خلال الأعوام القليلة الماضية. شهد الشرق الأوسط عدة أزمات صغيرة متواصلة. بسبب التنافس على استكشاف الغاز، واتفاقيات ترسيم الحدود البحرية، والعمليات العسكرية في جميع أنحاء شرق البحر الأبيض المتوسط، من الساحل الليبي إلى الساحل اللبناني. لكن في تناقض حاد، شهد العام ونصف الماضيين قدرًا أقل بكثير من هذه الأزمات. يشير المراقبون إلى أن تركيا كانت عاملًا مؤثرا في كلتا الحالتين.

أيضًا، تلعب تحولات مسار الطاقة العالمية، وتغيرات المناخ، والعوامل الاقتصادية، دورها أيضًا. فقد تغيرت القيمة النسبية المتصورة قصيرة الأجل، والوجهات المفضلة لموارد الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط. ما جعل المواجهات حولها أقل احتمالًا على المدى القريب.

الآن، هناك تحول في الجغرافيا السياسية لشرق البحر الأبيض المتوسط. الجميع يعمل بعيدًا عن الصراع ويتجه إلى التعايش، إن لم يكن التعاون. لتقدير مدى الاختلاف الذي يبدو عليه المشهد البحري في المنطقة اليوم، يجب النظر إلى الوراء قليلاً. إلى عامين مضيا. حيث بدأت تركيا في تغيير سياستها تجاه أزمات المنطقة.

جاء تغيير سياسة تركيا تجاه جيرانها من الداخل. حيث يستعد الرئيس رجب طيب أردوغان لإعادة انتخابه في غضون عام تقريبًا، بينما الاقتصاد التركي يغرق من حوله. حيث تنخفض قيمة الليرة، وبلغ معدل التضخم حوالي 40%. وقد تدهور التصنيف الائتماني لتركيا إلى “غير مرغوب فيه”. والآن، بعد أن خسرت الانتخابات في المدن الكبرى، تعرضت قاعدة الطبقة الوسطى الإقليمية لحزب العدالة والتنمية الحاكم لضربة قوية أيضًا.

اقرأ أيضا: الإمارات-تركيا.. المصلحة الاقتصادية VS الصراعات الجيوسياسية

نحو درء الأزمات في شرق المتوسط

حتى الآن، تظل الصورة الكبيرة المؤثرة للجغرافيا السياسية لشرق المتوسط ​​على المسار الذي يراه الغرب “أكثر استقرارًا”، والذي تم رسمه لأول مرة منذ أكثر من عام. مع ذلك، فإن ما تسعى إليه واشنطن -باعتبارها راعي الصفقات في المنطقة- ليس تحولًا جذريًا نحو تعاون عملي دائم أو شامل. فإلى حد ما، أصبحت المدخلات الاقتصادية والتقنية والبيئية ذات الصلة للتعاون أكثر تقييدًا، فقط عندما انفتحت المدخلات السياسية.

المفارقة الأخيرة هي أن عدم اليقين الاقتصادي والحذر البيئي -إلى جانب الاضطرابات السياسية في قارات أخرى- قد أدى في الواقع إلى إضعاف الاستثمار. ودفع أسعار الطاقة إلى الارتفاع مرة أخرى في الأشهر الأخيرة. في الجزء الآخر من العالم، قد تكون العوامل نفسها -عدم اليقين الاقتصادي والحذر البيئي- جعلت مشاريع النفط والغاز الرئيسية الجديدة في شرق البحر المتوسط. بما في ذلك المشاريع المشتركة الإبداعية بين المنافسين الإقليميين السابقين أو الشركات المنافسة. تبدو أكثر جدوى وربحية.

لكن، قلة هم الذين توقعوا الهدوء الحالي في المنطقة، والذي ولا يمكن لأحد أن يعتمد بثقة على استمراره. نتيجة لذلك، في حين أن سيناريوهات الصراع الكبرى الأسوأ التي حدثت قبل سنوات قليلة ما زالت معلقة، فإن أفضل حالات التعاون بين اللاعبين الكبار في المنطقة لا تزال بعيدة المنال.

تحولات السياسة التركية في شرق المتوسط

في تحليل نشرته The Jerusalem Strategic Tribune. يلفت الدكتور ديفيد بولوك، زميل برنشتاين في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى. إلى أن الرئيس التركي “بحاجة ماسة إلى شريان حياة اقتصادي في وقت أقرب مما يمكن أن تتاح فيه ثروات الطاقة البحرية”. هنا، تبرز المملكة العربية السعودية والإمارات كمرشحين واضحين كمساهمين، ولكن مقابل ثمن. أمّا مصر، وإسرائيل، فقد يشهدا أياما قادمة من التعاون مع أصدقائهم المتوسطيين الجدد.

يقول بولوك: يزور مسؤولون خليجيون ومصريون ويونانيون وإسرائيليون تركيا للمرة الأولى منذ سنوات. حيث وعدوا سابقًا بعشرات المليارات من الدولارات، من المساعدات، والتجارة، والودائع المصرفية، والاستثمارات. بهدف عزل إيران والتهديدات الأخرى. في المقابل، بدأت تركيا في خفض دعمها لجماعة الإخوان المسلمين. وكذلك “تتعاون إلى حد كبير مع جهود صنع السلام في ليبيا”، وفق بولوك.

يُضيف: أرسلت تركيا مؤخرًا حملة عسكرية جريئة لدعم جانب واحد من الحرب الأهلية -يقصد ليبيا- وزعمت أن مساحات شاسعة من البحر الأبيض المتوسط ​​هي ثمنها. وهناك استعداد تركي جديد للتفاوض مع جميع الجيران المتوسطيين. بدلاً من التنمر عليهم بشأن ترسيم الحدود البحرية.

يشير بولوك. الذي عمل سابقًا كمسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية، ويركز على الديناميكيات السياسية لدول الشرق الأوسط. إلى أن إسرائيل حالة خاصة في المعاملات التركية. يقول: “على الرغم من كل العداء بين أردوغان وإسرائيل. فقد مر أكثر من عقد على أي مواجهات علنية عنيفة. مثلما حدث لسفينة مرمرة قبالة سواحل غزة. على النقيض من ذلك، في 4 فبراير/شباط 2022، كسر أردوغان علانية أرضية رسمية جديدة. وقال للصحفيين الأتراك “يمكننا استخدام الغاز الطبيعي الإسرائيلي في بلدنا، ويمكننا أيضًا الانخراط في جهد مشترك عند مرورها إلى أوروبا”.

يضيف المحلل الأمريكي: هذا في الواقع مجرد حلم بعيد المنال أكثر من كونه احتمالًا جادًا. ولكن هذا لأسباب اقتصادية ولوجستية، وليست سياسية. النقطة الأساسية هنا هي أن الإرادة السياسية موجودة الآن في أنقرة لتقارب متوسطي. من أجل الدوافع السياسية والاقتصادية المحلية، التي من المحتمل أن تستمر على مدى السنوات القليلة المقبلة.

اقرأ أيضا: العلاقات “المصرية- التركية”.. إجراءات جديدة من جانب أنقرة بشأن ملف الإخوان

لبنان.. الشراكة مقابل الاقتصاد

شهد العام الماضي الكثير من النقاش حول إشراك لبنان في التحالف المتوسطي المحتمل. ليتم إحضار الغاز الطبيعي من شرق المتوسط ​​إلى لبنان، عن طريق خط أنابيب بري شديد الالتفاف عبر الأردن وسوريا، مع مصدر الغاز في المياه المصرية والإسرائيلية. هذا المشروع المعقد تتوسط فيه واشنطن، بهدف معلن هو تخفيف الضائقة الاقتصادية الأليمة للبنان.

هناك هدف آخر غير معلن هو تشجيع التقدم -أو على الأقل استئناف المفاوضات- حول الحدود البحرية الإسرائيلية- اللبنانية المتنازع عليها. في أوائل عام 2022، وافقت الحكومة اللبنانية -التي كان يهيمن عليها حزب الله- على العودة إلى تلك المحادثات بوساطة أمريكية. يلفت بولوك إلى انه “على الرغم من أن اتفاقًا لا يظهر في الأفق، إلا أن مجرد احتمال واحد من شأنه أن يمنع التوترات من التصعيد”.

وعلى الرغم من أن تطوير إمكانات الغاز البحري في لبنان -بعد ترسيم الحدود مع إسرائيل- سيستغرق سنوات. إلا أنه في النهاية” سيُعد بمكاسب كبيرة لاقتصاد وطني يعاني من ضغوط شديدة. علاوة على ذلك، قد يوفر أيضًا عاملًا مثبطًا للإجراءات ضد الأصول الإسرائيلية في البحر”، وفق المحلل الأمريكي، الذي أضاف: “يفهم اللبنانيون -وحتى حزب الله- تمامًا، أنه لن تستثمر أي شركة في منطقة حرب”.

مع ذلك، يبدو أن حزب الله ليس في عجلة من أمره للتوصل إلى اللمسات الأخيرة على أي من الصفقتين. تمثل هذه العرقلة انتصار السياسة على الاقتصاد، في تناقض حاد مع الحالة التركية. “لأسباب أيديولوجية ومصالحه الخاصة، يفضل حزب الله أن يقود اقتصادًا مفككًا على إغضاب إيران أو الاعتراف بأي اتفاق مع إسرائيل. على الرغم من أن حزب الله في هذا الوضع يظل خارجًا عن التشكيلة الجديدة لشرق المتوسط. إلا أنه ممنوع أيضًا عن التحريض على صدام مباشر حاد مع جاره الجنوبي”.

إسرائيل.. حكومة شديدة الهشاشة

تكمن المفارقة في قلب سياسة إسرائيل المعاصرة تجاه البحر الأبيض المتوسط. هي كونها حريصة على حشد أكبر عدد ممكن من الشركاء الإقليميين، وترحب بعدم التضارب بين الادعاءات المتنافسة ذات الصلة. بالتالي، فإن إسرائيل تستجيب بحذر، ولكن بشكل إيجابي، للمبادرات الأخيرة من أنقرة للتنسيق البحري والطاقة. مع الحفاظ على اتصال وثيق مع اليونان وقبرص ومصر -وكذلك الإمارات التي تشارك في العديد من المشاريع المتوسطية- كما وافقت الحكومة الإسرائيلية بهدوء على نقل الغاز البحري، المصري والإسرائيلي، عبر الأردن إلى سوريا ولبنان.

مع ذلك، فإن الائتلاف الحاكم الإسرائيلي الجديد يخضع لضغوط متقاطعة خطيرة من قبل نشطاء البيئة. لا سيما وأن وزير البيئة الإسرائيلي ينحدر من اليسار. لهذا السبب، تم تعليق العديد من المشاريع الكبرى ذات الصلة. والتي شملت توسيعات مقترحة لخط أنابيب النفط والغاز الإماراتي. من إيلات على البحر الأحمر، إلى أشدود على البحر الأبيض المتوسط. بالإضافة إلى أي استكشاف وحفر نفط أو غاز بحري جديد على نطاق واسع. ما يزيد من عدم اليقين هذا، هو “هشاشة حكومة إسرائيل الحالية، التي تتدلى بخيط مقعد واحد في الكنيست”، وفق بولوك.

إلى جانب التردد الإسرائيلي، ظهرت عقبة جديدة في أوائل عام 2022. عندما أعلنت الولايات المتحدة أنها لن تدعم بعد الآن بناء خطوط أنابيب إسرائيلية، أو مصرية، للطاقة تحت البحر إلى أوروبا. مع ذلك، توصل الاتحاد الأوروبي إلى حل بديل جزئي -تدعمه الولايات المتحدة- يعد بأن يكون أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية والبيئية والفنية. وهو كابل كهرباء تحت سطح البحر إلى أوروبا من الإنتاج المصري والقبرصي والإسرائيلي. مع ما يقرب من 700 مليون دولار في الاستثمار الفعلي المقترح.