لم يكن أمرًا مفاجئًا، للأسف، أن نقرأ خبر التصالح بين فرد الأمن الذي تعرض للصفع بشكل متتال أثناء تأدية عمله على بوابة أحد الكومباوندات السكنية، وبين المتهم بصفعه بهذه القسوة وعلى رؤوس الأشهاد ومن ثم على شبكة الإنترنت بعد التداول الواسع لمقطع الفيديو الذي صوّر الواقعة، لم يكن التصالح مفاجئا حتى أنه يمكن القول بأنه كان منتظرا أو متوقعا، على النسق الذي تزايد مؤخرا في كل الحالات التي تكون فيها الواقعة بين طرف قوي وآخر ضعيف، أو فرد غني وآخر فقير، وقد تواكب التصالح نفسه مع تصالح أسر الشبان الأربعة الذين قتلوا في حادث سيارة كان يقودها ابن رجل أعمال كبير، وتقاضى الأهل ديّة أبنائهم، ربما تأثرا بحادثة أخرى شبيهة، اتهم فيها ابن رجل أعمال آخر بدهس مهندسة شابة  ثم حصل على مزيح من البراءة والحكم المخفف فيما أسند إليه. ويكفي أن تكتب على خانة البحث على الانترنت كلمة “تصالح” لتلاحظ مدى تواترها المتزايد في أحداث شغلت الرأي العام كتلك المذكورة بالأعلى ومثلها على غرار”العريس” الذي أوسع عروسه ضربا في الشارع يوم الزفاف، والأختين اللتين صالحتا عمها بعد اتهامه بالاعتداء عليهما طمعا في ميراثهما، ومن المعروف بداهة، أنه في مقابل كل قضية تصل إلى الرأي العام، ثمة العديد من مثيلاتها لم يعرف بها الجمهور الواسع، وأي خبرة بسيطة في علم الإحصاء، تخبرك أنه إذا كان التصالح هو ديدن تلك “التريندات” الأخيرة مما نعرفه، فإنه بلا شك سيكون كذلك سبيل مالم نعرفه.

يعتبر القانون أن التصالح ناتج  في حصوله على (تلاقي إرادة المتهم وإرادة المجني عليه)، ولا ينبغي هنا يكون تلاقي الإرادات بالمعنى الشعري الذي وصفه أمل دنقل “معاهدة بين ندين (في شرف القلب) لا تنتقص”. لكن ينبغي أن يكون تلاقي الإرادات ذلك حرًا، منزوعا من الضغوط والترهيب، والأهم من ذلك منزوعا من اليأس، من فقدان الأمل في أن يجلب القانون حق المجني عليه، الذي يقبل التعويض – إن وجد- بمنطق القول الشعبي “أحسن من عينيهم” أو “اللي ييجي منهم أحسن منهم”. ويتم الاستعانة أحيانا برجال الدين، لإقناع أهل الضحايا بقبول الدية، ولخلق إحساس بأنه تصالحك ليس مقبولا فحسب، بل شرعيّ وديني كذلك.

إن المرارة التي يشعر بيها قاريء خبر التصالح، مرارة لها أسبابها الشعورية الفطرية، رغما عن من ينحازون – في كل مناسبة – إلى الطرف الأقوى، فما يبدو تصالحا هو في يكثير من الأحيان محض إفلات من العقاب، وما يبدو “دية شرعية” يكون في كثير من الأحيان بعض فتات يرميه الجاني ليواصل سيره في شوارعنا بسياراته القاتلة مطمئنا لعدم خضوعه للقانون.

يفقد القانون معناه وقيمته إذا استخدمت أبواب التصالح في غير محلها، ليس فقط لأن المجتمع يتحول إلى غابة تجبر أسودها غزلانها على الصلح، ولكن لأن بعض الجرائم لا يسمح فيها القانون الجنائي بالتصالح، فلا يمكن تحقيق التنازل إلا بتغيير الأقوال، وهي طعنة أخرى للقانون وللعدالة.

وليس بإمكان فرد الأمن البسيط أو أهالي الشبان الأربعة أن يتصدوا لذلك الواقع، لكن بيد من يهمه مستقبل المجتمع ومعناه  وطبيعته، أن يدرس بعناية كيف يمكن للتوسع في التصالح أن يأكل المجتمع من داخله، كما يأكل النمل بيوت الخشب.