تعاون الحكومات لا يزال يمثل تحديًا. لا سيما في شرق وجنوب أفريقيا”.
كانت إحدى المشكلات التي واجهها المحققون هي أن الهارب ذو الخبرة العسكرية والاستخباراتية الضخمة غالبًا ما يستخدم وثائق سفر أصلية صادرة بأسماء مزيفة. لذلك عمل فريق من المحكمة على تحديد دوافع أولئك الذين قدموا أكثر من 20 جواز سفر مختلفًا. استخدمها خلال سنوات هروبه. والتي قد يكون تم الحصول عليها من خلال الرشوة أو بناء على أوامر من أصحاب النفوذ الذين أرادوا أن يظل الرجل “مختبئًا وصامتًا”.
متابعة البحث
وبينما كان المحققون الدوليون يعملون لإيجاد طرف خيط أصرّت سلطات زيمبابوي لسنوات على أنها تعاونت مع التحقيق الذي أجرته المنظمة لتعقب المجرمين الهاربين. والآلية الدولية لتصريف الأعمال المتبقية للمحكمتين الجنائيتين (IRMCT). مضيفة أن زيمبابوي انضمت إلى فريق عمل لتنسيق التحقيق.
وجاء في البيان: “منذ اليوم الأول تعاونت زيمبابوي بشكل كامل مع فريق التحقيق. والتزمت الالتزامات القانونية الدولية للبلاد”.
مع ذلك فإن مطالبة الحكومة الزيمبابوية بإظهار الحقائق لا تثير الدهشة بين أولئك الذين تابعوا البحث. فلطالما اشتبه المحققون في أن الهارب يختبئ في زيمبابوي. وقاموا بمحاولات متكررة لإقناع السلطات المحلية بتسليم مبيرانيا أو التحقيق في أنشطته أو تقديم أدلة على وفاته.
وفي وقت مبكر من ديسمبر/كانون الأول 2010 أبلغ المحققون مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن مبيرانيا “كانت له صلات بزيمبابوي وعاش هناك لفترات طويلة”.
وبعد تنحية موجابي عن السلطة في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 سافر مسؤولون من IRMCT إلى زيمبابوي على أمل أن تكون الحكومة الجديدة أكثر ايجابية وتعاونا. لكن الجهود لم تسفر عن نتيجة حقيقية سوى في عام 2020.
وفقًا لـIRMCT فر مبيرانيا إلى زيمبابوي عام 2002 حيث سهّل المسؤولون المحليون دخوله. ثم أحضر زملاءه وعائلته إلى زيمبابوي، مع سلسلة من “المرؤوسين الموثوق بهم”. ولسنوات تمكن من تجنب الاعتقال في زيمبابوي. حيث أقام في منطقة ثرية في هراري “وواصل تعامله مع المسؤولين العسكريين في زيمبابوي”. بل وكان يستقبل أيضًا سلسلة من الزوار من الخارج.