“لا يوجد شيء أعيش من أجله”.. بتلك العبارة عبر محمد تاجر المواشي عن حاله بعدما خسر كل ما يملكه مع مصطفى “البنك” صاحب أكبر شبكة لتوظيف الأموال في إدفو بأسوان. ففرط في مواشيه وأرضه من أجل المكسب السريع وباتت آماله معلقة فقط في إمكانية استرداد أي شيء من أموال المستريح الذي تطرحها النيابة العامة بمزادات علنية.
يعض التاجر أنامله ندمًا على تغييب عقله وخداعه في مهنة هو ملم بأصولها وقواعدها. يتساءل حاليا: كيف أقتنع بأن جاموسة بـ25 ألف جنيه يمكن أن يشتريها زبون بـ60 ألفا؟ وإذا كانت تجارة الماشية تدر تلك الثروات فلماذا لم يصيبه الثراء طوال عمله بها الذي استمر لسنوات طويلة؟
جمع مصطفى، تاجر المواشي محدود الثقافة والتعليم، نحو 200 مليون جنيه من الضحايا الذين ينتمي بعضهم لفئات على قمة الهرم الثقافي. إعلاميون ونواب برلمان وشيوخ بالأوقاف ومدرسون بالأزهر. عبر سلاح “الطمع”. الذي لا يخيب في كل مرة يجري استخدامه فيها من قبل عصابات توظيف الأموال.
تحليل شبكة الضحايا فكريًا يكشف الكثير من الكواليس، بحضور كبير لشيوخ ومدرسين بمدارس دينية وإسلاميين. لا يزال لديهم تحفظات على الفوائد البنكية والجدلية الأزلية التي تم الرد عليها أكثر من مرة من قبل الأزهر بعلمائه ودار الإفتاء برجالها حول “ربا البنوك”.
مصطفى البنك، كما وصفه الضحايا، زعم بأنه من نسل السيدة زينب. ووصفه أحد المنشدين المعروفين بأنه مثل “عثمان بن عفان”. قدم نفسه على أن أعماله تجارية واستثمارية في المواشي، وهو أمر معروف آلياته للريفيين بشراء قطعان من الماشية الصغيرة وتسمينها وإعادة بيعها مجددًا بسعر أعلى.
يقول رمضان إسماعيل، أحد ضحايا مصطفى البنك، إنه خدعهم بمصداقية وعوده في البداية. فزارهم في المنزل وأعطاهم أول ربح من المتفق عليه، ثم خدعهم. ولم يورد الأرباح الباقية. وهو أمر تكرر مع آخرين حينما حصلوا على أول ربح دفعوا بباقي ثروتهم من أجل المزيد.
مصطفى كغيره من المستريحين أمثال طاهر وزين الحصاوي وصلاح المغني وحجاجي وأحمد كرار. ومحمود عبد الصبور ينتمون لعائلات فقيرة أو متوسطة لكنها ذات سمعة طيبة بين الأهالي. واستغلوا تلك النقطة في مجتمع مغلق يعتمد في المقام الأول على المعارف في جذب العملاء.
تأثير “الدومينو” كلمة السر لاستقطاب الضحايا
تعمل عصابات عبر نظرية “تأثير الدومينو” وهو تفاعل تسلسلي يحدث عندما يسبب تغييرًا صغيرًا. تغييراً مماثلاً بجواره ليتحول بدوره لتغيير مماثل وهكذا في تسلسل خطي. فكل عميل يأتي بشبكة أقاربه ومعارفه، والمعارف يأتون بمعارف وهكذا. لتصبح الثقة ليست في الشخص الأصلي الذي يتولى شبكة التوظيف. ولكن في مكانة وقرب الأشخاص الذين انضموا له.
تفسر شبكات المعارف أسباب قبول الأشخاص بوضع أموالهم لدى أناس ليس لديهم أي فكرة عن الاقتصاد أو الاستثمار فمحمود النجار سائق لعربة صرف صحي يمتلكها بأسوان وبدأ أعمالا في شراء وبيع السيارات حتى تأسيس شركات نقل جماعي ومعرض للسيارات، وكله بأموال الضحايا.
يجمع بين المستريحين اكتسابهم قدرا من فهم الطبيعة البشرية في “طمع المكسب”، فمحمود عبد الصبور رفع نسبة الفوائد إلى 30% على المبالغ أو قيمة الأصول والذهب يتم دفعها خلال ستة أشهر، ما يعني أنه ضاعف الفائدة البنكية عدة مرات، وباقي المستريحين رفع سعر الفائدة إلى 50% على أن ترد المبالغ مضاعفة خلال 15 يومًا فقط، والجميع اعتمد على مناديب برواتب تعادل 5 آلاف جنيه شهريًا ومنح كل من يأتي بزبون جديد عائدًا مضاعفًا.
شكل المحامي العام لنيابات أسوان لجنة مزاد علني لبيع ما خلفه مصطفى البنك، وجرى خلالها بيع 210 رؤوس ماشية بـ3 ملايين و175 ألف جنيه، وبيع 5 خرفان وجدي بـ19 ألف جنيه، وبيع 2 حصان أنثى بـ10 آلاف و500 جنيه، فيما جرى تقدير 163 جملا بمبلغ 2 مليون جنيه، ولكن لم يتم الاتفاق على البيع في المزاد.
كما جرى نقل 451 رأسا من الماشية والإبل، وذلك من الأحواش الخاصة بالمستريح فى مركز إدفو، إلى الحجر البيطري بمدينة دراو وفقا لقرار النيابة العامة وسط حراسة أمنية مشددة، وتضمنت المواشي التي جرى نقلها 236 رأسا من الأبقار والعجول، و198 رأسا من الإبل وهي عبارة عن “168 جملا كبيرا و30 جملا صغيرا” بالإضافة إلى مولود صغير تم وضعه بعد عملية نقل المواشي، بجانب نقل 8 جاموسات حلوب، و 6 خرفان، ومعزة واحدة..
وللمصريين في الخارج نصيب
تعددت الفئات التي تعاملت مع المستريحين، فهناك إحدى السيدات التي وقعت في شرك النصب. بعد دفع حصيلة كل ما حوله لها زوجها من مدخرات حيث يعمل بإحدى الدول العربية. بالإضافة إلى ذهبها الذي باعته من أجل تحقيق المكسب المضاعف والسريع. ولا تعلم ما مصيرها بعد وصول خبر النصب عليها للزوج.
سيدات معيلات قمن بالاستدانة من مؤسسات القروض المنتشرة. ودفعن المبالغ كاملة إلى المستريح رغبة منهن في تحقيق المكسب السريع الذي يساعدهن على دفع قيمة القرض كلها ويتبقى لهن ما يكفي لبدء مشروع خاص.
تجار مواش اقترضوا من البنوك الزراعية بضمان ما يمتلكونه من أحواش لتربية المواشي، أو عقارات لشراء مواش وبيعها إلى أحد المستريحين لتحقيق مكاسب مضاعفة خلال 15 يومًا وسد القرض.. رجال وشباب دفعوا حصيلة ما يملكونه من مبالغ، أو لجأوا إلى الاقتراض من البنوك لشراء سيارات أو دراجات بخارية بأسعار أرخص من السوق، على أمل أن يسددوا في وقت لاحق.
تقدر قيمة المبالغ التي جمعها محمود بالمليارات -غير معلوم الرقم على وجه التحديد- أما الباقون. فقيل إنهم جمعوا ما بين 70 إالى 100 مليون جنيه مصري بخلاف العملات والذهب.
بدأت عمليات توظيف الأموال في أسوان مع أحد نواب البرلمان بإدفو. حيث باع أحد أصوله لأحد المستريحين لتحقيق ربح مضاعف ما أضفى شرعية على هذه الأعمال. كما أدت دعوة العديد من مدرسين الأزهر من اﻷصدقاء أو ممن لهم صلة قرابة مع المستريحين إلى شرعية هذه المكاسب التي تأتي من المتاجرة والمضاربة عن فوائد البنوك.
روج عدد من الإعلاميين المحليين بشكل مستمر على صفحاتهم لأعمال الخير التي يقوم بها أحد المستريحين (مصطفى البنك). فهو يساعد المحتاجين، من اﻷسر والنساء المعيلات، كما يقوم بذبح المواشي لإطعام الفقراء والمساكين كل ليلة. ويضاعف العطاء والمبالغ في حالة اﻷيتام، وهو ما أوقع مزيدا من الضحايا في شراكه.
يقول أحد الضحايا في أسوان إن سكان قرى إدفو “ماشيين يكلموا روحهم”، العديد من الأسر معرضة للانفصال. من الواضح أن محافظة أسوان ستشهد زيادة في معدلات الفقر ستصل إلى الفقر المدقع بين السيدات المعيلات. والأسر التي وضعت كل مصادر رزقها في هذه الشركات مع عرض بيع أصولها لسداد مديونيات البنوك. أو مؤسسات الاقتراض التي تفوق قدراتهم الاقتصادية ومواردهم.
توظيف الأموال.. تاريخ طويل يتجدد
في أواخر الثمانينات قدرت عدد شركات توظيف الأموال بـ60 شركة كان أبرزها الريان، والسعد والشريف والهدى مصر. حيث كانت تعطي فوائد مالية عالية تفوق النسب المقررة في البنوك. مما ضاعف من الأقبال عليها خاصة من المصريين العاملين في الخارج.
قدرت إجمالي إيداعات المواطنين في شركات توظيف الأموال حوالي مليار و137 مليون جنيه. تم سداد 113 مليون جنيه عام 2001 وهو ما يمثل 10% من هذه المبالغ وسددت الحكومة في عهد أحمد نظيف حوالي 85% بنهاية عام 2006.
ورغم مناشدة الحكومة للناس بعدم الانسياق وراء أوهام المكاسب السريعة التي يعرضها أفراد بشكل غير مشروع يؤدي إلى ضياع مدخراتهم. لكن بدأت شركات توظيف الأموال على ساحة المجتمع المصري مع تطور الأزمة الاقتصادية وزيادة نسب التضخم التي تشهدها البلاد منذ 2016.
في 2016 جرت محاكمة المتهمين بتوظيف الأموال في قضية شركة “مركس ماركيتس”. المتورط بها 4 متهمين أحدهم فلسطيني الجنسية، بعد استيلائهم على مبالغ قدرت بـ 100 مليون جنيه من المواطنين منذ 2012 لتوظيفها في مجال الفوركس. لكنهم توقفوا عن سداد الأرباح، أو سداد أصل المبلغ منذ بداية عام 2015.
كما تم القبض على شخص استولى على مبلغ ملياري جنيه في القضية المعروفة باسم “ريان الصعيد”. وكشفت مباحث الأموال العامة عن أكثر من واقعة شهدتها مصر مثل سقوط مستريح سوهاج. الذي نصب على مواطنين بقرابة مليون ونصف المليون جنيه بدعوى توظيفها في مجال الاستثمار العقاري. مدعيًا حصول الضحايا على عائد مادي مناسب بصورة شهرية.
كما تكرر الأمر ذاته مع طبيب مزيف بالمحلة الكبرى ضبطته عناصر الأمن واتضح استيلاؤه على مليوني جنيه من المرضى بزعم توظيفها في المستلزمات الطبية، وضبطت مباحث الأموال العامة 3 أشخاص نصبوا على مواطن بمبلغ 350 ألف جنيه بدعوى توظيف أمواله.
أعمال متنوعة والنتيجة واحدة
خلال الأشهر الماضية ألقي القبض على عدد من المستريحين المنتشرين في أنحاء الجمهورية، فقد تم ضبط مستريح بالجيزة استولى على 300 مليون جنيه من المواطنين بمساعدة صاحب شركة صرافة، زاعماً أنه يمتلك مصنعا وشركة لإنتاج وتوريد العلف الحيواني بإسبانيا وبدأ تقاضى مبالغ مالية كبيرة من وكيل المبلغ والعديد من المواطنين بزعم استثمارها في ذلك المجال.
كما تم القبض على مالك شركة توظيف أموال، اتهم بالاستيلاء على أكثر من 500 مليون جنيه عن طريق النصب على ما يقرب من 600 شخص بزعم توظيفها في تجارة المواد البترولية مقابل أرباح شهرية والدخول في مشروعات عقارية تابعة للشركة.
صدر القانون رقم 146 لسنة 1988 في شأن الشركات العاملة في مجال تلقي الأموال لاستثمارها، وجاء في تطبيق هذا ألا يجوز لشركات المساهمة العاملة في مجال تلقى الأموال لاستثمارها مزاولة أعمال البنوك بما فيها تلقي الودائع تحت الطلب أو لأجل أو أعمال الصرافة أو منح التسهيلات الائتمانية، ويحظر عليها توجيه دعوة الجمهور بأية وسيلة مباشرة أو غير مباشرة لجمع الأموال لتوظيفها أو استثمارها أو المشاركة بها، وقد حدد القانون ألا يقل عدد الشركاء المؤسسين عن عشرين شخصا، وألا يقل رأس المال المصدر عن خمسة ملايين جنية مصري، ووفقاً للقانون تصل العقوبات الرادعة لمخالفة هذا الشأن إلى السجن 15 عامًا.
الناس في إدفو
يثير استقطاب مصطفى البنك لضحاياه في ظل شهادات بنكي الأهلي ومصر التي تعادل فائدتها 18% سنويا بعائد شهري، تساؤلات حول دور البنوك في التوعية والوصول للجمهور، والقضاء على الجدليات التي لا تزال عالقة في أذهان الريفيين والبسطاء حول الفائدة، وأسباب عدم تضمين تلك الفكرة في حملاتها الإعلانية التي انساقت بعيدا عن الترويج للدور المصرفي إلى الغناء وعالم الفيديو كليب.
يرجع كثير من الإعلاميين نجاح عمليات النصب لطمع الناس في المكسب المضاعف خلال فترة قليلة. ولكني كباحثة اختلف معهم قليلًا. فبعض من اﻷفراد أو اﻷسر دفعهم الطمع، واﻷغلبية دفعهم الفقر والحاجة إلى العيش بقدر من الإنسانية والسعة، مع انخفاض الوعي، ما تتداخل فيه عوامل كثيرة، جعلت هؤﻻء ضحايا لعمليات النصب.
وعلى الرغم من امتلاك أغلب الضحايا للأراضي الزراعية والماشية. إﻻ أن العوائد منها ﻻ تكاد تكفي سد احتياجاتهم اﻷساسية خلال العام. خاصة في مركز إدفو. حيث تقوم الزراعة هناك على محصول القصب لتغذية مصنع السكر بالمركز. وعدد من يمتلكون من 50- 70 فدانًا محدودين جدًا. فيما لا يمتلك أغلب المزراعين إﻻ عدة قراريط، ﻻ يعرفون غيرها. ويشتري مصنع السكر طن القصب بما يعادل نحو 810 جنيها، يطرح منها تكلفة الزراعة التي تصل إلى 550 جنيهًا، وما تبقى فهو لعيش أسرة الفلاح طوال العام.
وهذه خلفية بسيطة عن الحاجة التي تدفعهم إلى اللجوء للبنك الزراعي للاقتراض بضمان قيمة المحاصيل التي تقدمها لهم المصانع من خلال البنك، أو في النهاية تصديق من هم مثل “المستريح”. خاصة وإن كان مدعومًا بآخرين منحوهم شيئًا من المصداقية لدى هؤلاء البسطاء.