تعالت أصوات المحللين والخبراء، وكذلك القنوات والمحطات الإعلامية في الفترة الحالية حول دعوة رئاسة الجمهورية للحوار الوطني، بما يعني أن يشملها كافة الطوائف والفئات الشعبية، فيجب في البدء أن تكون السلطة التنفيذية جادة في اتخاذ كافة السبل لإنجاح هذا المشروع الوطني على نحو متكامل، كما يجب ألا تقف حدوده عند مشاركات مختارة لفئات بعينها، أو لأشخاص بذواتهم، وهو الأمر الذي يعني وجود إملاءات محددة وراء تلك الاختيارات، وبالتالي تصبح الدعوة لهذا الحوار قد حادت عن الهدف المثالي الذي يجب أن تكون الدعوة لذلك الحوار قد تبنته، كما ينبغي أن تشمل تلك الدعوة كافة القضايا الوطنية التي تهم جموع الشعب بكافة طوائفه، بغض الطرف عن الميول السياسية، وهو الأمر الذي يضمن وجود أصوات معارضة حقيقية بداخل من تشملهم تلك الدعوة، كما يجب ألا يقف الأمر عند حد فتح باب الاشتراك لمن يرغب في المشاركة، بل الأوجب أن تكون هناك دعوات لأصوات وخبرات يُرى فيها الأمل في المساهمة الفكرية في وضع سياسات ورؤى لحل القضايا الوطنية العالقة، وهناك الكثير من الخبرات الوطنية في كافة المجالات التي يجب أن يكون لها دوراً في القضايا الإصلاحية، والمساهمة في وضع خطوات تضمن تلك الحلول، كما يجب أن يكون هناك ضمانات من السلطة لإنفاذ مستخرجات الحوار الوطني ووضعها في خطوات تنفيذية واضحة.

وأرى أن من أهم القضايا التي يجب أن تكون موضع اهتمام القائمين على إنجاح الحوار الوطني، قضية الإصلاح التشريعي، والمقصود بالإصلاح التشريعي ليس مجرد إجراء تعديل تشريعي هنا أو هناك مهما يكن قدر هذا التعديل «وبالتأكيد هناك تعديلات تشريعية مطلوبة» لكن الإصلاح التشريعي أبعد وأعمق من التعديل التشريعي، لأنه يعنى حركة إصلاح وتحديث جذري ترتبط بالسياسات التشريعية بشكل شامل. فالتعديلات التشريعية تنصب على قانون محدد أو على نصوص بعينها من قانون هنا أو هناك، أما الإصلاح التشريعي فيرتبط بكل ما تعنيه كلمة إصلاح من معاني، وذلك من بداية مراجعة التشريعات القائمة حالياً بشكل كلي، أو طريقة صناعة التشريعات، ومدى تداخل السلطات في أمر البناء التشريعي المصري، الفارق كبير إذن بين المفهومين. وإذا كان من الملاحظ أن حركة التشريع المصري تميل منذ سنوات ليست بالقليلة إلى اتخاذ طريق التعديلات الجزئية والطارئة التي كانت تتم في الغالب كرد فعل سريع على متغير أو توجه ما، وهذا أمر طبيعي ومطلوب، لكنه لا يُغنى عن الإصلاح التشريعي الشامل والعميق، والذي يجب أن تكون انطلاقته من مراجعة التشريعات القائمة بزخمها وتضخمها والتي أنتجت صعوبة بالغة في كيفية ملاحقتها، ناهيك عن كيفية التعامل معها، وإن كنت أرى أن ذلك العنت أيضا يشمل حتى المتخصصين في العمل بالقانون.

وحيث أنه من غير المتصور أن تكون هنالك أي حياة اجتماعية في العصر الحالي، دونما وجود لقواعد قانونية منظمة، وذلك بعد أن يتم هيكلة التشريعات القائمة، ولأن وضع التشريعات التي تحكم مجلات مختلفة في الحياة الاجتماعية على تشعبها يحتاج إلى وضع أطار عام يكون ناظما لها، و يضمن الاتساق فيما بينها، ويحدد سمات الإصلاح المستهدفة، فإنه يجب إن يسبق إعادة قراءة القوانين إيجاد وثيقة تحدد بشكل واضح الكليات التي يقوم عليها المنهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي محل التنظيم و الحماية القانونية، فوضع التشريع يستلزم بشكل مسبق تحديد فلسفته، وافتراض فاعليته توجب ضبط المصلحة محل التنظيم و الحماية.

وبشكل عام لا يمكن -بشكل مُسبق- وضع إطار زمني مُحدد لإنجاز مشروع إصلاح تشريعي مُعين، فذلك يرتبط بتوافر الموارد، ودرجة تعقيد المشروع من الناحية الفنية، ومدى حاجة الحكومة لإنجاز هذا المشروع في ظرف زمني ضيق. وعلى أية حال فالجهات القائمة على الإصلاح التشريعي التي تعمل بنظام برامج العمل تحتاج لدورات زمنية تختلف طولاً مع المطلوب منه تحقيقه، وأحياناً يتم ربط إنجاز برنامج العمل بمدة بقاء أغلبية أعضاء هذه الجهة في مواقعهم، وعلاوة على ذلك، قد يعهد القانون بعملية الإصلاح التشريعي في مجالات بعينها لجهات مُعينة كالوزارات أو المؤسسات المسئولة عن حماية البيئة أو الصحة، هنا قد تتراجع الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي خطوة أو خطوتين للوراء، تقديراً منها أفضلية ترك المجال لهذه الجهات امتثالاً لأمر القانون، رغم أن لها اختصاص عام بعملية الإصلاح التشريعي. وفي المُقابل قد ترى هذه الجهات التعاون مع الجهة ذات الاختصاص الأصيل بعملية الإصلاح التشريعي. وبشكل عام طالما أن الهدف المُشترك هو الارتقاء بجودة التشريع، فكل تعاون مُخلص يُحقق هذا الغرض يجب أن يكون محل تقدير واعتبار من كل الأطراف المعنية بالعمل التشريعي.

ربما يكون ذلك مجرد مدخل فقط أو رؤى مبدئية لكيفية هيكلة الإصلاح التشريعي كأحد مهام الحوار الوطني الثقيلة والتي بشكل أو بآخر لابد وأن تكون أبرز مهام ذلك الحوار حتى نتجنب ولو على المدى الطويل ما عليه الحال التشريعي المصري من الوضع الذي هو عليه الآن والذي لا يمكن أن يقل جسامة عن وضع الغابة في تشابكها وانعدام تناسقها.