لم يكن تأبين الشهيدة شيرين أبو عاقلة، الذي استضافته نقابة الصحفيين المصريين هذا الأسبوع. مجرد حدث بروتوكولي للتضامن مع صحفية سقطت برصاص الاحتلال وهي تؤدي عملها. بل كان الأمر أعمق من ذلك بكثير، فقد كان حفل التأبين الذي سبقته وقفة بالشموع أمام صورة الشهيدة الراحلة، أول حدث تجتمع عليه الجماعة الصحفية المصرية، وتصدر فيه موقفًا موحدًا ربما مما يزيد عن ستة أعوام. وتحديدًا، منذ أحداث اقتحام النقابة على خلفية الاحتجاج على قضية تيران وصنافير.

رغم ما يضرب المهنة من متاعب جمة، وتحديات كثيرة. عبر عنها مشهد صحفي بمؤسسة الأهرام مشنوقًا على باب صحيفته. في تعبير جسدي ورمزي، عن مهنة تتداعى بفعل عوامل كثيرة. أبرزها، غلق المجال السياسي تمامًا، وتغيير ملكية الصحف، وتحولات أخرى تخص السوق الصحفي. وعلاقته بنظم الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي.

مهنة تتداعى وبطالة تضرب الوسط الصحفي

لقد تسبب انغلاق المجال العام السياسي في مصر في السنوات الخمسة الأخيرة، وتغيير ملكية الكثير من وسائل الإعلام، إلى التأثير على السياسات التحريرية ومن ثم غلق الباب أمام حرية الصحافة التي تتأثر بالمناخ السياسي وعلاقات المال والسلطة كعصب يعمل ويضبط العلاقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع بموجب عقد اجتماعي بين الصحفيين والجمهور إلا إن هذا العقد قد انهار في ظل عجز الصحفيين عن التعبير عن متطلبات الجماهير أو أصواتهم لظروف سياسية واقتصادية وهو ما تسبب في انهيار الثقة بين الجمهور ووسائل الإعلام التقليدية من ناحية وتردي مستوى الصحف من ناحية أخرى. كل تلك العوامل تسببت بكل تأكيد في إغلاق الكثير من الصحف لاسيما الحزبية وتشريد صحفييها بالإضافة إلى من أبعدتهم حسابات السياسة عن معترك المهنة فصارت بطالة الصحفيين واقعًا ملحًا.

في دعوات الحوار السياسي.. هل تغيب حرية الصحافة؟

في نهاية شهر رمضان الماضي، ظهر بعض من رموز القوى السياسية المصرية على مائدة إفطار رئيس الجمهورية تلا ذلك انفراجة سياسية طفيفة بدأت بالإفراج عن بعض المحكومين السياسيين مثل حسام مؤنس الصحفي الذي كان يعمل مديرًا لحملة حمدين صباحي إذ بادر صباحي وخالد داوود مرحبين بفتح أفق الحوار السياسي الذي دعا إليه رئيس الجمهورية وسط موجة من الانتقادات التي طالت المعارضة بينما ظهرت حرية الصحافة في تلك الجدالات وكأنها فريضة غائبة عن مائدة الجميع رغم إن غالبية الأطراف الذين تصدروا مشهد الحوار السياسي من الصحفيين.

الصحافة المصرية كعجوز بلا أسنان

لم يعد السقف التحريري الذي يمر من مقصات الرقابة في الصحف المصرية سواء الخاصة أو الحزبية يسمح بأي حال من الأحوال بممارسة الحوار ذاته أو حتى تغطية مجرياته فقد ظل هذا السقف ينخفض من شهر إلى أخر حتى اقتصرت صفحات بعض الصحف على البيانات الرسمية لمؤسسات الدولة دون أي جهد صحفي ملموس قد يعرض مسئولو الصحف للمسائلة أو يغضب السلطة وبينما تستعر السجالات تلك بين ما ينشر وما لا يمر فإن جماهير الصحف والمواقع تنصرف رويدًا في رحلة البحث عمن يروي عطش المعرفة فتأتي مواقع التواصل الاجتماعي لتحاول سد هذا الفراغ ولكنها لا تتمتع بالمصداقية التي تمتلكها مؤسسات مهنية فيطير سرب أخر من الجماهير نحو إعلام معادي مغرض وتقف الصحافة المصرية في المنتصف كعجوز تتساقط أسنانها فلا تستطيع الأكل ولا حتى صحيح الكلام.
إذا كانت الدولة عازمة حقًا على المضي قدمًا في ملف الحوار السياسي، فإن تغيير أوضاع الصحافة ورفع السقف التحريري يصبح أولوية تحقق استقرار هذا الحوار وتضمن جديته دون أن تتحول الصحف والمواقع إلى مؤسسات دعائية بلا أي منجز يدفع الرأي العام المتعطش لأفق للحل السياسي وفي المقابل فإن غياب الصحافة من أجندة الحوار يجعل الحوار وكأنه مبادرة فردية وليس حوارًا له مخرجات وآليات وتوصيات للتنفيذ.

“الجمهور عايز كده”.. كيف انزلقت الصحافة أسفل رغبات الجمهور؟

في المقابل فإن الصحافة نفسها قد تأثرت بانسداد الرئة الذي تسبب في هروب كبير للكفاءات الصحفية بينما تحاول قلة قليلة المقاومة وسط ضرب مقصود لأساسيات المهنة تحت شعار “الجمهور عايز كده” وهو واقع فرضته الظروف السياسية من ناحية والمصاعب الاقتصادية من ناحية أخرى.
فقد أصبح شره البحث عن “التريند” لدى المؤسسات الصحفية محركًا أساسيًا لأولويات صالة التحرير وهو ليس تريند يصنع بالكفاءة والمهارة كأن ينشر موضوعًا صحفيًا بأي وسيط يضيف كشفًا جديدًا أو يستحوذ على اهتمام الجمهور فيتصدر مواقع التواصل الاجتماعي بينما التريند صار صناعة سطحية مجرد فيديوهات بتقنية اللايف تروج لبضائع مغشوشة وشخصيات غرائبية وأحيانًا تكسر الكود الأخلاقي فتستضيف مرضى ومعاقين لتصير صفحات الصحف فقرات كوميدية لا تسلط الضوء على واقع مأزوم وتحاول لفت نظر التنفيذيين لإصلاحه بل تسهم في عبثية المشهد الإعلامي وتنتقل لخانة تسلية الجمهور بشكل غير متعمد، تسلية عنوانها “صحفيون بلا صحافة”.
أما ما تسبب في تفشي تلك الأزمة فهو تلك العلاقة بين الصحف والمواقع وشركات مواقع التواصل الاجتماعي التي حولت صفحات الصحف لمؤسسات ربحية تجارية تعمل ب”التارجت” فيتحول الصحفي إلى موظف في سوق البيزنس الواسع كلما حقق مشاهدات أكثر زاد مرتبه وراجت بضاعته بل إن بعض الصحف وضعت “تارجت” يومي على الصحفي أن يكتبه كأن يقدم المحرر عشرة قطع خبرية وتقريرية لصحيفته يوميًا وهو رقم يتنافى مع الحد الأدنى للجودة ولكنه يرتبط بعداد المشاهدات والصفحات الإعلانية التي تشكل مصدرًا أساسيًا للربح في الصحف المصرية اليوم وكأن الجميع يدور في حلقة مفرغة ما بين بيزنس مهيمن وسياسة غائبة ومهنة تتفتت تحت أقدام تلك الصراعات.

هل تفهم الأجيال الجديدة طبيعة دور الصحافة؟

ولأن الظروف السياسية والاقتصادية قد اجتمعت وتسببت في تردي عام لوضع الصحافة المصرية فإن سؤالًا يبدو بديهيًا ولكنه يظل مؤثرًا في هذه المعادلات: هل تفهم الأجيال الجديدة طبيعة دور الصحافة؟
في السنوات الأخيرة تغيرت معادلة الصحافة والسياسة والسلطة بالشكل الذي أثر على وعي الممارسين الجدد للمهنة فلم يعد الصحفي يفهم إن دوره يستدعي الرقابة على المؤسسات التي كلفته صحيفته بتغطيتها بل صار أكثر حرصًا على الانحناء والتخلي عن دوره من أجل الفوز بعلاقة أقرب مع المصدر وهي شعرة معاوية التي لا يقطعها الصحفيون الأكفاء كذلك فإن تغطيات المواقع للمؤتمرات الصحفية وللايفات المسجلة من الشارع تعكس خللا واضحًا فغالبية الصحفيين لا يستطيعون بناء سؤال صحفي محترف بل تتداخل الأسئلة مع الآراء أو وإنها أسئلة تدل على غياب معلومات أولية متاحة لا يصح أن يسألها الصحفيون في المؤتمرات أما اللايفات فيترك فيها العنان للمصدر يعرض بضاعته فلا يوقفه أحد ولا يواجهه أحد وكأنه قد امتلك ميكروفونًا وقاعة خالية للصياح والتصفيق بينما يقف الصحفي كظل في هذا المشهد.
كل تلك التحديات تجعل لحظة تأبين شيرين أبو عاقلة التي جمعت الصحفيين المصريين في نقابتهم وكأنها رمزًا لجرح مفتوح تعيشه مهنة كان المصريون من أهم حرفييها وروادها.