سواء كانت هناك نية حقيقية لفتح المجال العام أم لا، فإن الأولوية ستظل لإعادة تنظيم المجال العام ووضع قواعد متوافق عليها لتنظيمه بحيث لا يخضع لردود أفعال أو قرارات فجائية تقول قررنا السماح لـ س بالحضور في المجال العام لحسبة اليوم قد تتغير غدا، ومنعنا ص لنفس الحسبة اليوم التي قد تتغير غدا، في حين ان المطلوب وضع قواعد مهنية وتفاهمات سياسية تنظم المجال العام ليس فقط أو أساسا بالمعني الإداري والإجرائي، إنما بمعنى القواعد السياسية والمهنية الحاكمة له والخطوط الحمراء التي لا يسمح بتجاوزها.

هذه القواعد المطلوبة ستسمح لكثيرين بالحضور في المجال العام الشرعي والقانوني وفق قواعد مستقرة تساهم في بناء البلد وليس وفق أهواء وحسابات غير واضحة تُسَكْن الأوضاع.

اقرأ أيضًا: تصريحات الرئيس والحوار.. هل آن أوان تغيير وجه السياسة في القاهرة؟

فتح المجال العام مطلوب، ولكن لكي تكون خطوة راسخة ومؤثرة فإن من المهم الاتفاق على قواعد جديدة تنظمه فما هي الخطوط الحمراء التي ترى الدولة إنه غير مسموح تجاوزها؟ وماهي القضايا التي يعتبرها المجتمع السياسي والنقابي والمدني خارج الخطوط الحمراء ويجب أن تخضع للنقاش العام العلني؟

فمثلا لا يختلف كثير من الجانبين على أن محاربة الإرهاب وقضايا الأمن القومي والأنشطة العسكرية للجيش، هي قضايا مؤجل النقاش العلني فيها وتدخل ضمن “الخطوط الحمراء” التي لا يجب المساس بها، حتى لو كان أغلبها يناقش علنا في المجتمعات الديمقراطية، إلا أن الظروف التي تمر بها مصر حاليا يتفهم كثيرون تأجيل نقاشها واعتبارها من الخطوط الحمراء التي تمثل سقف النقاش العام.

والحقيقة أن باقي القضايا التي تتعلق بالمحليات والسياسات العامة من صحة وتعليم ومواصلات لا تخضع حتى اللحظة لأي نقاش عام، ولا تستطيع الصحف أن تجري تحقيقا عن “سياسات” تطوير الأحياء مثلا ومن المستفيد منها؟ أو عن ما هي الجدوى من هذا السيل من الكباري التي انتشرت بسرعة البرق وتسبب بعضها لحوادث مؤلمة ومميتة لمئات البشر نتيجة عدم وجود أماكن آمنه لعبور المشاة؟ وهل شهدنا برنامجًا حواريًا واحدًا يناقش حصيلة ما سمي “بسياسة” تطوير الأحياء والتي رأي كثيرون أنها دمرت أحياء كثيرة وقضت على جمالها ورونقها دون عائد مروري يذكر مثلما جرى في حي مصر الجديدة وغيرها، وهي كلها قضايا لا علاقة لها بالأمن القومي ولا بمحاربة “قوى الشر” والإرهاب، ومع ذلك لم يسمح بمناقشتها.

أن غياب النقاش العام حول هذه القضايا وعدم الاستماع لآراء الخبراء والمتخصصين الذين اعتبروا ما يجري في بعض الأحياء هو هدم لتراث البلد ومع ذلك أصرت الدولة على الاستمرار في نفس السياسات واعتبرتها من “الإنجازات” الكبيرة.

والحقيقة أن القيود التي فرضت على الأحزاب وملاحقة كثير من قادتها دفعت بكثير من الناس إلى الابتعاد عن مناقشة القضايا السياسية ورفعوا شعار “مالناش دعوة بالسياسة”، وكانوا على استعداد لمناقشة مشاكل أبنائهم في المدارس والجامعات، ومشاكلهم مع المنظومة الصحية، وأزمات المواصلات وغيرها من القضايا التي تمس حياتهم اليومية ومع ذلك حرموا منها.

لقد فرض على الناس أن يكونوا متفرجين على القضايا الكبرى والصغرى، فشاهدوا الأشجار التي قطعت، والرصيف الذي اختفى والمباني الأثرية التي هدمت، والأحياء التي شوهت وغيرت معالمها رغم أنف سكانها ودون الاستماع لرأيهم.

اقرأ أيضًا: دعوة لحوار وطني يستهدف بناء مجال سیاسي شرعي آمِنٍ ومستقر

قضايا النقاش العام ليست ترفا ولا “مكياج” على وجه أي نظام سياسي، إنما هي في جوهرها طريق للحفاظ على استقرار أي بلد لأنها ستشعر الناس إنهم شركاء وقادرون على التأثير ولو في قضايا المحليات، وستضمن انتقالا تدريجيا منظما نحو بناء دولة القانون.

إن تعود الناس على المشاركة في قضايا المحليات والسياسات العامة بشكل سلمي وديمقراطي سيعني بالتأكيد أنهم سيكونون قادرين في المستقبل القريب على مناقشة القضايا الكبرى وتأسيس دولة القانون واختيار من يمثلهم ليس فقط في البرلمان والمحليات إنما أيضا في رئاسة الجمهورية.

فتح المجال العام دون إعادة تنظيمه والتفاهم على المساحات الآمنة للتنافس والجدل السياسي سيكون مجرد لقطة إعلامية أو نقطة تنفيس أو مكياج وليس خطوه نحو الإصلاح الحقيقي.

وإذا اختزلت قضية الحوار الوطني في السماح لظهور أحزاب وشخصيات سياسية أضعفت في السنوات الأخيرة دون معالجة أسباب اضعافها، والتي كان أغلبها يرجع للقيود والملاحقات التي تعرض لها كثير من قادة هذه الأحزاب، يعني إننا سنكون أمام لقطة أو احتفال كبير، أما إذا نوقشت قضية إعادة تنظيم المجال العام بتحديد قضايا آمنة للمنافسة والنقاش مثل انتخابات المحليات والبرلمان والصراع على تشكيل الحكومة والجدل الساخن حول قضايا السياسات العامة، فإن هذا سيعني أن مصر تقدمت خطوات حقيقية نحو عملية إصلاح سياسي شامل والانتقال الآمن نحو بناء دولة قانون.