لنتذكر في البداية تلك العبارة التي تقول: “إنَّ أيّ مفهوم مهما كان حقل اشتغاله المعرفي أو الجماليّ، لا يمكنه أن يستقرَّ داخل البنية النَّسقيّة والمعرفية لثقافة دون أن تكون له مرجعية سابقة داخل هذه الثقافة تعمل حاضنة له، وبدون هذه الحاضنة الداعمة لن يتمكن المفهوم الجديد من الاستمرار والبقاء، فضلا عن تشكيل الوعيّ والتأثير في الواقع.

ومن المفاهيم التي راجت في ثقافتنا مفهوم “المستبد العادل”، فقد لقي قبولا ملحوظًا لدى قطاعات غير قليلة من المثقفين ورجال الدين والمهتمين بالشأن السياسي؛ باعتباره بديلًا للديمقراطية الغربية، وحلًّا لمشكلة الحُكم والتراجع الحضاريّ الذي تعيشه الشعوب العربية، وباعتباره – وفق من يرون وجاهته – مفهومًا يشكِّل جزءًا من تاريخ هذه الثقافة.

قد لا نجادل كثيرًا في تاريخ الاستبداد الشرقي، ورغم أنَّ الإسلام -وهو المُشكِّل المركزي للثقافة العربية- لم يضع تصورًا محددًا للحكم، وإنما وضع معايير ترتبط بالكفاءة والصلاح، كما وضع “الشورى” مبدأ عامًا، يلجأ إليها الناس في اختيار الحاكم، ويلجأ إليها الحاكم فيما يتخذه من قرارات، رغم ذلك فإنَّ هذه المعايير لم تؤثِّر في الخط الأساسيّ لتاريخ المسلمين، حتى ليصحّ القول: إنَّ الاستبداد هو القاعدة الأساسية لكل مسميات الحكم التي عرفها المسلمون.

فلم تستطع الشورى -على أهميتها- أن تمنع الاستبداد، أو أن تخفف من عدوانه على الفرد والمجتمع، وذلك رغم مركزيتها الدينية والاجتماعية؛ فقد طبقها الرسول (ص) وقاتل – بحجيتها وشرعيتها- نفرٌ من الصحابة ضد يزيد بن معاوية” وغيره.. إلخ.

لماذا؟

لأن الشورى قد أُفْرغت إفراغًا من معناها حين ثار الجدل بين الفقهاء، في فترة مبكرة نسبيًّا، حول إلزاميتها للحاكم من عدمه؛ فكان الحاكم يشاور النخب الفقهية والثقافية، ولكنه -طبقًا للرأي الذي اعتبرها مُعْلِمة وليست ملزمة- وجد نفسه في حِلٍّ من الالتزام بما ينتهي إليه هذا التشاور، وهذا ما جعل الشورى مسألة شكلية فارغة، وجعل الحاكم في نهاية الأمر مستبدًا برأيه منفردًا به.

لقد استمرّ هذا الفهم -على مستوى الممارسة- قرونًا عدة، اختلط فيها الهوى الشخصي بالديني، فصار رأيُ الحاكم- الذي سيغدو مع الأيام إمامًا- دينًا تجب طاعته وتحرم مناقشته، فضلا عن مخالفته ومعارضته، الأمر الذي وضع المعارضة كلها -منذ فتر مبكرة– في خانة الأعداء، أعداء الدين في المقام الأول.

المستبد العادل

في هذا السياق، وداخل هذا الميراث الطويل المعقد، بدأ البحث عن حَلّ، وكان “مفهوم المستبد العادل” أحد هذه الحلول التي طرحها الإمام محمد عبده (1849- 1905م)، فكيف تسنى للإمام أن يجمع العدل مع الاستبداد؟ وما الغاية من جمع المتناقضين على هذا النحو؟ وما السياق الذي نبت فيه هذا المفهوم؟

يحتاج مفهوم “المستبد العادل” إلى قراءة تنظر في بنيته اللغوية أولا، وفي شبكة علاقاته السياقية والتاريخية ثانيًا، وفي ظلاله الدينية أو الأخلاقية أخيرًا.

ولعلّه من المهمّ أن نُفرّق بين معنيين للاستبداد، الأول: الاستبداد بمعنى الحزم والعزم وإمضاء الرأي، وهذا معنى يرتبط برغبة الذات في التحقق وقدرتها على ذلك، وهو معنى إيجابي، ويمكن أن نضم إليه حقلًا موسّعًا من الدلالات الحافة به، كالأنفة والكبرياء، والاعتزاز بالذات، والفخر، وهي كلها معانٍ ذات صبغة فردية ملحوظة، لا تقتصر على إنسان دون آخر، ولا على ثقافة دون أخرى؛ فاستقلال الرأي والنفور من أي ضغط نزوع إنسانيّ مما يطلبه الإنسان في كل ثقافة. ومن ذلك تحريض الشاعر “عمر بن أبي ربيعة” صاحبته “هند” كي تخرج للقائه وتستبد برأيها، وتتجاهل الأعراف الاجتماعية التي تحول بين هذا اللقاء:

ليتَ هندًا أنجزتنا ما تعدْ

وشفتْ أَنْفُسَنا ممّا تجدْ

واسْتبدتْ مرَّة واحدةً

إنَّما العَاجزُ من لا يَسْتبدْ

المعنى الثاني: وهو الاستبداد السياسي، ويقصد به انفراد الحاكم بالرأي والقرار، فيما يخص مجموع الناس، وعدم مشاورتهم فيه، فضلا عن استنكار ذلك، وإجبارهم على الخضوع له، بل واعتباره حقًّا للحاكم على المحكومين؛ انطلاقًا من مغالطة ترى أن الحاكم يعرف أكثر، ويرى أكثر، ويقدر أكثر، وما على الشعب الذي هو مجرد رعية، إلا أن يلتزم بما يراه ويخضع له…!

الاستبداد السياسي إذن هو التفرد بالقرار فيما يخص مجموع الناس أو الشعب، وكل تفرد –مع فرض إخلاصه– رؤية جزئية قاصرة، وكل رؤية جزئية تعجز –بالضرورة– عن إدراك العلاقات والمصالح الكلية لجموع الناس، وهذا يعني أنها تحقق مصلحة جزئية على حساب مصالح وأهداف أخرى، وهذا باب من أبواب الظلم الفرديّ والاجتماعي.

الاستبداد السياسي انفراد بالرأي، وكلّ انفراد يقتضي تسلطًا، ولا تسلّط إلا بقمع، وكل قمع يؤدي إلى خلق جماعة مصالح، تدعم الاستبداد وتنافقه؛ حماية لمصالحها ومكاسبها، وشيئًا فشيئًا، ينزل التسلط من السلطان إلى مَنْ هم دونه، إلى السلاطين الأصغر منه في المصالح والهيئات المختلفة، وكذلك النفاق، ينزل من جماعة المصالح إلى مَنْ دونها، وفي النهاية نجد أنفسنا إزاء مجتمع يجمع بين رذيلتين: التسلط والنفاق، فهو بالأولى مقهور كسيح، وهو بالأخرى عاجز عن رؤية مشاكله والاعتراف بها، فضلا عن مواجهتها والبحث عن حَلٍّ لها.

الاستبداد والعدل..!

الاستبداد السياسي إذن قرين التسلّط والقهر؛ فلا استبداد إلا بتسلط، ولا تسلّط إلا بظلم، وإذا كان الاستبداد كذلك، فكيف يمكن أن يقرن بالعدل؟ وإذا أمكن –على سبيل الفرض النظري- تنزيل هذا المفهوم الملتبس على واقع تاريخي معين، طبقًا لقراءة منحازة لهذا الواقع بالتأكيد، فما الذي يضمن استمراره؟ ألا يحتاج العدل إلى معايير؟ وتحتاج المعايير إلى مراقبة ومحاسبة؟ وإذا كان ذلك ضروريا فهذا يعني أنه لا استبداد مع العدل، ولا عدل مع الاستبداد! وإذا صحّ ذلك، وهو صحيح، فكيف توهَّم البعض إمكان الجمع بين الاستبداد والعدل، فقالوا “المستبد العادل” وقال آخرون “المستبد المستنير”.

من أين جاء مفهوم “المستبد العادل“؟ وكيف غفل من صاغه عن هذا التناقض الحاد بين طرفيه؟

يرجع بعض الدارسين هذا المصطلح إلى “جمال الدين الأفغاني”، الذي رأى أنَّ السبيل الأفضل لحكم الشعوب الشرقية، هو نموذج “المستبد العادل”، ولكنّ الحقيقة أنَّ الأفغاني نفسه قد استنكر هذا المفهوم، أو هذا الجمع بين كلمتين متضادتين وقال: “إنَّ خير صفات الحاكم: القوة والعدل، ولا خير بالضعيف العادل، كما لا خير بالقوي الظالم” وعلى هذا فلا تناقض ولا التباس.

ويلتقي الدارسون على أنّ هذه المقولة ترجع إلى الإمام “محمد عبده” في مقالة شهيرة عنوانها “إنَّما ينهض بالشرق مستبد عادل”، وفيها يتساءل:

“هل يعدم الشرق كله مستبدًا من أهله، عادلا في قومه يتمكن به العدل من أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرنًا؟”.

ومن المهم في هذا الصدد أن نضع هذه المقولة في سياقها من المقالة أولا، ونضع المقالة نفسها في سياقها التاريخي ثانيًا، ونضع هذا وذاك ضمن منهج الإمام الإصلاحي التربوي، بعد أن يئس –رحمه الله– من التغيير الثوري، نظرًا لما آلت إليه الثورة العرابية من فشل انتهى باحتلال البلاد.

فالمقال في أصله -وفقًا لأحمد أمين- ردٌّ على من يقولون إنَّ صلاح الشرق يجب أن يبدأ بالحياة النيابية، وهي الفكرة التي رآها الإمام ضد منهج التَّدرج التربوي الذي آمن به ودعا له، فالبداية من مجلس النواب دون تدرج، قد تؤدي إلى انتكاسة التجربة الديمقراطية برمتها.

فالشرق -في نظر الإمام- يفتقد إلى زعامة قوية مخلصة مُؤْتَمَنة، تستبد برأيها وتعمل على توحيد الصف، أو كما يقول: “مستبد يُكْره المتناكرين على التعارف، ويلجئ الأهل إلى التّراحم،  يَقْهَر الجيران على التَّناصف، يحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرّهبة، إن لم يحملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة”. وإذا سألنا ما الضامن لذلك الخلق القويم، وهذا الرأي الرشيد من الاعوجاج؟ لم نجد أي ضمانة، فأخلاق المستبد الرشيد وحبّه لوطنه هو الضمانة الوحيدة!!

يقول الإمام مؤكدًا ذلك: “عادل لا يخطو خطوة إلا ونظرته الأولى إلى شعبه الذي يحكمه… فهو لهم أكثر مما هو لنفسه“.

تبدو الفكرة مثالية إلى حد بعيد، ولعلها تسترشد بنظام الحكم الذي عرفته الخلافة الراشدة، حيث كان الخلق والالتزام بحدود الدين لمّا يزل قويًّا، رغم أنّ وصف هذه الفترة أو هذا الحكم بـ”الاستبداد” أمرٌ يحتاج إلى مراجعة أيضا.

لنقل إنّ هذه الفكرة، ولدت في سياق التدهور التاريخي والحضاري لشعوب العالم الإسلامي، وشعور الإمام محمد عبده بالخسارة من نتائج الثورة العرابية، واختلاف الناس وانقسامهم حول كل شيء، بالإضافة إلى تفشي الجهل والفقر في المجتمع، ومن ثَمَّ، افترض الإمام أنَّ الاستبداد سيكون لفترة محدودة، هي عقد ونصف من الزمان، يقوم فيها المستبد العادل بالانتقال من حالة الاستبداد إلى الديمقراطية، ولكننا –للأسف- لا نجد تصورًا واضحًا لانتقال البلاد من الاستبداد إلى الديمقراطية، والحياة الحرة الكريمة، التي يختار فيها الناس الحاكم ويحاسبونه.

فالديمقراطية في رأيه -وهو الإصلاحي الكبير- ليست مجرد إجراء يمكن أن نقوم به فحسب، ولكنها تربية وممارسة، ولا يجوز أن تبدأ بالمجلس النيابي مثلا، فضلا عن رئاسة البلاد أو رئاسة الوزراء، فمن المهم –وفق هذا- أن نتدرج في ذلك زمنيًّا، ونفسيًّا مع الناس، كي يعتادوا الاختيار مع الوقت. فالناس –طبقا لهذا التصور- سوف يختارون أولا المجالس البلدية، وبعد أن يستقر مبدأ الاختيار في حياتهم وسلوكهم سوف يختارون المجلس النيابي، مرورًا بمجالس الإدارات.. إلخ.

وشأن كل فكرة، وجدت فكرة الإمام محمد عبده ترحيبًا من رجل مثل رشيد رضا (ت 1935)، كما واجهت معارضة قوية من رجل مثل أحمد لطفي السيد (1871- 1963) الذي اعتبر أنّ الجمع بين الاستبداد والعدل في نموذج واحد فكرة خيالية، لا سند لها من عقلٍ أو واقعٍ أو تاريخ.

وفي بحثه عن الجذور البعيدة لهذا المفهوم، يؤكد “محمد عابد الجابري” أنَّ مفهوم “المستبد العادل” يمكن رده إلى أفلاطون نفسه؛ حيث رأى أنّ السبيل إلى إقامة جمهورية فاضلة لا يمكن أن يكون إلا إذا أُسند الحكم إلى الفلاسفة، أو أن يتحول الحكام إلى فلاسفة، ولكن أفلاطون نفسه يرى أنَّ هذا مجرد تصور مثالي من الصعب جدًا تحقيقه؛ فالفلاسفة قِلَّة في كل زمان، وإذا وجد الفيلسوف فليس من السهل أنْ يُسَلّم له الناس مقاليد أمورهم.

*

يمكن القول: إنَّ مفهوم “المستبد العادل” يمثل التفافًا ثقافيًّا حول حرية الناس أفرادًا ومجتمعات، وإنَّ هذا المفهوم ما كان له أن يوجد في هذه الثقافة لولا تعثرها التاريخي حول مفهوم “الحرية”، باعتباره حقًّا وقيمةً في الوقت نفسه، ومن ثم فهو أحد أوهام ثقافتنا وواقعنا الذي بات محكومًا بالوهمي وغير المنطقي.