لم يكن أحد يراهن على أن الانتخابات النيابية في لبنان ستضع حدا للأزمات التي لاحقت ذاك البلد في السنوات الأخيرة، فالتدهور الاقتصادي الذي ضرب الدولة اللبنانية ودفعها إلى حافة الإفلاس، والصراع السياسي الذي بلغ مداه، وانفصال النخبة السياسية عن مطالب الشارع، وغيرها من الجراح النازفة أعمق من أن تلتئم بانتخابات تحكمها الطائفية والولاءات الإقليمية والمال السياسي وتتصدرها ذات النخب التي طالب اللبنانيون برحيلها في انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، رافعين شعار “كلن يعني كلن”.

قبل أيام من إجراء الاقتراع لاختيار 128 نائبا بالمجلس النيابي اللبناني، أعد مقرر الأمم المتحدة المعني بالفقر وحقوق الإنسان أوليفيه دي شوتر تقريرا عن الأسباب الجذرية والآثار المترتبة على أسوأ أزمة اقتصادية ومالية شهدتها البلاد في تاريخها.

شوتر قال في تقريره إن “الأزمة الاقتصادية التي بدأت في لبنان مطلع عام 2019 وضعت البلاد على شفير الهاوية، وأصبحت لبنان دولة فاشلة”، مستشهدا بالتقديرات الحالية التي تضع أربعة من كل خمسة أشخاص في فقر. وأشار إلى أن خطة الإنقاذ الأخيرة لا تشمل أي مساءلة مُضمنة، و”هي ضرورية لاستعادة الثقة المفقودة لدى السكان والقطاع المالي”.

وأكد دي شوتر على أن الثروة الوطنية تبددت على مدى عقود من خلال سوء الإدارة والاستثمارات في غير محلها من قبل الحكومة والبنك المركزي، “أدت سياسات البنك المركزي على وجه الخصوص إلى تدهور العملة، وتدمير الاقتصاد، والقضاء على مدخرات العمر للناس، وإغراق السكان في براثن الفقر”. وخلص التقرير إلى أن البنك المركزي وضع الدولة اللبنانية في مخالفة صريحة للقانون الدولي لحقوق الإنسان”.

وقال الخبير الأممي إن قيادة الشعب اللبناني “بعيدة تماما عن الواقع، بما في ذلك اليأس الذي خلقوه بتدمير حياة الناس”، داعيا الحكومة التي سيتم تشكيلها بناء على نتائج الانتخابات الأخيرة إلى “وضع المساءلة والشفافية في قلب ومحور أعمالها، بدءا من الكشف العلني عن مواردها المالية وتضارب المصالح ومطالبة مسؤولي البنك المركزي بالقيام بالمثل”.

تقرير الخبير الأممي لم يأت بجديد، فالأوجاع التي رصدها والآثار المنتظرة والحلول المقترحة، يعرفها اللبنانيون جيدا، فأهل بيروت والضاحية وصيدا والبقاع وعكار وطرابلس وجبيل وبعبدا أدرى بشِعابهم، وهؤلاء يعلمون علم اليقين أن الانتخابات التي جرت لن تُجلي السواد القائم بل قد تزيد المشهد سوادا لتدخل لبنان إلى نفق أكثر ظلمة، مع ذلك تعاملوا معها باعتبارها موسما لجني بعض الأموال التي تتدفق على أمراء الطوائف من الخارج.

خلفت الانتخابات اللبنانية واقعا سياسيا أشد تعقيدا مما كان عليه، وقد تدخل البلاد في حالة من الضبابية والفوضى، مما يزيد الأمور سوءا، فتركيبة البرلمان المنتخب ستضع لبنان أمام أزمة ثلاثية، محطتها الأولى: انتخاب رئيس للمجلس النيابي، والثانية: التوافق على اسم رئيس الحكومة وتشكيل الوزارة الجديدة، والمحطة الثالثة: انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفا للرئيس الحالي ميشيل عون الذي ستنتهي ولايته في أكتوبر المقبل.

يفرض النظام الداخلي لمجلس النواب اللبناني أن يدعو أكبر الأعضاء سنا إلى انتخاب رئيس جديد للمجلس ونائبه وهيئة مكتب، في مهلة أقصاها خمسة عشر يوما من ولاية البرلمان الجديد والتي بدأت بالفعل يوم 21 من مايو/أيار الجاري.

ويتصادف أن أكبر النواب سنا والذي ستوكل إليه مهمة توجيه الدعوة هو رئيس المجلس المنقضية ولايته نبيه بري (84 عاما) زعيم حركة أمل الشيعية والذي سيطرح نفسه مرشحا لرئاسة البرلمان للمرة الثامنة، مدعوما من الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله).

اقرأ أيضًا: حوار| رئيس الوزراء اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة لـ«مصر 360»: مقاطعة الانتخابات تُسهل تزوير إرادة اللبنانيين وتُغير وجه لبنان العروبي

الرئيس بري الذي لم يغادر مقعد رئاسة البرلمان منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، هو عنوان المحطة الأولى للأزمة السياسية المنتظرة في لبنان، فالرجل لم يحظ تحالفه الانتخابي بالأغلبية التي تمكنه من حسم معركة رئاسة المجلس الجديد.

وتنص المادة 44 من الدستور اللبناني على أن ينتخب البرلمان الجديد ولمدة ولايته الرئيس ونائب الرئيس بالاقتراع السري وبالأغلبية المطلقة من أصوات النواب، وإذ لم تتوافر هذه الأغلبية في هذه الدورة وفي دورة ثانية تعقبها تجري دورة اقتراع ثالثة يكتفي في نتيجتها بالغالبية النسبية، وإذا تساوت الأصوات فالأكبر سنا من أعضاء المجلس يعتبر رئيسا، وفي كل مرة يجدد المجلس انتخابه.

منذ الإعلان عن نتيجة الانتخابات والتي خسر فيها حزب الله وحلفاؤه الأغلبية التي مكنتهم من السيطرة على برلمان 2018، تجري مشاورات بين كتل المعارضة القديمة والجديدة للتوافق على مرشح شيعي آخر لرئاسة المجلس لقطع الطريق أمام بري، إلا أن ذلك الخيار يبدو صعبا في ظل إحكام الثنائي الشيعي السيطرة على نوابهم وتشرذم منافسيهم في كتل المعارضة.

أزمة انتخاب رئيس المجلس النيابي اللبناني مرتبطة بأزمة لاحقة عنوانها “التوافق حول اختيار رئيس وزراء وحكومة جديدة” لتخلف حكومة نجيب ميقاتي التي ستتحول إلى حكومة تصريف أعمال فور انعقاد البرلمان الجديد، ثم تبلغ الأزمات ذروتها بالوصول إلى محطة انتخاب رئيس الجمهورية بعد أقل من 5 شهور.

ويتوقع المراقبون أن يلجأ حزب الله وحلفاؤه بعد خسارتهم للأغلبية إلى سيناريو التعطيل الذي يتقنه وسبق له ممارسته من قبل “من المتوقع أن يمارس حزب الله لعبة أخرى يتقنها منذ فترة طويلة، وهي: تأخير العمليات الرئيسية من خلال عرقلة القرارات والتسبب بالفراغ في المؤسسات الحكومية. فقد سبق له أن لجأ عدة مرات إلى استخدام مثل هذه الحالات من الجمود للتأثير على تشكيلة الحكومة والانتخابات الرئاسية. وقد يحاول هذه المرة الربط بين هذين الاستحقاقين لفرض حل وسط يضمن وصول مرشحه المفضل إلى رئاسة الجمهورية”، تقول حنين غدار في تقرير عن نتائج الانتخابات اللبنانية نشره معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى على موقعه الإلكتروني.

وتحت عنوان “ماذا تعني خسارة حزب الله النيابية للبنان”، تأسف غدار من احتمالية لجوء حزب الله إلى سيناريو التعطيل، “للأسف، قد يعرقل هذا السيناريو الإصلاحات والتغيير السياسي، وبذلك لن تنعكس النتائج الانتخابية الواعدة في مؤسسات الدولة على النحو المناسب”، ودعت الباحثة اللبنانية المجتمع الدولي إلى ممارسة مزيد من الضغوط على الأطراف السياسية لمنع حصول فراغ دستوري في البلد المأزوم.

ويرى بول سالم مدير معهد أبحاث الشرق الأوسط في تحليل لنتائج الانتخابات اللبنانية أن الطريق السياسي في لبنان لا يزال محل نزاع شديد، “من غير المرجح أن تنتج الانتخابات إجماعًا سياسيًا كافيا لإجراء الإصلاحات الرئيسية اللازمة”، وأشار إلى أن لبنان في حاجة ماسة إلى حكومة جديدة يمكنها العمل مع البرلمان الجديد لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة بشكل عاجل لتأمين حزمة إنقاذ من صندوق النقد الدولي، والبدء في عكس الانهيار الاجتماعي والاقتصادي.

لا يمكن قراءة المشهد السياسي المنتظر في لبنان بمعزل عما يجري في دولة العراق التي تصارع منذ عقدين أزمات طائفية ومذهبية وسياسية واقتصادية دفعت ملايين العراقيين إلى النزول للشوارع احتجاجا على ما وصلت إليه الأمور في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وبعد تلك الانتفاضة بنحو عامين أجريت انتخابات عامة مبكرة، مُني فيها ائتلاف الحشد الشعبي الموالي لإيران بخسارة كبيرة، لصالح التحالف الذي يقوده الزعيم الشيعي مقتدى الصدر.

لم تُفكك الانتخابات العراقية الأزمات التي دفعت الناس إلى الانفجار، فالبلاد أصيبت بحالة من حالات الانسداد السياسي، ورغم مرور 7 أشهر على إجراء الاستحقاق النيابي، لم يتمكن العراق من تشكيل حكومة جديدة ولا انتخاب رئيس جمهورية جديد، نتيجة لتعطيل الحشد الشعبي الذي يملك قوى عسكرية مدججة بالسلاح الإيراني للمشهد الجديد لعدم توافقه مع الأجندة التي وضعها الحرس الثوري للعواصم العربية التي سيطر عليها في السنوات الأخيرة.

وتتبدى المخاوف من أن يلقي المشهد العراقي بظلاله على لبنان، وأن يمضي قادة حزب الله الذين يفخرون بأنهم “جنود في جيش الوليّ الفقيه”، على طريق رفاقهم في العراق ويعملوا على تعطيل المسار السياسي اللبناني حتى يفرضوا رؤيتهم ورؤية أوليائهم في طهران.

ولتفادي سيناريو التعطيل المتوقع، فتحت بعض التكتلات التقليدية أبواب التشاور مع بعضها البعض أو مع الكتلتين الجديدتين في المجلس (المستقلين والتغييريين) أملا في تشكيل تحالف نيابي يستطيع أن يصنع أغلبية تحسم الاستحقاقات المترتبة على نتائج الانتخابات النيابية.

يبقى الواقع اللبناني للأسف مرهونا بالتجاذبات والموائمات الإقليمية والدولية، فولاء زعماء الكتل السياسية وأمراء الطوائف للوكلاء والممولين الخارجيين وليس للمواطن اللبناني الذي لا يجد في بعض الأحيان خبز يومه.