عرف العالم صراعات الهوية والعرق بوضوح في النصف الأول من القرن الماضي. ومن خلالها ظهر مصطلح الإبادة الجماعية، تلك الجريمة المروعة التي ارتكبت ـ ولازالت ـ بحق مجموعات من البشر بقصد تدمير وجودهم كلياً.

خلال الفترة ما بين 1944ـ 1948 اجتهد العالم في وضع ملامح تأسيسية وتفصيلية للمصطلح وقبلت بها الأمم المتحدة بالإجماع. كقانون دولي لازال معمولاً به حتى الآن، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة:

“هل التغيرات التي عرفها العالم في صناعة الاضطهاد خلال العقود الآخيرة، وظهور جرائم جديدة طويلة الأمد. تستهدف إحداث نفس تأثير الإبادة العرقية التقليدية يحتاج إلى صياغة وبروتكولات إضافية لتعريف الإبادة الجماعية. أم تفعيل القوانين الدولية التي تملك كل ما يمكنها من مواجهة هذه الجرائم هو الحل!

عن تاريخ الإبادة الجماعية

اندلعت العديد من الحروب والصراعات عبر تاريخ البشرية ونتج عن أغلبها أعمال عنف جماعية ضد مجموعات سكانية بأكملها. يمكن وصفها بحسب معطيات العالم الحديث وبشكل لا لبس فيه بالإبادة الجماعية.

لكن منذ بداية القرن الماضي ومع صعود الإيدلوجيات الشمولية، ترسخ في ذاكرة العالم حتى الآن تصور صريح للإبادة. يمكن استدعاءها من الوثائقيات التي تناولتها هذه الازمات الإنسانية بكل اللغات والثقافات لمعرفة كيف كان الحال في محارق الجثث. وجبال الجماجم، والمقابر الجماعية.

تكشف مواد فيلمية ما فعله النازيون باليهود، أو ما فعله حزب الخمير الحمر في كمبوديا، وقتلهم لأكثر من مليون شخص بشكل جماعي. وما فعله الهوتو القوميون في عرقية التوتسي خلال الحرب الأهلية الرواندية، والقتل الجماعي العثماني لأكثر من مليون أرمني. وممارسات الموت والدمار الاجتماعي التي جرت أنذاك، نهاية بالأشكال المتطرفة للصراعات التي عرفها العالم في التاريخ الحديث.

يوجد ما يكفي من القانوانين.. المهم التنفيذ

مارك ليفين أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنيا، يرى أن العالم يضم الكثير من القوانين التي تصلح لتوصيف كل شيء. ويعود بالذاكرة إلى حدود الحرب الباردة التي تسببت في تجميد تطور القانون الدولي. أو إضافة ملحقات إضافية لاتفاقية الإبادة الجماعية عام 1948 واتفاقيات جنيف الأربع في عام 1949. بما يمكن العالم من ملاحقة الأنماط الحديثة للتهديدات العرقية والانتهاكات التي تمارس بحق أطياف واسعة من المدنيين.

لكن أستاذ تاريخ الشرق الأوسط يكشف أن القانون الدولي أطلق سراحه من التجميد بعد زوال المستعمرات الأوروبية وصعود الدول المستقلة حديثًا. ومن وقتها بدأت حقبة جديدة من التطور المستمر للقانون الدولي لحقوق الإنسان.

ويضيف: “في عام 1960 ظهر الإعلان الخاص بمنح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة والذي يدين الاستعمار بجميع أشكاله ومظاهره. بما في ذلك المستوطنات غير القانونية التي أقامها المستعمرون، ويوضح أن الاتفاقية الدولية. تكشف عن كيفية القضاء على جميع أشكال التمييز والعنصرية الهيكلية المستمرة التي يخلقها الاستعمار”.

يستكمل مارك ليفين: “في عام 1973 وُقعت أيضا اتفاقية دولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها. واعتبرت الفصل العنصري جريمة دولية ضد الإنسانية ترتكب بغرض ترسيخ سيطرة مجموعة عرقية واحدة وقمع غيرها بشكل منهجي”.

صعوبة التحقيق والتقاضي

في عام 1998 أكد العالم مرة آخرى على الطبيعة الإجرامية لأي نظام فصل عنصري في قانون روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. يقول ليفين: “يعد القانون ملزما لكل دولة باحترامه، سواء كانت موقعة على الاتفاقيات أم لا وبغض النظر عن مصالحها الإستراتيجية”.

خاض العالم بحسب أستاذ تاريخ الشرق الأوسط تطبيقات جاده لقوانينه من خلال عمل محكمتين مخصصتين أنشأتهما الأمم المتحدة في التسعينيات. لمحاكمة مجرمي الحرب المشتبه بهم في يوغوسلافيا السابقة ورواندا. ويرجع أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الاتهامات بعدم جدية ونزاهة هذه المحاكم لصعوبة التحقيق والتقاضي، بجانب المعارضة القوية لها منذ البداية.

يضيف: “مثل هذه القوانين وتطبيقها تواجه معارضة شرسة من التكتكلات الدولية. فبعضهم شارك في أعمال عنف جماعية يمكن تعريفها على هذا النحو، والاعتراف بالجرائم والخضوع للتقاضي الدولي يلزمهم على الفور بالعمل من أجل وقفها. بغض النظر عن الآثار العسكرية أو الاستراتيجية أو الاقتصادية ومهما كان صعوبة القيام بذلك”.

يتابع أستاذ تاريخ الشرق الأوسط مؤكدا أن هذه الإشكاليات التي طرحها لا تعني أن هناك حاجة لزيادة الوعي. بل هناك أهمية لتوسيع الفهم الأكاديمي للإبادة الجماعية على وجه التحديد. لأن مثل هذه المناقشات يمكن  أن تؤدي في النهاية إلى مناقشات مماثلة في المحاكم الدولية ذات الصلة.

يختتم: يجب إنتاج أفكار تدور حول أهمية إنشاء مدونة سلوك توضح بمهنية الفرق بين التحريض والمؤامرة والنية لارتكاب الإبادة الجماعية.

إبادة العصر الحالي مختلفة جذريًا

في المقابل ترى لين زوفيجيان، الناشطة الحقوقية البارزة ومديرة أحد المشروعات المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأوسط. أن عالم اليوم يختلف تمامًا عن عالم منتصف الأربعينات الماضي. فالإبادة التي نعيشها في العصر الحالي لا تتم بمشاهد القتل الفوري والتشريد الجماعي والمعاناة المرئية تحت سمع وبصر عدسات الإعلام والمصوريين الصحفيين. إذ تطبق الإبادة بطريقة بطيئة وخانقة وطويلة الأمد في السياسة الاستراتيجية وتكاد تكون غير مرئية.

توضيح لين أن القانون الدولي بصيغته الحالية لم يعد يوفر سوى وسائل وابتكارات غير كافية لدعم الإنسانية والحفاظ عليها. إذ تضع المحاكم الناجين من الإبادة ـ كما يحدث في فلسطين ـ بموقف الدفاع لتقديم قضيتهم، هذا إذا تمكن الناجون أصلا من الوصول للمحاكم الدولية.

بحسب الناشطة الحقوقية، جرائم عالم اليوم لم تعد تقوم بها الدول والحكومات فقط. بل يمكن رؤيتها على أيدي الجماعات الدينية المسلحة غير الحكومية وشركات الأمن الخاصة العالمية. التي تنفذ مهام مؤلمة بحق المدنيين في العديد من البلدان.

ترى زوفيجان أن هناك ضرورة لوضع نظامًا عالميًا يحمي العديد من البلدان التي تعيش في ظل واقع مؤلم من الاستهداف العرقي. مثل الفلسطينين والروهينجا في ميانمار، والأويجور في الصين، وأبناء إقليم تيجراي بإثيوبيا ومؤخرًا الأوكرانيين. وتختتم: “جميع هؤلاء يواجهون أعمال إبادة جماعية جزئية أو كلية لكنها غير مرئية على نحو واضح”.

التحليلات القانونية الحديثة ضد إسرائيل

ما تقوله الناشطة الحقوقية يتوافق مع دراسة للمركز الاوروبي للحقوق الدستورية، حيث وصفت بعناية ما يحدث في فلسطين بالإبادة الجماعية. واستندت على عدد كبير من دراسات حقوق الإنسان التي أشارت تحليلاتها القانونية إلى ما يدعم هذا التأكيد.

ترى الدراسة أن إسرائيل ارتكبت طوال نصف قرن ما يمكن اعتباره شكلا من أشكال الإبادة الجماعية تجاه الشعب الفلسطيني. إذ تراوحت سياسات إسرائيل بين القتل والتشريد الجماعي للفلسطينيين، فضلا عن التمييز في النظام القانوني بين الفلسطينيين والإسرائيليين. والاعتداءات العسكرية المتكررة على غزة.

رصدت الدراسة تصريحات إلتفافية رسمية إسرائيلية تضع نفسها في خانة رد الفعل، لكنها تشير صراحة إلى نية واضحة في القضاء على الفلسطينيين. والموضوع لايتوقف على المتطرفين الدينين اليهود فقط، بل يمتد إلى الساسة والوزراء المعنيين بصياغة المواجهة الرسمية مع الفلسطينين.

واحد من هذه التصريحات جاء على لسان نائب ماتان فيلنائي، أحد الخبراء العسكريين الكبار ونائب وزير الدفاع الإسرائيلي. الذي صرح عام 2008 أن التوترات المتزايدة من الفلسطينيين في قطاع غزة يمكن أن تجلب عليهم “محرقة”.

نفس الأسلوب اتبعته وزيرة العدل الإسرائيلية أييليت شاكيد، التي نشرت بيانًا على حسابها في فيس بوك في يونيو 2014 زعمت فيه أن الشعب الفلسطيني كله هو العدو. ودعت إلى تدمير فلسطين بما في ذلك العجائز والنساء والأطفال والمدن والقرى والممتلكلات والبنية الاساسية.

يمكن القول إن ما تدعو إليه الدراسة وغيرها يحتاج إلى بحث واهتمام جاد من ذوى الشأن في المنطقة. والمعنيين بالإنسانية وحقوقها والتزامتها في العالم أجمع.