فكرة الدولة الحديثة، ومعها، فكرة أن محمد علي باشا الكبير هو مؤسس الدولة الحديثة، كلتاهما، محض دعاية فرنسية، وكلتاهما جزء من المشروع الإمبراطوري الاستعماري الفرنسي في الشرق الإسلامي، فلم يعرف القرن التاسع عشر غير الاختراق الأوروبي وتمت تسميته حداثة، ولم تعرف غير انتقال مصر من ضيعة خاصة للماليك تحت التاج العثماني، إلى ضيعة خاصة لمحمد علي باشا وسلالته من بعده تحت التاج العثماني كذلك، وفي كلا الضيعتين، ضيعة المماليك ثم ضيعة محمد علي باشا وسلالته كان التاج العثماني يضمحل بالتدريج وكان الاختراق الأوروبي يتزايد ويتعمق بصورة مطردة تتناسب مع مقادير الاضمحلال العثماني، وكانت مصر وشعبها هدفا لأكثر من استعمار بغيض في وقت واحد، انحصر في ثلاث قوى في القرن التاسع عشر: محمد علي وسلالته، المصالح الأوروبية، العثمانيين، وكان المماليك قد تم إفناؤهم على يد نابليون بونابرت ثم محمد علي باشا بالتواطؤ مع السلطان العثماني محمود الثاني الذي تولى الخلافة بين 1808م – 1839م .

الدور التاريخي الأعظم الذي لعبه محمد علي باشا الكبير وسلالته من بعده ليس تأسيس الدولة الحديثة، لكن تسليم مصر للأوروبيين، تسليم تم على مراحل: استقدامهم كأصحاب خبرة وعلم على يد محمد علي باشا، ثم الضعف أمام زحفهم وأطماعهم في عهدي سعيد وإسماعيل، ثم الاستعانة بهم وتسليم البلد لهم والترحيب بغزوهم المسلح والسكوت عن احتلالهم في عهد توفيق، ثم الإذعان لهم والخضوع الكامل لسيطرتهم على كافة مصائر ومقاليد البلاد والعباد في عهود عباس حلمي الثاني وحسين كامل وفؤاد وفاروق، قرن ونصف قرن من الزمان ومصر ليست لنفسها ولا لشعبها، ثم -في الوقت ذاته- توصف طوال تلك الفترة بوصف “الدولة الحديثة” في واحدة من أضخم عمليات التضليل والتزييف في التاريخ المعاصر .

…………………

قبل نابليون وحملته، وقبل محمد علي باشا ودولته، وقبل الأوروبيين وحداثتهم، قبل كل هؤلاء، وعلى مدى القرن الثامن عشر، كانت مصر قوة إنتاج مهمة، لنفسها وللعالم، كانت تزرع، وكانت تصنع، وكانت تصدر لأسواق العالم منتوجات مصنعة وليس فقط مواد خام كما حدث للأسف بعد ذلك في ظل الوهم الكاذب المسمى الدولة الحديثة، كانت مراكز الصناعة تنتشر في القاهرة والإسكندرية وقنا وأسيوط ورشيد ودمياط والمحلة، وكانت المنتوجات القطنية والكتانية والحريرية الصوفية تصدرها مصر لكل أسواق العالم بما في ذلك أوروبا، لم تكن مصر مصدرا للمواد الخام، ولم تكن مصر سوقا مفتوحة فقط للمنتوجات الأوروبية، وهو للأسف الشديد ما حدث في القرن التاسع عشر، على يد محمد علي باشا وسلالته من بعده، حيث تحولت مصر -على أيديهم- إلى مصدر للمواد الخام ثم إلى سوق للمنتوجات الأوروبية، وكانت هذه هي نقطة الابتداء التي فقدت عندها مصر استقلالها الاقتصادي، وتم إلحاقها بالمقاعد الخلفية للاقتصاد الأوروبي الرأسمالي الاستعماري، وكان فقدان الاستقلال الاقتصادي هو المقدمة لفقدان استقلالها الثقافي والتشريعي والحضاري، حتى فقدت استقلالها كاملا بغزو مسلح من أعتى إمبراطوريات أوروبا، وبرضا كامل وموافقة تامة من أضعف سلالة محمد علي باشا وهو حفيده توفيق الذي حكم بين 1879- 1892م .

في القرن الثامن عشر زادت المساحات المزروعة من القطن، وزاد الإنتاج من المنسوجات القطنية، بمستويات متنوعة من الجودة حسب طبيعة الأسواق، وكانت فرنسا تستورد النسبة الأكبر من الصادرات المصرية، ثم تعيد تصديرها سواء إلى أوروبا أو إلى مستعمراتها، كانت مصر حقيقة، لم تكن فراغا ولا سرابا ولا خلاءً مهجورا ولا أرضا بغير صاحب، ولا تيها فاقدا للهوية ينتظر قدوم محمد علي باشا ليمنحه شهادة ميلاد أو وثيقة هوية أو يثبت حضوره في دفاتر الزمن.

…………………….

إنجاز محمد علي باشا، ومن ورائه الفرنسيون، ثم الانجليز، هو تطوير نظم الري المصرية على امتداد القرن التاسع عشر، هذا هو الإنجاز الأعظم (سوف نفرد له عدة مقالات في وقت لاحق بمشيئة الله)، لكن هذه الإنجاز -في التحليل النهائي- كان يخدم غرضين اثنين: محاصيل يستولي عليها ثم يبيعها ثم يحصل على عوائدها محمد علي باشا لتمويل نفقات مطامحه ومطامعه السياسية الخاصة به وبمستقبل سلالته، ثم توفير المحاصيل الخام اللازمة للمصانع الأوروبية الوليدة في المراحل الأولى من الثورة الصناعية القوية في أوروبا، كانت مشاريع الري لتطوير الزراعة، وكان تطوير الزراعة لتمويل مطامح ومطامع محمد علي باشا، ثم في الوقت ذاته، توفير الإمدادات اللازمة من المواد الزراعية الخام لمصانع أوروبا، وبالذات القطن طويل التيلة الذي أدخل محمد علي باشا زراعته في مصر، وكان ركنا أساسيا في صناعة المنسوجات التي كانت في ذاك الوقت جوهرة الثورة الصناعية وعماد التجارة الأوروبية وأساس الزحف الرأسمالي.

محمد علي باشا طور نظم الري ونظم الزراعة وأدخل محاصيل جديدة، لكنه أفقد مصر استقلالها الاقتصادي، ثم ألحقها بذيل الاقتصاد الأوروبي، ثم مهد الطريق لما أنجزته سلالته من بعده حيث: تم فتح الأبواب أمام تدفق الأوروبيين في أكبر موجة احتلال مدني ناعم عرفته مصر المعاصرة، ثم فتح بوابات كبار الزوار ليدخل منها الاحتلال العسكري البريطاني 1882م، وهذه هي عصارة دور محمد علي باشا في تاريخ مصر المعاصرةنابل.

…………………….

أنقل هنا عن تيموثي ميشيل في كتابه “استعمار مصر” يقول: كانت مصر تتحول من بلد يشكل أحد محاور التجارة في العالم العثماني وما وراءه، ومن بلد كان ينتج ويصدر مواده الغذائية الخاصة ومنسوجاته الخاصة، إلى بلد يهيمن على اقتصاده إنتاج سلعة واحدة، القطن الخام، من أجل صناعة النسيج الأوروبية، وعند عشية الحرب العالمية الأولى، كان القطن يختص بنسبة تزيد على اثنين وتسعين في المائة من القيمة الإجمالية لصادرات مصر”.

ويقول: “بعد تركيز الصادرات في القطن الخام حدث توسع هائل في الواردات بما في ذلك منتجات النسيج المصنعة، والمواد الغذائية، وشبكات الطرق، ومكاتب البرق، وأقسام الشرطة، والسكك الحديدية، والموانئ، وقنوات الري الدائم في طول البلاد وعرضها”.

يقصد تيموثي ميتشيل أن دولة محمد علي وسلالته وفرت القطن الخام لمصانع أوروبا ثم استوردت من أوروبا كل شيء، الغذاء، الكساء، ثم خبرات تحديث المرافق العامة من طرق إلى موانئ إلى سكك حديد إلى قناطر وقنوات ومشاريع تنظيم الري إلى البوليس وأدوات الضبط الاجتماعي إلى آخره .

ويقول: “أصبحت الأرض سلعة مملوكة ملكية خاصة مركزة في أيدي طبقة اجتماعية صغيرة لكنها قوية ثم ثرية ثم يزداد ثراؤها بطريقة متواصلة، ثم انفتح الباب أمام تدفق الأوروبيين، الساعين إلى تحقيق الثروات، أو إلى العثور على عمل، أو تمويل الإنتاج الزراعي -يقصد المرابين وبيوت المال- أو من جاءوا بقصد فرض السيطرة الاستعمارية، أو من جاءوا لإعادة تخطيط وبناء وتنظيم المدن والبنادر والقرى في الحضر والريف لتكون مراكز تجارية يهيمن عليها الأوروبيون”.

ثم يختم، بما معناه، أن مصر، في القرن التاسع عشر، تم تحويل كافة مناحي الحياة فيها، لخدمة غرض واحد فقط، هو صناعة النسيج في أوروبا عندما كانت الثورة الصناعية في عنف انطلاقها وعندما كانت صناعة النسيج هي عمادها، يقول بالنص: “والحال، أنه لم يجر تحويل مكان آخر في العالم، في القرن التاسع عشر، لخدمة صناعة واحدة، على نطاق أوسع، من نطاق التحويل، الذي أصاب مصر”.

كتب الدعاية الاستعمارية والاستشراقية الفرنسية التي روجت اختراع الدولة الحديثة في مصر، ثم روجت اختراع أن محمد علي باشا هو مؤسس هذه الدولة الحديثة، ومنحته ألقاب نابليون مصر وبونابرت أفريقيا وغيرها، هذه الكتب صورت محمد علي وسلالته كسلالة ملكية شرقية حديثة ذات ثقافة فرانكفونية وثيقة الصلات بأباطرة فرنسا وملوكها وبيوتاتها الارستقراطية (سوف نفرد لهذه الصلات بين محمد علي وسلالته وملوك فرنسا ولغتها وثقافتها عدة مقالات لاحقة بمشيئة الله).

لكن تيموثي ميشيل في كتابه “استعمار مصر” ينسف تلك الروايات الاستعمارية الاستشراقية الفرنسية من جذورها، فلم يكن الفرنسيون مثل غيرهم من الأوروبيين ينظرون -في الحقيقة- إلى محمد علي وسلالته إلا نظرتهم العنصرية الاستعلائية التمييزية الرديئة التي كانوا ينظرون بها في قرن زهوهم وغرورهم الأعلى -القرن التاسع عشر- إلى كل من هو غير أوروبي، لا فرق بين مسلم وغير مسلم، لا فرق بين عثماني ولا هندي ولا صيني ولا مصري، فكل هؤلاء -في نظرهم- غير أوروبيين، بما يعني أنهم في ترتيب أدنى على سلالم التحضر التي يتربع الأوروبيون فوق قممها وذراها السامقة.

يحكي ثلاثة أمثلة، تتناقض مع الروايات التي كانت تصور سلالة محمد علي باشا كبيت حكم فرانكفوني وثيق المودة بأباطرة فرنسا وعائلاتهم.. هذه الأمثلة باختصار هي:

– كان الطلبة المصريون المبتعثون للدراسة في فرنسا -بمن فيهم أنجال محمد علي باشا- يتعرضون للسخرية من كل شيء فيهم، بما في ذلك ملبسهم وهيئتهم وهويتهم الشرقية، حدث ذلك في كل مكان كانوا يترددون عليه في باريس، من قاعات العلم حتى الأسواق والمسارح والميادين وأماكن اللهو.

– ويذكر أن القائد العظيم إبراهيم باشا -النجل الأكبر- لمحمد علي باشا، أثناء زيارته لبريطانيا 1846م، دخل مكانا للملاهي، كانت معروضة فيه حيتان للفرجة مقابل جنيه واحد، فلما دخل المكان عرفه صاحبه، وعرضه للناس على سبيل الفرجة، وقال : تقدروا تتفرجوا -بجنيه واحد فقط – على الحيتان وعلى إبراهيم باشا قاهر الترك، وكان إبراهيم باشا مشهورا في أوروبا بانتصاراته على العثمانيين، وتزاحم الناس للفرجة عليه، ولم ينقذه إلا استدعاء شرطة مدينة برمنجهام، لتخليصه من الغوغاء.

– حدث شيء من ذلك، وربما قريب الشبه بصورة الرئيس الليبي معمر القذافي في أوروبا عندما كان يصحب معه الخيام البدوية في قلب أوروبا، مع الخديو إسماعيل عند زيارته لباريس 1867م لحضور معرض دولي هناك، إذ تم تصويره -وهو يستقبل ضيوفه في قصره- كحاكم شرقي يعيش في القرون الوسطى، وليس كما فهمنا من كتب الدعاية الفرنسية الموجهة كحاكم حديث لدولة حديثة يطمح لتكون قطعة من أوروبا.

فرنسا التي روجت حكاية الدولة والسلالة الفرانكفونية، لأسباب نفعية صراعية استعمارية، هي فرنسا العنصرية التي رأت في أنجال “بونابرت أفريقيا” مجرد شرقيين متخلفين .

………………..

المؤرخ الأستاذ الدكتور عماد أحمد هلال، له بحث قيم، عنوانه “الجيش الأول لمحمد علي: تجربة بناء جيش كامل من الرقيق”، هذا البحث يطلعنا على ثلاثة نوافذ كاشفة:

– الأولى: صحيح أن محمد علي باشا قضى على المماليك المنافسين، لكنه أسس طبقة مملوكية جديدة موالية، كان لها موقع نافذ في سياسة مصر واقتصادها لقرن أو أكثر من الزمن.

– الثانية: صحيح أن جيش محمد علي باشا أفسح مكانا لتجنيد المصريين لكن كان ترتيبهم الرابع بعد أقاربه ثم المماليك البيض ثم العبيد السود.. وبعد كل هؤلاء يأتي الفلاحون المصريون.

– الثالثة: صحيح كان للفرنسيين دور، لكن ليس بالصورة التي صدرتها الدعاية الفرنسية، فمثلا سليمان باشا الفرنساوي أو كولونيل سيف لم يكن هو من أسس الجيش الحديث، ثم لم يكن كولونيل في جيش بونابرت، فقط كان صول أو صف ضابط، هو شخصيا لم يكن ضابطا في الأصل، ومثل ذلك يقال عن كلوت بك الذي يعتبر مؤسس الطب الحديث في مصر، لم يكن طبيبا في الأصل في بلده فرنسا، كان فقط ممرضا أو مساعد طبيب.

………………….

مشروع محمد علي باشا، كان ترتيب المصريين فيه، يحتل الترتيب الأخير.

في المقدمة جاء أقاربه، ثم جاء الأوروبيون، ثم جاء المماليك البيض الخاصون به، ثم الرقيق الأسود، ثم تذكر المصريين في 1822م عندما أصدر الأوامر، لحاكم إقليم جرجا، أحمد طاهر باشا، بجمع أربعة آلاف رجل من الفلاحين، وإرسالهم إلى الثكنات العسكرية، لتدريبهم على القتال، مع غيرهم من الرقيق السودانيين.

كان ضباط جيش محمد علي باشا من أقاربه الأتراك ومماليكه البيض، وكان جنوده من العبيد السود ثم الفلاحين المصريين.

وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.