كان الدخول المفاجئ لفتحي باشاغا رئيس “حكومة الاستقرار” المكلفة من جانب مجلس النواب برفقة أعضاء حكومته ،إلى العاصمة الليبية طرابلس في جنح الظلام، في حماية كتيبة القوة الثامنة المعروفة بـ”النواصي”،والمتمركزة في العاصمة الليبية،بمثابة مغامرة غير مدروسة .

ورغم أنها لم تستمر سوى سويعات قليلة إلا إنها خلفت أثارا من شأنها إحداث تغييرات كبيرة في موازين الصراع ،لتجعل ليبيا المضطربة منذ 2012 أمام واقع سياسي وميداني جديد.

فور وصول باشاغا ،هز قتال عنيف طرابلس الثلاثاء الماضي ، وشهدت شوارعها اشتباكات وتبادلاً لإطلاق النار، بين القوة الداعمة له، والكتائب الموالية لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، ليضطر باشاغا إلى مغادرة العاصمة سريعا وبشكل مفاجئ كما دخلها فجأة.

سوء تقدير

جاءت خطوة باشاغا بعد سلسلة من الاجتماعات التي عقدها في تونس وتركيا مؤخرا ، مع قادة عدد من المجموعات المسلحة، في طرابلس ومصراتة ،وكان من ضمن القادة الذين التقى بهم باشاغا نهاية إبريل/نيسان الماضي ، محمد الحصان، آمر كتيبة 166، وعبدالسلام عليلش، من كتيبة حطين، ومختار الجحاوي، آمر شعبة الاحتياط بقوة مكافحة الإرهاب، وقائد كتيبة “ثوار صبراته”، عبد الله الخطابي، وقائد “المجلس العسكري لثوار الزنتان”، فتحي الغزيل، بجانب بعض المجموعات المسلحة الأخرى مثل “النواصي”و”مجلس مصراته العسكري”.

ربما فشل باشاغا في تقدير قوة داعميه مقارنة بقوة المجموعات الموالية لخصمه ، وهو مابدا واضحا منذ اللحظة الأولى لوصوله العاصمة ، فخلال أقل من ساعتين ، استطاعت القوات الداعمة للدبيبة، ممثلة في قوة “دعم الدستور” وقوة “دعم الاستقرار” التي كانت تسمى سابقًا باسم “شهداء بو سليم” و”فرقة الإسناد الأولى”، وكتيبة “فرسان جنزور”، المرتبطة بالجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة في محاصرة مقر كتيبة النواصي حيث يتواجد رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب .

وكادت مغامرة باشاغا وفقا لأحد المسئولين العسكريين بالعاصمة طرابلس ، الذي تحدث لـ”مصر 360 ” أن تنتهي بإلقاء القبض عليه ، وليس خروجه من العاصمة فقط ، بعدما أصبحت الكلمة العليا ليلة الثلاثاء الماضي على المستوى الميداني للقوات الداعمة للدبيبة ،التي اشتبكت مع ميليشيا النواصي في منطقتي “سوق الجمعة” و”طريق الشط” ، قبل أن يتدخل مصطفى حمزة قائد اللواء 444، التابع لمنطقة طرابلس العسكرية، بالوساطة ،وفتح الطريق أمام خروج باشاغا ووزراء حكومته المرافقين له ، بعد أن هددت ميليشيا “المجلس العسكري” في مصراته بالتدخل ميدانيًا في العاصمة إذا لم تقم الميليشيات الموالية للدبيبة بإيقاف القتال والانسحاب من الشوارع وتأمين خروج باشاغا .

محاولة باشاغا يراها رئيس مجموعة العمل الوطني الليبية خالد الترجمان ،” ضعف قراءة من جانب رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب للمشهد الداخلي ” ، مؤكدا ان “دخول باشاغا إلى طرابلس وخروجه بهذا الشكل، لا ينبئ بأنه استطاع التحشيد الدولي حول موقفه كما أنه خلف انطباعا بأنه لا يستطيع قيادة البلاد، إلى انتخابات وتفكيك الميليشيات وجمع السلاح”.

 تأثيرات المغامرة على نفوذ الدبيبة وباشاغا ؟

المغادرة السريعة وبهذه الطريقة تعد بمثابة طعنة غائرة في جسد حكومة باشاغا ربما لا تستطيع التعافي من آثراها،وفقا لما يراه ويقدره مراقبون مطلعون على تفاصيل المشهد الليبي،حيث يرى أحد أعضاء مجلس أعيان وحكماء مصراتة وهي المدينة القوية التي ينتمي لها كلا الرجلين (باشاغا والدبيبة)، أن رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب تمكن بشكل أو بآخر، من إقناع أطراف دولية فاعلة في الأزمة الليبية ،بغض الطرف عن دخول خاطف إلى العاصمة يتمكن من خلاله فرض الأمر الواقع وإقصاء حكومة الوحدة الوطنية الرافضة لتسليم السلطة بعدما اطلع هؤلاء على خطة تبدو محكمة ومدعمة بقوة المجموعات المسلحة الموالية له، دون أن يدرك أن تلك المجموعات في النهاية ربما تغير دفة توجهاتها لمن يدفع أكثر في وقت يمتلك فيه الدبيبة السيطرة على المصرف المركزي .

ووصف المحاولة الأخيرة أنها كانت نتاج حالة الإحباط التي يعانيها باشاغا بعدما فشلت خطوة إغلاقات النفط الأخيرة في دفع القوى الدولية للضغط على غريمه للتخلي عن السلطة وإفقاده عنصر مهم من عناصر قوته.

وأوضح أن الخطوة كشفت بشكل واضح أن حجم الدعم الميداني الذي يحظى به باشاغا على أرض الواقع أقل بكثير من الصورة التي سعى إلى تصديرها مؤخرا سواء أمام داعميه الداخليين أو في الخارج .

بدوره، رأى مدير مركز الدراسات حول ليبيا رشيد خشانة، أن “حكومة باشاغا انتهت بعد أن راهنت عليه قوى محلية وإقليمية لتكريس حكومته في طرابلس” ، لافتا إلى أنه “حتى الدعم الذي تلقاه من مصراتة مسقط رأس الدبيبة، لم يكن كافيا حيث إن موازين القوى على الأرض مختلة، فموقع الدبيبة اليوم أكثر أريحية، وبدا أن الدبيبة وكأنه صاحب المبادرة ويده هي الطولى في الصراع”.

ورغم أن كافة المؤشرات تقود إلى أن عبد الحميد الدبيبة خرج من أحداث الأسبوع الماضي أقوى وأكثر رسوخاً في وقت خسرت فيه الجماعات المسلحة المتحالفة مع باشاغا سيطرتها على بعض أجزاء العاصمة،إلا أن ما خلفته من تداعيات بين مكونات معسكرغرب ليبيا ، ستمثل تحدي صعب لرئيس حكومة الوحدة الوطنية ،على نطاق سيطرته داخل العاصمة خلال الفترة المقبلة ، في ظل اضطراره إلى إلقاء القبض على عدد من ضباط الأمن الداخلي في المنطقة الغربية، بتهمة تسهيل عملية دخول باشاغا للعاصمة وهؤلاء بالطبع تقف خلفهم مليشيات وقبائل كبرى، وكذا إقالة قائد ميليشيا النواصي، مصطفى قدور، من منصبه كنائب لرئيس جهاز المخابرات للشؤون الأمنية، وإعفاء مدير إدارة الاستخبارات العسكرية أسامة جويلي من مهام منصبه الذي تولاه في نوفمبر الماضي، وهو يعد من أبرز القيادات العسكرية في المنطقة الغربية، حيث ينحدر من مدينة الزنتان جنوبي العاصمة، في وقت تمثل فيه تلك المدينة رقمًا صعبًا في المعادلة الميدانية الليبية.

خطوة إقالة الجويلي حتما سيكون لها ما بعدها،في ظل احتمالات عدم قبوله للإقالة، وخشيته من احتمالات اعتقاله، بعد أن أمر الدبيبة المدعي العسكري العام بإطلاق تحقيقات موسعة بشأن مغامرة باشاغا .

تأثيرات محاولة باشاغا على الأزمة الليبية

تشير كافة الدلائل إلى أن ما حدث بين دخول باشاغا للعاصمة وخروجه سيفتح الباب واسعا أمام تداعيات لم يكن يتمناها الحالمين بالوصول سريعا إلى محطة الاستقرار في البلد المنهك جراء الصراعات منذ اندلاع ثورة فبراير 2012 .

فعلى صعيد المسار الانتخابي الذي تدفع نحوه الأمم المتحدة وتجمع عليه القوى الدولية الفاعلة في المشهد الليبي ، فإنه بات الأكثر تضررا من الخطوة التي أقدم عليها رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان ، حيث باتت إمكانية إجراء الانتخابات التي كانت مقررة نهاية ديسمبر الماضي ،هذا العام في هذه المرحلة هي أقل بكثير مما كانت عليه قبلها.

كما تبدو ليبيا على المدى الزمني القريب على موعد مع حالة من الجمود في ظل الوضع الراهن الذي لا يبدو فيه أيا من الطرفين قادراً على إرساء تفوق عسكري حاسم في عموم البلاد ، خاصة مع تخندق الدبيبة بحزم في العاصمة وعدم قدرة خصومه على زحزحته، في المقابل سيؤدي ذلك الوضع إلى إطالة أمد إغلاق المنشآت النفطية الرئيسية من قبل القوات في شرق  ليبيا والمرتبطة بالقائد العسكري خليفة حفتر، الذي يدعم باشاغا.

إضافة إلى ذلك ربما ينعكس ما حدث في طرابلس سلبًا على المحادثات الدستورية الجارية في القاهرة بين وفدي البرلمان ومجلس الدولة بحثا عن آلية للخروج من الانسداد السياسي الحالي، خاصة في ظل الأجواء الميدانية الحالية وتجميد أعمال اللجنة العسكرية المشتركة، ما يقود في النهاية إلى ترسيخ الانقسام الحكومي بين حكومتين إحداهما في طرابلس، والأخرى في سرت حيث بات باشاغا أكثر واقعية بعدما اقتنع بالاستقرار في المدينة كمقر لحكومته على أمل تصدع جبهة الدبيبة بشكل يسمح له بالدخول إلى العاصمة مجددا ولكن هذه المرة للاستقرار بها .

ختاما يمكن القول أن الملف الليبي إذا لم يحظ اولا بتوافق للرعاة الدوليين لأطراف الصراع الليبي الداخلي حول رؤية موحدة لإدارة الأزمة، ستكون ليبيا أمام معادلة صفرية ، قد تفتح الباب لصراعات مسلحة متقطعة في بعض المناطق خاصة مع حالة الاستقطاب بين المعسكرين للمليشيات .

كما يمكن الإشارة إلى أنه ربما تكون اجتماعات القاهرة بمثابة مخرج حقيقي من الأزمة الراهنة، عبر دفع مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة للتوافق على قاعدة دستورية يتم إلزام كلا الحكومتين بها، وهو أمر إن بدا صعبا إلا انه لن يكون مستحيل.