مرت البلاد بظروف استثنائية في العقد المنصرم، و تعالت صيحات تندد بالظلم و القهر و الاضطهاد. و كان من المنطقي ان يتمخض هذا الحراك علي مطالب محددة بعينها. منها انشاء هيئة او كيان، ينهي عذابات المصريين التي طال امدها من التفرقة علي اساس الهوية.

لعل اكثر الكيانات المدنية التي احدثت تغيرا في مصر هي لجنة الدستور او “لجنة الخمسين” كما اصطلح تسميتها اعلاميا. وقد قامت هذه اللجنة بإعداد دستور مصر في 2013 الذي دخل حيز النفاذ في 2014 بعد الاستفتاء عليه.

يتناول هذا المقال احد مواد هذا الدستور و هي المادة 53، وهي مادة مناهضة التمييز. و التي تنص علي ان “المواطنون لدي القانون سواء. و هم متساوون الحقوق و الحريات و الواجبات العامة لا تمييز بينهم بسبب الدين او العقيدة او الجنس او الاصل او العرق او اللغة او الاعاقة او المستوي الاجتماعي او الانتماء السياسي او الجغرافي او اي سبب اخر ” و نص الدستور علي ان التمييز و الحض علي الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون. يتناول المقال عرضا لأهمية انشاء المفوضية و يستعرض بعض محاولات انشائها و محاولة فهم اسباب عدم نشأتها.

إنشاء مفوضية لمناهضة التمييز

لم تكتفي اللجنة بإدانة التمييز علي خلفية الاسباب التي اوردتها المادة و لكنها شجعت علي انشاء مفوضية لمناهضة التمييز كأحد المواد الانتقالية في الدستور و بالفعل قدمت للبرلمان عدة مشروعات قوانين لإنشاء المفوضية و تحديد سلطاتها و تكوينها منهم علي سبيل المثال لا الحصر مشروع النائبة آنذاك انيسة حسونة رحمها الله و مشروع القانونية مني ذو الفقار و مشروعات من المجتمع المدني مثل مشروع مؤسسة شراع و مصريون في وطن واحد (مصريون ضد التمييز الديني) والاتحاد النوعي لنساء مصر.

و علي الرغم من ذلك لم تنشأ المفوضية، و لم تقوم اي من السلطات التنفيذية او التشريعية بإقرار  نص الدستور. و تدشين المفوضية لتضطلع بمهامها التي لا تقوم بها اي من الاجهزة او السلطات.

من الضروري ذكر ان المجتمع المصري يعاني من التمييز و العنصرية و الطبقية علي اوجه عديدة. منها المعتقد و العرق و الجنس علي سبيل المثال و يعاني المجتمع من الاستقطاب و يتبني مجموعة قيم تحقر من بعض الفئات مثل النساء و النوبيين و الاقباط و يمارس ضد هذه الفئات و غيرها التمييز و الاضطهاد.

لماذا تعتبر مفوضية التمييز ضرورة؟

علينا ان نجيب سؤالا مبدئيا و هو لماذا تعتبر مفوضية التمييز ضرورة؟ كما اوضحت سلفا فانه لا توجد اي من الجهات التي تمارس دور مفوضية التمييز و لا حتي القضاء علي الرغم من اضطلاعه بالبت في بعض حالات التمييز و التفرقة في الحقوق و الواجبات. الا ان دور المفوضية من المفترض ان يشبه دور ال ombudsman  الذي تقدم اليه شكاوي التمييز و ان يقوم بالفصل فيها و يشتمل دوره علي دور المبلغ في حالة حدوث اي خروقات او انتهاكات في المجتمع.

تعد مفوضية التمييز مهمة لانها تحقق في دعاوي التمييز في قضايا تستند الي معايير اقرها الدستور كما انها تحدد بعض الإجراءات الاستثنائية للتمييز الايجابي لبعض الاشخاص الذي يواجهوا مشاكل تحيل تمتعهم الطبيعي بحقوقهم ،كما يمكن للمفوضية شكوي اي فرد او جهة في حال خرقهم للقانون. ستقوم المفوضية بدور حاسم في حماية حقوق و حريات المصريين و ستنهي عقود من تجاهل معاناة المصريين و المصريات من التمييز و العنصرية. لقد اقترحت مشاريع القوانين شكلا و هيكلا للمفوضية منها علي سبيل المثال تعيين المفوض العام او رئيس المفوضية و نائبين له و هيكل المفوضية مكون من 9 اعضاء.

تعد مفوضية التمييز خطوة في الطريق الصحيح لأنها تنهي عقود من الجلسات العرفية التي يلجأ اليها النظام لحل المشكلات الطائفية بين المسلمين و للمسيحيين علي سبيل المثال. لو انشأت مفوضية التمييز سيكون هناك اطار مؤسسي وقواعد و معايير واضحة تستند اليها المفوضية تؤكد بها علي فكرة المواطنة التي رسخها القانون و الدستور. ان المفوضية هدفها الاساسي ارساء فكرة المواطنة و تمتع كل مواطن او مواطنة من ممارسة حقوقهم و اداء واجباتهم علي النحو الامثل الذي يؤكد انهم امام القانون سواء.

ليست تكرارا للمجالس المتخصصة

اذا كانت المفوضية كفكرة و كمؤسسة لم تشيد بعد علي الرغم من مشاريع القوانين التي قدمت الي البرلمان الا ان الارادة السياسية يبدو انها غير مشجعة للمفوضية. فقد ادلت انيسة حسونة بتصريح مؤداه ان الحكومة تقاعست عن انشاء المفوضية. يوما بعد يوما ندرك اننا في حاجة الي جهة تنهي ويلات التمييز التي عانى منها الاف المصريين بسبب احد عناصر هويتهم.

ان مفوضية التمييز لن تكون تكرار للمجالس القومية للمرأة و حقوق الانسان بل ستكون هيئة مستقلة ترفع تقاريرها للبرلمان، لها شخصية مستقلة و تؤكد علي مأسسة العمل ضد التمييز و الا تعامل كل حادثة علي حدة و لان هذا هو ما يحول دون تراكم المعارف و الخبرات في مجال مناهضة التمييز . علي الحكومة ان تعمل جاهدة علي انشاء المفوضية لتقوم بدورها في حفظ و صيانة حقوق و حريات المصريين .لقد اوضحت مشاريع القوانين ان المفوضية سيكون لها القول الفصل في حال انتهاك الحكومة او القطاع الخاص و المجتمع المدني لحقوق او حريات احد المواطنين.

من الضروري ان نتمسك بمكتسبات المصريين التي وصلوا اليها بالعرق و الدم. كما حدد الدستور معايير يجب ان تحترم و تصان. يجب ان تنشأ مفوضية التمييز لتمارس دورها في احترام مواطنة المصريين و صون الأمن والسلم في المجتمع من خلال حماية افراد المجتمع و منع حدوث اي جور او ظلم لأي مواطن. ان المصريين علي تنوعهم ينظروا الي الدستور علي انه الوثيقة الحاكمة التي ارتضوها لكي ترسم حدود و شكل العلاقة بين السلطات، لذا وجب علي الحكومة الاسراع في تنفيذ المواد الانتقالية في الدستور و منها انشاء مفوضية التمييز.