ذات مرة منذ سنوات كنت أجلس في جمع سينمائي نشاهد فيلما تسجيليا إسرائيليا. البطل يحكي سيرته الذاتية في قالب “تسجيلي”. نتلمّس ضياعه الشخصي في معرفة الحقيقة التائهة. يتواصل في رحلة البحث عن الحقيقة من خلال ذاكرته إلى طرح مذبحة جنين السابقة. جنين المدينة ذاتها التي ستشهد بعد عشرين عامًا استشهاد صحفية مثل شيرين أبو عاقلة علنًا. لتلك الحدوتة حضور لا يمكنني تفسيره إلا بعد الحديث عن مأساة اليوم المكمّلة له.
موت سيدة تنقل مأساة شعب يومية أمام احتلال. هذا ما تعنيه صورة المقال. هذا مشهد يتعامى عنه الإنسان يوميًا. تهلكه صراعات الحسم. قيل وقال. بعيدًا عن المباشرة التي يمثلها موت إنسانة صحفية أمام العالم لقتل تلك التأويلات. ما الذي يعنيه على الأقل لفضح سينما احتلال تتباكى أمام العالم لتمييع الأحاديث وخلق عبث يعتاد العالم وجوده؟
في فيلم the insider نتتبع قصة تعرض رجل كيميائي لهجوم شخصي ومهني عندما يقرر الظهور للعلن. نشاهد في سياق غير مباشر محاولة التخلص من رجل لم يكن ينبغي أن يعرف ما أصبح لديه من معلومات. سحب المخرج مايكل مان للسينما سيناريو الفيلم من مقال الصحفية ماريا برينر “الرجل الذي عرف أكثر من اللازم“. بعد عشرين عامًا ستقتبس السينما قصة الصحفية ذاتها لصناعة فيلم حول ماري كولفين. واحدة من أشهر المراسلين الحربيين في عصرنا. وهي روح شجاعة ومتمردة تمامًا مدفوعة إلى الخطوط الأمامية للصراعات في جميع أنحاء العالم لإعطاء صوت لمن لا صوت لهم.
فلسطين ولعبة التخاذل الدولي
تصلح قصة ماري كولفين لمجاز عالمي حول صراعات العالم. تمامًا مثلما تصلح قصة الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة التي قتلها جنود الاحتلال الصهيوني عمدًا أمام كاميرات العالم مجازًا لتخاذل دولي تجاوز السبعين عامًا في فلسطين. وورطة متكررة تخذل سينما الصهاينة التي تتباكى وجوديًا دون سياق.
لقد أعلنت النيابة العامة الفلسطينية أنها باشرت إجراءات التحقيق وأوضحت أنها ستتابع القضية من خلال نيابة الجرائم الدولية المختصة بتوثيق الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. وذلك تمهيداً لإحالتها لمكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية. بينما مصادر إسرائيلية تقول إن المراسلة “قتلت نتيجة إطلاق نار عشوائي من قبل مسلحين فلسطينيين خلال تغطيتها اقتحام قوات إسرائيلية لمخيم جنين”.
شيرين أبو عاقلة.. المستهدفة بالرصاص
في حديث أرشيفي لها قالت “أبو عاقلة” إن السلطات الإسرائيلية دائما ما كانت تتهمها بتصوير مناطق أمنية. وأضافت أنها كانت تشعر باستمرار أنها مستهدفة وأنها في مواجهة قوات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين المسلحين.
الفتاة التي قامت بتغطية أحداث الانتفاضة الفلسطينية التي بدأت في عام 2000 والاجتياح الإسرائيلي لمخيم جنين وطولكرم عام 2002 والغارات والعمليات العسكرية الإسرائيلية المختلفة التي تعرض لها قطاع غزة. وكانت أول صحفية عربية يسمح لها بدخول سجن عسقلان في عام 2005. حيث قابلت الأسرى الفلسطينيين الذين أصدرت محاكم إسرائيلية أحكاما طويلة بالسجن في حقهم. خرج مسؤول صهيوني يقول إنها قتلت برصاص من “إرهاب فلسطيني” إلى أن ننسى الحديث برمّته.
ميوعة التناول اليومية التي تحولها كلمات المسؤولين الصهاينة تصبح بيت القصيد في مأساة “أبو عاقلة”. ثمة فرضية تقول بقتلها بيد الاحتلال مقابل فرضية عامة لا تستند إلى أي شيء يقولها الاحتلال وسط رعونة دولية عامة. مؤكد أن هذه الرعونة ستؤدي لمزيد من “الصهينة” على الموضوع حتى ننساه أو نتناساه.
سينما.. كل شيء هنا سينما
إلى جانب المشهد اليومي مع حالات مختلفة لشيرين أبو عاقلة. هكذا تسعى سينما الاحتلال أيضًا لخلق مجاز يمكنه احتمال السرديات الخيالية كافة على اعتبارها وليدة صراع نفسي في قلب فنان إسرائيلي مدني مجبول على صراع وجده دون إرادته. هذه الصراعات تقدم الحقائق والأوهام كخيالات لا يمكن الوقوف أمامها وتحليل جدواها على اعتبار أن الفن عمومًا غير معني بأي شيء.
حقائق قتل الاحتلال للأبرياء تتساوى وأوهام محاولة الفنان الصهيوني للبحث عن الحقيقة الضائعة بين السرديات المختلفة. لا يقتل تلك الميوعة سوى حقيقة جلية مثل قتل شيرين جهارًا في أثناء تأدية عملها. على اعتبارها إنسانا خارج طرفي الصراع. ذلك الصراع الذي أصبح علينا تجاوز ظالمه ومظلومه.
الطبخة المعتادة التي أصبحت أشاهدها في عدد غير قليل من سينما الاحتلال: أزمة هوية للأبطال مقرونة بإدانة الجيش الصهيوني لخلق تعاطف عام دون الاعتراف بكارثية وجوده أساسًا.
أحيانًا نشاهد ظلما فلسطينيا وأحيانًا نتجاهله. تضعنا تلك السرديات أمام حالة تخبط يضيع أمامها كل معنى لأحاديث متبادلة لا تقول أي شيء.
هناك آراء يحاول أصحابها لفت الأنظار دون أن يقولوا شيئا واضحا أو محددا مهما كانت تفاهته.
تمييع الحقيقة
ينتهي الفيلم الإسرائيلي الذي تحدثت عنه في المقدمة في قلب حالة الهيام والضياع الخاص والعام تلك. وتنتقل الأحاديث بين الحضور الذي كان يعني لصاحبه أكثر مما يعني للمعنى العام. المتعاطف جنبًا إلى جنب مقابل غير المعني. الجميع متجاوز لجذرية الفكرة المطروحة لأن الفن غير معني بما سواه.
لم يكن يشغلني إلا تساؤل وحيد بعد المشاهدة ووسط النقاش: لماذا وسط تلك التوهة والضياع يصر المخرج على اعتبار عمله “تسجيليا” تحديدًا. لم يكن روائيا أو غيره. كانت إجابة الرجل المدعي الذي أحاوره أنه يعرض “حقيقته”. تساءلت عن معنى الجملة. قال إنها حقيقته، أي “حقيقة بديلة”.
“حقيقته” إذا كان لديه “حقيقته” وكانت لديّ “حقيقتي”. لا أعتقد أنه ستوجد حقيقة أساسًا. يصبح لكل إنسان “حقيقته” ليس تأويله أو تصوره عن الحقيقة لكن “حقيقته”. لأن الصوابية السياسية تحكمنا جميعًا. لأن الجميع أصبح يخشى من إدانة أي طرف على اعتبار أن لديه “حقيقته”. لأن كل الأشياء مهما كان وضوحها يمكن تمييعها أو اعتبارها مائعة عمومًا.
وهم الحقيقة البديلة
ثمة خطر يواجه جيلنا أكثر مما كان يواجهه من سبقنا. منزوع سياقه من تلك الصوابية السياسية الزائفة التي كانت أساس كل خراب: الميوعة العامة في الحكم على الأشياء التي ينبغي أن يصبح ثمة معنى وراءها. أي إنه إذا كانت هناك “حقيقة بديلة” لن تكون هناك حقيقة أساسًا. الحقيقة حقيقة لأن ما دونها باطل.
لا وجود لأي حقائق بديلة -على الأٌقل- وقت نقاشي مع الرجل بشكل شخصي. أو اليوم -فقط- أو أي يوم مثله. يوم يموت فيه إنسان بريء مثل شيرين أبو عاقلة برصاص متعمد من طرف في صراع بين طرفين هي خارجه بحكم عملها. أمام صمت عالمي. تلك الحقيقة المشمسة تقف في مواجهة أي سردية ضياع وتوهة للمعرفة حالية أو لاحقة في صورة سينما تسجيلية ضائعة المعنى.
قضت “أبو عاقلة” السنوات تكشف بطلان أحاديث الاحتلال وجسّدت حتى بموتها أكذوبة سينما نراها عامًا بعد آخر تهتك عرض الحقائق ويساندها مهتمون بالسينما من باب الروشنة لا يعني لهم الخطاب السينمائي أي شيء. مقابل مشاعرهم الهائمة وأزماتهم الجنسية المختبئة وراء التعاطف مع رجل يدعي أنه لم يكن يعلم بمذبحة عالمية حدثت بجانبه في فيلم “تسجيلي” لم يفوّت تفصيلة شرائه للجرائد يوميا.
غاية ما أتمناه ألا نتجاهل موت علني متعمد حدث ويصعب ترميزه في سينما تفتقد الصدق فتخسر كل شيء يعنيه السينما أو الفن عمومًا.