شهدت الأيام الماضية جدلا طويلا حول حديث الرئيس السيسي خلال حفل إفطار الأسرة المصرية، والذي تلقفه المجتمع بحالة مختلطة من الترحاب والحذر، كانت نتيجة طبيعية لغياب الحوار بالكلية بين المجتمع والنظام خلال السنوات الماضية، مما تسبب في أزمة ثقة عززتها إجراءات أحادية من الدولة استهدفت تقييد عمل التنظيمات السياسية والاجتماعية، وغلق المجال العام في وجه الإعلام والمجتمع المدني.

أتصور أن كل ما أثير خلال الأيام الماضية من حديث وتصريحات وبيانات حول دعوة الحوار، هي تعاطي إيجابي مهم، وعصف ذهني طبيعي، رغم ما يبدو للمتابعين وكأنه صدام جديد حول شكل الحوار والجهة المنظمة للجلسات وضمانات المشاركة الإيجابية، رغم ما قد يشوب ذلك من عدم رضا من جانب النظام أو المعارضة حول دور الطرفين في الحوار.

بشكل شخصي قررت متابعة جلسات الحوار عن قرب والاشتباك مع فعالياتها والمناقشات الدائرة حولها لحظة بلحظة، رغبة في تأسيس قاعدة الحوار المتواصل بديلا من الصدام الذي بدأ بين النظام والمعارضة المدنية في لحظات متفرقة منذ 2014 حتى الآن، كانت نتيجة له مصادرة المجال العام بالكامل، واتخاذ إجراءات قاسية تجاه المعارضة، نتج عنها إيداع المئات في السجون متهمين بالإرهاب.

فيما يبدو رغبة من الرئيس لفتح صفحة جديدة، أو إعلانا بانتهاء فترة تضييق، كانت ضرورية كما يراها النظام، والانتقال الى فترة أكثر انفتاحا، عنوانها ما عبر عنه الرئيس “الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية” في تعليقه على قرار الإفراج عن دفعات من المحبوسين على ذمة قضايا سياسية خلال الأيام التي سبقت الحفل.

وبصفتي كنت أحد المفرج عنهم، الذين أعلن الرئيس بوضوح فرحته بالإفراج عنهم، وتأكيده بشكل واضح على أن الوطن يتسع للجميع، أجد أن أحد همومي الشخصية بخلاف الهم العام، هو الدفع باتجاه تحقيق وعد الرئيس بوطن يتسع لنا معا رغم اختلافنا في الرأي.

وأعتقد أن إيجاد صيغة حكم لـ “وطن يتسع للجميع”، من المفترض أن تكون هدفا لمشاورات “الإصلاح السياسي” ضمن “الحوار الوطني” المنتظر.

فالوطن الذي يتسع للجميع، يجب أن يعترف بداية بوجود “الجميع” وهو ما يستدعي الإفراج عن “الجميع” ممن يقضون شهورا وأعواما خلف القضبان، فقط لأنهم عبروا عن رأيهم باعتبارهم من “الجميع”، وإعادة دمجهم في المجتمع عبر إعادة الراغبين منهم في العودة للعمل العام، سواء العاملين بالسياسة أو الصحافة أو المجتمع المدني، الى أعمالهم وممارسة أدوارهم المجتمعية بحرية أكبر، كما يجب مراعاة أوضاع الكثيرين ممن فقدوا وظائفهم وأعمالهم بسبب سنوات السجن، وألا تتوقف فكرة دمج المفرج عنهم في المجتمع عند فكرة توفير فرص عمل، بل يجب أن تمتد الى توقف التضييق الأمني وإشراكهم في الحوار الوطني، لتناول تجربتهم الشخصية ضمن مناقشات تحسين أوضاع حقوق الإنسان في مصر، فاذا كانوا أكثر المتضررين من تدهور الأوضاع الحقوقية ومن التشريعات المقيدة للحريات، فهم أفضل من يعبر عن أنفسهم في صوغ بدائل لتلك السياسات الأمنية والقوانين الخاصة.

كما يجب أن يتشارك “الجميع” في رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية للوطن، وهو ما لن يمكن تحقيقه بأي شكل سوى بالسماح لـ “الجميع” بتكوين أطر تنظيمية تعبر عنهم، كالأحزاب السياسية والنقابات المهنية والعمالية واتحادات الطلاب وغيرها من أشكال التنظيم التي يكفلها القانون والدستور، ولكن جرى التضييق على عملها خلال الفترة الماضية، حتى تحولت الى أشكال فوقية لا تعبر عن جمهورها بأي شكل من الأشكال، وهو ما نتجت عنه الأزمة الحالية في اختيار المشاركين في “الحوار الوطني”.

وفي سبيلنا لتحقيق صيغة حكم “وطن الجميع”، فإن إيجاد ممثلين حقيقيين للمجتمع والسماح لهم بالعمل بحرية، تشمل الترويج للأفكار وعقد الفعاليات وتنظيم الانتخابات والتحالفات، خطوة للتعددية تلحقها خطوات أخرى للمشاركة، تستلزم من الدولة رغبة وإرادة حقيقية في دمج المختلفين معها والمعارضين لسياساتها، داخل الهياكل الوظيفية للدولة، حتى تتاح لهم عن قرب تجربة العمل الحكومي والعلم بتحدياته، كما توفر لهم نافذة لصياغة بدائل سياسية لما تتعرض له الدولة من تحديات.

كما تعتبر “حرية الصحافة والإعلام” خطوة لا غنى عنها في تأسيس وطن التعددية الذي تحدث عنه الرئيس، فإن اتاحة الفرص الإعلامية لـ “الجميع” لتأسيس منصاتهم الإعلامية واستخدامها بكل حرية لنقل آراءهم والترويج لبرامجهم، ضرورة لتحقيق مفهوم “وطن الجميع”.

كذلك فان وجود مجتمع مدني قوي مسموح لـ “الجميع” بالمشاركة فيه وكفالة حرية العمل الأهلي، خاصة الشق الحقوقي منه، هو ضمانة أكيدة لحقوق “الجميع” المدنية والسياسية.

ما سبق هو القواعد الأساسية لتحقيق ما أعلنه الرئيس بوضوح في خطابه، وما أراه ضرورة أساسية فرضتها اللحظة الراهنة من احتقان سياسي لدى المعارضة، واحتقان شعبي نتج عن آثار الأزمة الاقتصادية الحالية، وما تسببت فيه من أعباء يتحملها المواطنون، ضربت صميم احتياجاتهم الأساسية من غذاء ودواء.

أعتقد أن الرئيس أعلن موقفه بوضوح، وعلى باقي الأطراف وعلى رأسها الدولة بأجهزتها التنفيذية والتشريعية والرقابية، أن تترجم ما أعلنه الرئيس إلى قرارات وتشريعات واضحة تأخرت علينا الدولة كثيرا في إقرارها، لدي أمل كبير في أن تنفذ الدولة توجيهات القيادة السياسية، بنفس السرعة التي أنجزت بها من قبل توجيهات مختلفة.