استيراد مصر 50% من احتياجاتها من القمح من الخارج ووقوعها تحت تأثير الأزمات العالمية المتلاحقة. دفع الحكومة -ممثلة في هيئة الطاقة الذرية- لمحاولة استنباط طفرات من القمح ذات قاعدة وراثية مختلفة لرفع إنتاج الدولة من القمح بنحو 33%. في محاولة لسد الفجوة الحالية بالسوق.
فمنذ عام 2002 بدأت هيئة الطاقة الذرية العمل في هذا المشروع الاستراتيجي، وكانت الخطة العلمية هي استنباط طفرات زراعية جديدة لمجابهة التغيرات المناخية. ومضاعفة إنتاج القمح وتوفير العملة الدولارية المخصصة للاستيراد السنوي. فهل تستطيع تلك الطفرات تحقيق الاكتفاء الذاتي لمصر من القمح؟ وما هي المعوقات التي تقف حائلًا أمام نجاحها؟ ومتى يتم توزيع بذور تلك الطفرات على الفلاحين واعتمادها من قبل وزارة الزراعة؟.
مصر تنتج 50% من احتياج السوق من القمح
بحسب الحملة القومية للقمح، فإن مساحة محصول القمح بمصر تقدر بنحو 3,6 ملايين فدان، تنتج حوالي 9 ملايين إلى 10 ملايين طن من القمح. بينما الاحتياجات المحلية تصل إلى 18 مليون طن. لذا تستهدف الوزارة رفع الإنتاج المحلي إلى 12 مليون طن.
ومؤخرًا غير المسؤولون المصريون دفتهم نحو القمح الفرنسي، وذلك بتغيير المواصفات الخاصة بالاستيراد، وذلك بالسماح بنسبة رطوبة تبلغ 13,5%. ومن حق كل دولة تحديد نسبة الرطوبة التي تلائم مناخها. بما لا يتجاوز اشتراطات الهيئة الدولية “كوديكس” بألا تزيد نسبة الرطوبة عن 14.5%.
وكانت وزارة التموين تستهدف في اللجوء للقمح الفرنسي مواجهة القرارات المتتالية للحكومة الروسية. بفرض ضريبة أعلى على تصدير القمح من أجل تعزيز الاحتياطيات الداخلية حينها.
ويقول أحمد الباشا إدريس، عضو مجلس إدارة غرفة القاهرة التجارية ورئيس شعبة البقوليات والحاصلات الزراعية، لـ”مصر 360″، إن الأزمة الأوكرانية الروسية ستحمل تأثيرًا على الدول المستورة للحبوب. خاصة أنها تدور بين دولتين تحتلان مرتبة عالية في الإنتاج العالمي من الغذاء.
ويرى إدريس أن التأثير مرهون بمدى استمرار الأزمة وتطوراتها ومدى تأثيرها على الشحن في المنطقة. لكنها ستسبب ارتفاعًا بالأسعار في وقت تعاني فيه بالفعل من ارتفاعات بسبب تزايد أعباء الشحن العالمي التي وصلت لمستويات قياسية. وتأثيرات الطقس على دول أخرى مصدرة للحبوب.
33% زيادة بطفرات القمح والتباينات الوراثية بأشعة “جاما”
المعاناة التي ازدادت السنوات الماضية لتوفير كميات القمح اللازمة للاستهلاك المحلي. دفعت الحكومة من خلال هيئة الطاقة الذرية لإجراء تجارب -منذ عام 2002- على سلالات من القمح عبر تسليط أشعة “جاما” على بذور مختلفة من القمح. وبناء عليه تم إجراء تباينات وراثية والحصول على طفرات زراعية للقمح قادرة على زيادة الإنتاج بنحو 33% وبمتوسط 28 لـ 32 أردب للفدان. وفق خالد العزب رئيس الفريق العلمي لتقييم طفرات القمح لـ”مصر 360″.
الطفرات المنتجة من القمح بالهيئة ذات قاعدة وراثية مختلفة تساعد في قدرتها على مقاومة الأمراض وتحملها للظروف البيئية المعاكسة. وكذلك زيادة الإنتاجية في وحدة المساحة بنسبة 33% عن الأصناف التجارية الحالية. كما أنها آمنة تماماً من ناحية سلامة الغذاء -وفقا للعزب.
أجرينا استطلاعا كاملا لجميع أصناف الأقماح المصرية الموجودة ومعاملتها معاملة إشعاعية بداية من عام 2003. بجرعات إشعاعية مختلفة موصى بها طبقًا لتوصيات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبالتالي فهي جرعات إشعاعية آمنة. تم تشعيعها لمرة واحدة فقط، بعد ذلك حدثت طفرات جديدة بصفات مختلفة إيجابية تم استثمارها جيدًا ونموها وعمل تهجينات مختلفة. للحصول على هذه الطفرات النهائية من القمح، وفقا لتصريحات الدكتور محمد بسيوني الأستاذ بقسم البحوث النياتية في مركز البحوث النووية، لـ”مصر 360″.
أوضح بسيوني أن جميع الطفرات باتت جاهزه الآن لبدء مراحل التسجيل للحصول على تصريح التداول كأصناف جديدة في السوق المصري. بعد تأكد خلوها من أية تأثيرات ضارة نظير استخدام أشعة “جاما”.
هل تحقق الطفرات الجديدة الاكتفاء الذاتي؟
طفرات القمح ستوفر جزءًا كبيرًا من احتياج السوق المحلي من القمح، لكن تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل من القمح. سيتوقف أولًا على تسجيل تلك الطفرات رسميًا واعتمادها ثم توفير كميات كبيرة من البذور وتوزيعها كبديل للأصناف المتاحة بالسوق لزيادة الإنتاج. وفق الدكتور محمد أحمد عبد الهادي أستاذ مساعد بقسم المحاصيل بكلية الزراعة جامعة عين شمس.
أضاف عبد الهادي لـ”مصر 360″، أن تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح -حال اعتماد تلك الطفرات- سيحتاج مدة تتراوح بين 3 لـ 5 سنوات مع زيادة الرقعة الزراعية. كي تتمكن الدولة من الوفاء بكامل الاستهلاك، أخذًا في الاعتبار التنامي المستمر في الاستهلاك سنويًا. موضحًا: “قد نستطيع تحقيق ما يزيد عن 85% من استهلاك الدولة على المدى المتوسط. لكن الوصول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي قد تحتاج إلى سياسات زراعية جديدة -بجانب تلك الطفرات- تأخذ في الاعتبار التغيرات المناخية الراهنة.
ويواصل الدكتور محمد بسيوني الأستاذ بقسم البحوث النياتية في مركز البحوث النووية. أن الجانب الأكثر إيجابية أيضًا هو قدرة تلك الطفرات الجديدة على تحقيق وفر في استهلاك المياه بنحو 20% من الاستهلاك في الزراعات الطبيعية. ومن ثم تقليص كميات المياه المستخدمة في الري.
تجنب الاستيراد الخارجي
أضاف بسيوني أننا لانزال في مرحلة محاولة تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح لتجنب الاستيراد الخارجي. وتعد الطفرات الجديدة واحدة من تلك المحالاوت التي ربما تُمكن الدولة من الوفاء بالطلب المحلي. حال ثبات الاستهلاك وإضافة رقعة زراعية جديدة من الأراضي قادرة على زيادة إنتاجية الفدان لنحو 30 أردبا للفدان بدلًا من 18 و20 أردبا حاليًا.
يلفت بسيوني إلى ضرورة التوسع الرأسي في الزرعة والتي يقصد بها زيادة إنتاجية الفدان، من خلال اختيار أصناف القمح الجيدة. والتي يمكن الاعتماد عليها بكل سهولة لتحسين جودة إنتاج الفدان الزراعي، أخذًا في الاعتبار التغيرات المناخية المتقلبة الحالية التي تدفعنًا لإنتاج أصناف تتناسب مع هذه التغيرات.
ويقول مجدي الصبان الخبير الزراعي، لـ”مصر 360″، إن الحكومة يمكنها تعزيز التجارب الناجحة في زيادة إنتاج القمح المحلي أسوة بعدد من الدول الأوروبية والآسيوية. بحيث يتم الاستفادة من الأراضي القريبة من مياه النيل في مضاعفة القدرات الإنتاجية سنويًا من القمح.
20 مليار جنيه وفرا في موازنة الدولة والاحتياطي الأجنبي
الاعتماد على طفرات القمح الجديدة ربما ليس الغرض منه تحقيق الاكتفاء الذاتي مباشرة. ولكن محاولة تقليص حجم الدعم الموجه سنويًا لاستيراد القمح من الخارج. وبالتالي سيكون بإمكان الحكومة توفير ما لا يقل عن 20 مليار جنيه سنويًا للموازنة العامة لدولة. وهو فارق الزيادة في إنتاجية القمح -شرط تعميم الطفرات الجديدة على مستوى جميع الأراضي المنزرعة-. وبالتالي توفير جزء من الاحتياطي الأجنبي للدولة وفق الدكتور محمد عياد مدرس الوراثة بهيئة الطاقة الذرية.
ويقول عياد لـ”مصر 360″، إن استهلاك القمح محليا يتراوح بين 20 و21 مليون طن سنويًا. ويتم استيراد كميات تقارب الـ 50% من الاستهلاك المحلي من الخارج وبالتحديد أوكرانيا وروسيا. وبالتالي فإن الطفرات الزراعية الجديدة في القمح والتي يتم تجربتها حاليًا بموقع هيئة الطاقة الذرية بإنشاص. قادرة على سد جزء من الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك، ومن ثم توفير 33% من قيمة التعاقدات الخارجية.
أشار عياد إلى أن فاتورة استيراد القمح سترتفع من 45 مليار إلى نحو 65 مليار جنيه، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التي وقعت خلال موسم توريد القمح. باعتبار الدولتين من أكبر الأسواق على مستوى تصدير القمح، لذا بات تأثر أسعاره بالأحداث الجارية أكثر سلبية.
الطفرات الزراعية التي تم التوصل إليها -من خلال علماء الطاقة الذرية- قادرة على رفع إنتاج مصر من القمح من 10 ملايين طن سنويًا إلى 14 مليون طن. ومن ثم خفض الواردات من 10 و11 مليون طن إلى 6 و7 ملايين طن سنويًا. وبالتالي ستكون هيئة الطاقة الذرية قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي خلال 3 سنوات من بدء التطبيق.
إشكاليات وتحديات تُؤخر التنفيذ
رغم أن جميع الطفرات جاهزة الآن لبدء مراحل التسجيل للحصول على تصريح التداول كأصناف جديدة في السوق المصري. ولكن حتى الآن تواجهها إشكالية في ضرورة إجراء تعديل تشريعي بالباب الثاني من القانون رقم 53 الصادر في عام 1966 والمعدل في 1976 وإعادة صياغة الباب الخاص بتسجيل الأصناف الزراعية. حيث إن خطوات التسجيل تستغرق حوالي 3 سنوات على الأقل – توضح الدكتورة غادة عيسى رئيس مركز البحوث النووية التابع لهيئة الطاقة الذرية لـ”مصر 360″.
وتضيف عيسى أن طول المدة التي يحتاجها التسجيل تتنافى مع الفترة الحالية التي يمر بها العالم من ناحية نقص تصدير القمح. وكذلك الضغوط على الدولة لتوفير العملة الصعبة لاستيراد القمح، خاصة أن جميع الاختبارات التي تتم من قبل لجنة تسجيل الأصناف هي نفس الاختبارات التي تقوم بها الجهات التي تنتج الطفرات.
أشارت إلى أن وزارة الزراعة باتت هي المسؤولة عن إشكاليات تنفيذ المشروع وبدء تعميمه بالسوق المحلية. فالدولة تحتاج الآن إلى تسريع وتيرة إنهاء إجراءات تسجيل أصناف الطفرات الزراعية الجديدة؛ تجنبًا للبقاء تحت طاولة تقلبات الاستيراد العالمي في ظل تضاعف فاتورة الاستيراد السنوية.
23% من صادرات القمح عالميًا مهددة بالحرب
وتشير التقديرات إلى أن صادرات روسيا وأوكرانيا من القمح المجمعة للسنة التسويقية 2021-22 تمثل 23% من الإجمالي العالمي البالغ 206.9 ملايين طن متري. وفقًا لوزارة الزراعة الأمريكية. وبالنسبة للذرة، من المرجح أن تمثل أوكرانيا 16% من صادرات الذرة العالمية.
وبالنسبة لروسيا، بلغت الصادرات 2.6 مليون طن متري خلال شهر انتهى بنهاية 20 يناير. ذلك بانخفاض 3.2 ملايين طن عن 20 ديسمبر/كانون الأول. ومنذ أن بدأت سنة التسويق الحالية للقمح الروسي في 1 يوليو وحتى 20 يناير. انخفضت صادراتها بنسبة 21% على أساس سنوي عند 23 مليون طن متري.
لماذا القمح الروسي ضروريًا لمصر؟
القمح الروسي يستحوذ على النصيب الأكبر من الواردات المصرية، فمصر هي أكبر مستورد ومشترٍ للقمح في العالم. وبحسب بيانات وزارة الزراعة الأمريكية فإنه خلال الفترة من يوليو/تموز 2020 إلى يونيو/حزيران 2021. بلغت واردات القمح الروسي إلى مصر 8.96 ملايين طن من إجمالي 13.3 مليونا استوردتها مصر خلال هذه الفترة.
وتنقسم المشتريات المصرية بين الهيئة العامة للسلع التموينية والقطاع الخاص. في الوقت الذي تشير فيه وزارة الزراعة الأمريكية إلى ارتفاع واردات مصر من القمح إلى 13.6 مليون طن خلال موسم 2021-2022 مقارنة بنحو 13.3 مليون طن في موسم 2020-2021.
ويرى عدد من الخبراء أن استهلاك مصر من القمح سيرتفع بنهاية العام المالي الجاري ليبلغ نحو 23 مليون طن. بزيادة نسبته 2.1%. بسبب ارتفاع عدد السكان، وتنامي حجم الاستهلاك المحلي من المنتجات القائمة عليه مثل الخبز والمكرونة. وغيرها من المنتجات الأساسية بالنسبة للمواطن المصري.
ووفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن قيمة واردات مصر من القمح سجلت 2.4 مليار دولار خلال الـ 11 شهرا الأولى من عام 2021. بكميات بلغت 6.1 ملايين طن، وتصدرت روسيا قائمة أعلى عشر دول استوردت مصر منها خلال الـ 11 شهر الأولى من عام 2021. بقيمة 1.2 مليار دولار وبكمية بلغت 4.2 ملايين طن بنسبة 69.4% من إجمالي كمية واردات مصر من القمح. وجاءت أوكرانيا بالمرتبة الثانية بقيمة 649.4 ملايين دولار، وبكمية 651.4 ألف طن بنسبة 10.7%.
مصر أكبر مشتر للقمح الأوكراني
وباتت مصر أكبر مشتر للقمح الأوكراني، بعدما استوردت منه أكثر من 3 ملايين طن متري عام 2020. ما يعادل حوالي 14% من إجمالي القمح المستورد حينها. خاصة أن القمح الأوكراني يتسم برخص السعر حال مقارنته بالفرنسي.
وقال الدكتور محمد معيط وزير المالية، في بيان صحفي، إن ارتفاع أسعار القمح عالميًا سيزيد التكلفة علينا بنحو 12 مليار جنيه في مشروع موازنة 2021-2022.
وبحسب تقرير أخير لوزارة التموين والتجارة الداخلية. فإن مخزون القمح في مصر يكفي لأكثر من 5.2 أشهر. ذلك مع وجود خطة مستمرة لتأمين مخزون كل السلع الاستراتيجية سواء من خلال الحصول على المحصول المحلي من المزارعين. أو من خلال الاستيراد من الخارج من خلال إجراء المناقصات العالمية.