صيف 1805
قَلْبُ القاهرة، صار الألباني العنيد واليًا على مصر بعدما ثار الناس بقيادة شيخ التجار عظيم الشأن “عمر مكرم” على الوالي “خورشيد” باشا فأجلسوا محمد علي، باشا بديلًا له على عرش مصر مُعَزَزًا بفرمان من السلطان العثماني “سليم الثالث” في إجراءٍ رسميٍ بدا كما لو كان استجابةً -هي الأولى من نوعها في ذلك العصر- لمطالب الشعب.
كان التركيب المجتمعي في ذلك الوقت غير معقد تأتي على رأسه البيروقراطية المملوكية بحُكم موقعها السياسي فكانت تدير النمط الاقتصادي السائد حينذاك من خلال السيطرة على الأرض كوسيلة أساسية للإنتاج بالإضافة إلى إشرافها على إجراءات سيادية تتصل بفرض الضرائب ونزع الملكيات.
تلت البيروقراطية المملوكية في هذا التركيب شريحة اجتماعية مصرية محدودة العدد نسبيًا لكنها بالغة التأثير في البناء الفكري للشريحة التي تليها وهي شريحة رجال الدين الذين كانوا يعملون -إلى جانب أدائهم لدورهم الديني- في مجالات التجارة المتنوعة والعقارات، وهو الأمر الذي كان يسهم بدرجة ملحوظة في تحديد توجهات مصالحهم الطبقية وعمق ارتباط تلك المصالح بالسلطة الحاكمة في سياقٍ اختلطت فيه مكانتهم الروحية بنشاطاتهم الاقتصادية فامتثلوا بدفعٍ من ذلك الخلط لمهادنة البيروقراطية المملوكية التي كانت تعفيهم من أداء الضرائب وتمنع عنهم المصادرة حفظًا لمقامهم الديني في نظر الناس.
أما الشريحة الثالثة في التركيب المجتمعي فقد تمثلت في باقي عموم المصريين الذين كانوا يزاولون ثلاث أنشطة على وجه التحديد: الزراعة والحرف اليدوية وتجارة التجزئة الفقيرة.
كان النمط الاقتصادي إذن بسيطًا جدًا وبدائيًا لأبعد درجة. أقطع “الباشا” أعوانه من الأجانب والوطنيين الأراضي وتوسع في ذلك. مَرتِ الأعوام سريعًا تَبَدَلت فيها أحوال الدنيا لكن تطورًا لم يطرأ على النمط الاقتصادي بمصر. حدث أن هجر الإقطاعيون وعائلاتهم الريف صوب المدينة -وإن أبقوا على ملكية إقطاعياتهم بل وزادوا فيها- مُحَمَلين بثرواتٍ طائلة تمثلت في ريع الأرض فقام بعضهم بإنفاقها بسَفَهٍ استهلاكيٍ دَمرها، وقام البعض الآخر بالمضاربة بها في البورصات المختلفة فأهلكها، وقام البعض الثالث بتوظيفها في توسيع إقطاعياتهم بشراء المزيد من الأراضي المتاخمة أو في بإيداعها البنوك بلا تشغيل أو باستثمارها في العقار أو في صناعات لا تخدم إلا الاستهلاك فأعاق ذلك من تحولها إلى مستوى أعلى وأكثر تعقيدًا، مما أدى إلى انقطاع تاريخي للتطور لا تراكم رأسمالي فيه، فلا هو أسفر عن تقدمٍ للمدينة ولا عن تمدينٍ للريف.
كان لهذا الانقطاع في التطور الاقتصادي ارتباط بالشأن السياسي، فمثلًا حين ألقت البرجوازية في أوروبا بالإقطاع إلى خارج دائرة التاريخ، كان ذلك مدعومًا بتطور في النظام السياسي الذي شهد بعضًا من عثرات ثم ما لبث إلا وقد تجاوزها مُتَقَدِمًا، إلا أن النظام السياسي ببلادنا لم يشهد تطورًا مشابهًا -رغم محاولاتٍ مُقَدَرةٍ للتغيير لكنها محدودة- إلى أن وقع الزلزال التاريخي الشعبي الذي تأخر كثيرًا عن أوروبا.
ربيع 1919
قَلْبُ القاهرة مرة أخرى، اهتزت الأرض على وَقعِ زلزال عظيم امتد كَنَارٍ في هشيم المجتمع بأسره لتخرج الثورة لأول مرة في تاريخنا الحديث من ضِيقِ العاصمة إلي رَحبِ أقاليم مصر كلها، ليكون “سعد زغلول” هو وجهها السياسي و”طلعت حرب” هو وجهها الاقتصادي. ألقى “طلعت حرب” بنفسه في زخم الثورة وهو ابن حي “قصر الشوق” بالقاهرة القديمة الذي يعكس في ذاته -كموضعِ تجمعٍ بشريٍ في بواكير القرن العشرين- تعبيرًا عن مأزقٍ ثقافي ما بين حزمة القيم المحافظة بطبيعتها التي فرضتها طبيعة تركيبة هذا المجتمع وبين التوق للتغيير، فيجد الرجل ضالته متواكِبًا في ذلك مع وجه الثورة السياسي في معادلةٍ للتغيير من داخل النظام العام دون المساس بأركانه الأساسية.
كان الرجل هو أصدق تعبير عن “البرجوازية” بمفهومها العلمي. وكما كان للبورجوازية الأوروبية إيجابيات عظيمة تجلت في المساهمة في الثورات الكبرى (الثورة الفرنسية مثالًا) حين أطاحت بالإقطاع المتحالف مع رجال الدين وقامت بإحداث تغييرات صناعية ساهمت بتحديث المجتمع وتطوير العلم والتكنولوجيا، إلا أن سلبيات أعظم كانت كامنة في تكوينها الاجتماعي حيث حَلَّت محل الإقطاع في السيطرة والاحتكار والإقصاء فمارست أبشع السلوكيات مع الأُجراء الذين لم يعودوا عمالًا في الأرض (أقنانًا) لكن في المصانع (بروليتاريا).
كان التركيب المجتمعي ببلادنا في ذلك الوقت مختلفًا نوعًا ما، طُغمة حاكمة من أبناء الباشا محمد على وشريحة من الإقطاعيين المصريين والمتمصرين ثم شريحة ثالثة واسعة جدًا من المصريين ضمت طوائف مهنية تراوحت ما بين الفلاحين الذين يملكون مساحات ضئيلة للغاية من الأراضي والأُجراء والموظفين على تنوع طبيعة ما يمارسونه من وظائف جمع بينها إطار واسع من الظلم الاجتماعي في سياق نمط اقتصادي بدائي مُتَخلِف.
أدرك ابن “قصر الشوق” إمكانات المجتمع المصري وخَبر إيجابيات البرجوازية الأوروبية فحاول أن يتلافى سلبياتها. توصل الرجل إلى كلمة السر ومفتاح الطلسم المسحور، “التصنيع”، فأنشأ صناعاتٍ كانت سببًا في تغيير اقتصادي واجتماعي تم احتجاز تطوره من خلال عوائق ذات طبيعة خاصة فرضها المُحتل البريطاني وخلصاؤه المحليون بمباركة من سلالة الباشا محمد علي، وبمساندة من التيارات الدينية المتشددة مما حال دون اللحاق بعصر البرجوازية الأوروبية.
من الزاوية النخبوية، لم تقم البرجوازية المصرية بإزاحة الإقطاع -كما فعلت قرينتها الأوروبية- ومن ثم لم يحدث تغيير في “النمط”، لكن الحاصل أن نموذجًا هجينًا وجد طريقه لأرض الواقع الاجتماعي تداخلت على إثره البرجوازية المصرية مع الإقطاع فلم يتصارعا كنقيضين بما يفضي إلى تركيبٍ جديدٍ.
كان ذلك التداخل ذا طابع تعايشي مُريح مُستقِرٍ في استرخاء يكبت أي صراع حقيقي، وهو ما حال دون تطور تجربة ابن “قصر الشوق” الفريدة التي دخلت مصر بموجبها عصر الصناعة على استحياء. من الزاوية الشعبية، كان لشريحة الموظفين بروليتارية الطابع تأثير بالغ الأهمية اندمج في سياقه أبناؤها في الشأن السياسي المتصاعدة سخونته وسط عَالَمٍ مختلف يحمل ملامح ثقافية واجتماعية وسياسية حديثة ويدشن ترتيبات إقليمية ودولية جديدة، فكانوا أقرب بحكم السن والمصالح الطبقية والانفتاح الثقافي إلى “حالة” التغيير من النخبة الإقطاع-بورجوازية (إن جاز التعبير) التي استمر تحالفها غير المُقدس مع المُحتل البريطاني وسلالة الباشا محمد على والتيار الديني المتشدد، ليستخدم هذا التحالف أدوات متنوعة من القمع لضرب أي حراكٍ ذي طابع تغييري مُحتَمَلٍ إلى أن انتصف القرن.
للحديث بقية إن كان في العُمر بقية.