القاهرة/1992، وبينما كان عمرو دياب يُغني “يا نادي باريس تعالى وحاسبني.. وجدول ديوني عشانه وعشاني” في فيلم “آيس كريم في جليم”؛ كان مسئولو الحكومة المصرية -حينها- يُحاولون إقناع نادي باريس للدائنين بإعادة هيكلة الديون الخارجية بعد تفاقمها. وبعد نحو 30 عامًا، تعود مصر لتواجه نفس الأزمة. ذلك بعدما تضخمت ديونها الخارجية خلال السنوات الـ8 الماضية، بأكثر من 100 مليار دولار.

ففي حين سجل الدين الخارجي نحو 41.7 مليار دولار في عام 2014، ارتفع إلى ما قرابة الـ145 مليار دولار بنهاية الربع الثالث من العام المالي الجاري 2021/ 2022.

ولعل بسبب ذلك طرح بعض خبراء الاقتصاد إمكانية تكرار حل الماضي، عن طريق نادي باريس للدائنين، بغرض لإعادة هيكلة الديون الخارجية.

يؤيد وجهة النظر هذه الدكتور زياد بهاء الدين المحلل الاقتصادي، ومنير فخري عبد النور وزير الصناعة الأسبق، في مقالات منشورة، أكدوا فيها أن إعادة هيكلة الدين الخارجي ربما يكون حلًا للأزمة. فضلًا عن تقليل أثر الضغط على سعر صرف الجنيه. ومن ثم تخفيف أزمة عجز الموازنة العامة.

وقد تصل نسبة فوائد وأقساط الدين في الموازنة العامة لعام 2022/ 2023 إلى نحو 80% من حجم الإنفاق الحكومي. في حين تبلغ قيمة فوائد الديون محليًا وخارجيًا نحو 690 مليار جنيه، وفقًا لمشروع الموازنة العامة.

ما هو نادي باريس للدائنين؟

لكن ما هو نادي باريس للدائنين؟ وكيف يعمل؟ وكم مرة لجأت مصر إليه؟ وما هي الإجراءات التي ستضطر مصر لقبولها، في حال وافقت على دعوة نادي باريس لإعادة هيكلة ديونها؟

نادي باريس للدائنين، ويُعرف بالفرنسية Club de Paris، هو مجموعة غير حكومية تضم مسئولو 22 دولة من أكبر اقتصاديات العالم. ويقدم النادي خدمات مالية للدول المنهكة أو المثقلة بالديون. وقد أنشئ بشكل رسمي عام 1962. ومنذ حينها عقد مئات الاتفاقيات مع الدول؛ لإعادة جدولة ديونها الخارجية.

أبرز الدول الأعضاء في النادي: أستراليا والولايات المتحدة والدنمارك وفرنسا وألمانيا وإيرلندا وإيطاليا واليابان وروسيا والسويد وسويسرا وبريطانيا وكندا. وهي عبارة عن الدول الدائنة. وأحيانًا ينضم لها دول أخرى غير دائمة في بعض المناسبات.

وفقًا للموقع الإلكتروني لنادي باريس، تتم جدولة ديون الدول عبر توصية مقدمة من صندوق النقد الدولي، والذي لابد وأن تكون الدولة المتقدمة للنادي عضوة، وأبرمت اتفاقًا معه. وقبل إعادة جدولة الديون، لابد وأن تكون قد مرت بعديد من الإجراءات التقشفية والإصلاحات النقدية والاقتصادية.

وحول آلية عمل النادي، يُبين الموقع الإلكتروني للنادي، أن الدولة المديونة تتقدم له بطلب لإعادة جدولة ديونها. ثم يُرسل صندوق النقد برنامجه وشروطه التي اتفق عليها مع النادي، من أجل التدقيق والمراجعة. على أن تُعقد مناقشات بين مسئولي “نادي باريس” ومندوب الدولة المديونة لبحث كيفية الخروج من أزمتها والحيلولة دون إفلاسها. وفي هذه الأثناء، تتم جلسة أشبه باستجواب للدولة المدينة. وهنا تكمن قوة الدول الأعضاء.

بعد ذلك، يخرج مندوب الدولة المديونة من الاجتماع، وتنعقد جلسة مغلقة على الدول الأعضاء للنادي، لبحث كيفية جدولة ديون هذه الدولة وإخراجها من أزمتها ومدى إمكانية شطب ديونها. وبعد التوصل إلى اتفاق مشترك، تبلغ المقترحات للمدينين لبحثها مجددا.

كم مرة لجأت مصر إلى نادي باريس؟

تكشف مراجعة قمنا بها للموقع الإلكتروني لنادي باريس للدائنين، لجوء مصر للنادي مرتين، لإعادة جدولة ديونها. وذلك خلال عامي 1987 و1991. وقد طبقت مصر اشتراطات النادي التي تضمنت تخفيض للدعم وتحرير قطاعات التجارة الخارجية وغيرها.

ماذا حدث في المرة الأولى؟

يُوضح موقع النادي، أنه في المرة الأولى عام 1987، أبرمت حكومة البلاد حينها اتفاقًا معه لإعادة جدولة ديون بقيمة 7.098 مليار دولار. وتم الاتفاق برعاية صندوق النقد الدولي، والمفوضية الأوروبية، والبنك الدولي، ومنظمة الأونكتاد. “مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية” .

وكان عدد البلاد الدائنة المشاركة في الاتفاقية 18، هي “أستراليا والنمسا وبلجيكا وكندا والدانمارك وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وفنلندا واليابان وهولندا والكويت وإسبانيا والنرويج والسويد وسويسرا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة”.

واتفقت مصر -حينها- على تطبيق برنامجًا للإصلاح الاقتصادي تضمن إصلاح مالي للموازنة العامة وتقليل العجز وتحرير سعر الصرف، وفقًا لاشتراطات نادي باريس.

المحلل الاقتصادي، علي الجابري، يُوضح في بحث له بعنوان “دور الدولة في تحقيق التنمية البشرية المستدامة في مصر” أن تلك الإصلاحات تضمنت أيضًا تحرير أسعار الفائدة على الإيداع والاقتراض. وأيضًا تخفيض الدعم، والتحكم في الأسعار، وتوحيد سعر صرف العملة المحلية، وتحرير التجارة الخارجية. إلى جانب إصلاح القطاع العام، والالتزام بالحد من عجز الموازنة العامة.

ويلفت الجابري إلى الجزء السياسي في مشروع الاتفاق، بعدما أُعفيت البلاد من ديون قُدرت بـ13.3 مليار دولار، منها 7.1 مليار دولار ديون على عسكرية على مصر لصالح الولايات المتحدة، و6.2 مليار دولار ديون مستحقة لدول الخليج العربي. وذلك بسبب مشاركة مصر ودعمها العدوان الأمريكي على العراق، بعد غزو الأخيرة لدولة الكويت عام 1990.

ويقول، إن تلك الإعفاءات ساهمت بشكل أساسي في خفض الديون الخارجية لمصر. بل كانت حجر أساس لها. وتُظهر بيانات البنك الدولي، تراجع قيمة ديون مصر خلال عام واحد فقط بأكثر من 12 مليار دولار. إذ انخفضت من 45.68 مليار دولار عام 1989 إلى  33.02 مليار دولار عام 1990.

اتفاق مصر الثاني مع نادي باريس

لكن وعلى الرغم من ذلك، فإن الأمور لم تتحسن. إذ لجأت مصر مرة أخرى لنادي باريس في صيف عام 1991. بعدما تضررت إيرادات السياحة وقناة السويس، بسبب حرب الخليج، إضافة إلى سوء بيئة الاستثمار، والذي تسبب في فقدان مصر نحو 2.5 مليار دولار.

ويُشير الجابري، إلى أنه رغم تلقي مصر مساعدات مالية ضخمة من بلدان الخليج العربي والولايات المتحدة وبلدان أخرى. إلا أنها لجأت لنادي باريس.

ويكشف الموقع الإلكتروني لنادي باريس، أن مصر اتفقت مع مسئولو البلدان الدائنة على جدولة وتخفيض وإعادة هيكلة لنحو 21.164 مليار دولار. وجرى الاتفاق على ثلاث مراحل، بدأت بتخفيف الدين بنسبة 30% من صافي قيمة الدين الخارجي عام 1991 ثم تخفيف بنسبة 15% من صافي قيمة الديون حتى عام 1991. ثم تخفيف بنسبة 5% من صافي المديونية حتى عام 1994.

 

كيف وصلت مصر للاتفاق الثاني؟

ويشرح المحلل الاقتصادي علي الجابري، أن مصر اعتمدت على أساليب عدة خلال اتفاقها الثاني مع نادي باريس، كان هدفه الأساسي تخفيف أصل الدين وفوائدها، إضافة لرسملة الفوائد، إضافة للجوء مصر لتقييم ديونها وفق الطبيعة القانونية لكل دين على حدة.

رسملة الفوائد: تعني ضم الفائدة إلى أصل الدين فتصبح بدورها تُحتسب لها فوائد.

فضلًا عن معاملة الديون الأمريكية معاملة. خاصة بعد إلغاء الولايات المتحدة الديون العسكرية والمستحقة لها قبل انعقاد اجتماع نادي باريس، وفقًا للجابري.

كما قايضت بعض الدول الدائنة ديونها مقابل عملة محلية مصرية أو مشروعات استثمارية أو أسهم في مصر، وبحد أقصى يُعادل إجمالي الديون الميسرة. وطبقت مصر برنامج لتسوية الديون الخارجية بالجنيه. إذ تم تقدير المبالغ بحدود 3.2 مليار دولار، ويتضمنها خصم 46.3% وذلك في عام 1996.

ويقول الجابري، إنه بناء على تلك الإجراءات خففت مصر أحجام مديونيتها الخارجية وانتقلت إلى مصاف الدول معتدلة المديونية، بعدما كانت من الدول ذات المديونية المرتفعة، إضافة لكونها باتت من الدول المُستفيدة من اتفاقيات نادي باريس.

 

ويُوضح، أن مصر خلال اتفاقها مع نادي باريس، استطاعت إعادة جدولة 22 مليار دولار. في حين بلغت قيمة القروض المُعفاة والمنخفضة الفائدة نحو 12.6 مليار دولار. مضيفًا أنه في عام 1997 ألغى نادي باريس قراره فيما يخص الشريحة الثالثة المُستحقة على مصر طبقًا للاتفاق الموقع عام 1991.

ويُتابع الجابري، أن الإجراءات الدولية ساهمت في تخفيف عبء ديون مصر على وجه الخصوص، لافتًا إلى تلك الإجراءات اعتمدت على مبدأ شطب الديون والإعفاء، وأن أغلب ما تم شطبه هو الديون قصيرة الأجل ذات الفائدة العالية، فيما أبقي على الديون طويلة الأجل ذات الفائدة المنخفضة، وأسهم ذلك في استقرار سعر صرف الجنيه.

ماذا فعلت مصر للخروج من أزمتها؟

يشرح المحلل الاقتصادي علي الجابري، اتجاه السياسة المصرية بعد تلك الاتفاقيات، بأنها عمدّت إلى ترشيد الاقتراض من الخارج إلى أقصى درجة، حتى لا يُمثل ذلك ديون تُثقل كاهلها، فضلاً عن تخفيض سعر الجنيه، والاعتماد على الاقتراض المحلي.

ويُضيف، أنه أيضًا كان لانخفاض أسعار صرف غالبية العملات المبرم بها اتفاقيات القروض والتسهيلات إزاء الدولار وهي العملة التي يتم بها تقييم رصيد الدين الخارجي، دور في تراجع حجم الديون المصرية.

وشهدت التسعينيات انخفاضًا واضحًا في مديونية مصر الخارجية، قُدرت بنحو 30%، مقارنة بالسنوات التي سبقتها. إذ بدأ الانخفاض من 209.3% عام 1988 إلى 28.3% عام 2000. وبالرغم من الزيادة في عجز الموازنة واصلت الديون الخارجية الانخفاض. ما يُوضح عدم رغبة السلطات وقتها في تمويل العجز المالي باللجوء إلى الاقتراض من الخارج.

تكرار سيناريو 91 “صعب”

من جهته، يعتقد دكتور عبد المنعم السيد، رئيس مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، أنه من الصعب حاليًا تكرار ما حدث في عام 1991. ذلك أن الاتفاق مع نادي باريس كان جزءًا من صفقة سياسية عقدتها مصر مع الولايات المتحدة للمشاركة في طرد العراق من الكويت.

ويُضيف لمصر 360: “نادي باريس لن يشطب الديون. وإلا كل دولة تروح تتحجج وتقول مش قادرة تسدد ديونها”. متابعًا، أن آخر دولة شُطب جزء من ديونها كانت السودان في عام 2021، وذلك بعد فك عزلتها السياسية، والتخلص من حكم الرئيس المعزول عمر البشير.

ويرى، أن إمكانية حدوث ذلك مع الديون المصرية “صعب”. لأن مصر ملتزمة بسداد فوائد وأقساط الديون في مواعيدها المقررة، ولم تتأخر يومًا حتى الآن. إضافة لامتلاك مصر موارد اقتصادية دولارية تدر عليها دخلًا. لكن مصر قد تدخل في نقاش مع النادي لإعادة هيكلة الدين لا تخفيضه.

ويقول، إن نادي باريس أو حتى صندوق النقد الدولي لا يستطيع من تلقاء نفسه تخفيض الدين عن مصر أو تخفيف الفوائد. ذلك بالنظر إلى أن أعضاء نادي باريس الـ22 يُمثلون الكتلة الأكبر التي تمتلك أموالًا في صندوق النقد الدولي. وبذلك فهي تتحكم في القرارات، باعتبارها المسيطرة والمتحكمة.

ويعتقد السيد، أنه بدون أسباب سياسية قوية لن يقوم نادي باريس بإعادة هيكلة الدين الخارجي المصري. إضافة لأن مصر تقوم بإجراء إصلاح اقتصادي مع صندوق النقد الدولي، سواء برنامج الإصلاح المالي الذي نُفذ خلال الفترة من 2016 إلى 2019. ثم برنامج الإصلاحات الهيكلية والذي بدأ بنهاية 2019. وقد تحول بعد جائحة فيروس كورونا إلى إصلاحات تمويلية جديدة حصلت مصر بموجبها على قرض بقيمة 7.2 مليار دولار.

ويقول رئيس مركز القاهرة، إنه في لجوء مصر لنادي باريس ستكون هناك تبعات اقتصادية على مصر. أبرزها الإساءة لمركز مصر المالي، وتقليل التصنيف الائتماني. ثم سيبدو الأمر وكأنه تأكيد على مقولة “إفلاس مصر” مثل لبنان أو سيرلانكا.

مقترح آخر.. توريق الديون

ويطرح رئيس مركز القاهرة، اقتراحًا آخر. وهو تحويل جزء من أصل الديون الخارجية إلى شراكات مع الدائنين أو مع صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي برعاية نادي باريس. وذلك عن طريق إدخال الدائن بحصته التي يدين بها مصر كشريك في مشروع مثل استصلاح أراضي أو قطار أنفاق. وهذا يسمى “توريق الديون”، ويعني تحويل الديون إلى ورقة أو مساهمة أو مشاركة مع الجهة الدائنة.

كما يمكن لصندوق مصر السيادي أن يكون له دور في عملية توريق الديون، كونه يستحوذ ويمتلك أصولًا عقارية ضخمة. وبالتالي يستطيع إدخال الجهة الدائنة في شراكة معه في بعض من تلك الأصول. سواء في مشروعات سياحية أو توليد الطاقة المتجددة. على أن يتم الاتفاق على طريقة إدارة المشروع وتقسيم إيراداته بعد ذلك؛ وقد يُسهم ذلك المقترح في تخفيف الديون.

في النهاية، فإن تكرار حلول الماضي لن تكون سهلة في ضوء التغيرات الاقتصادية والأزمات التي تُعاني ويلاتها كل دول العالم. ولكن هو نقاش مفتوح للخروج من تلك الأزمة.