ليس من المبالغة القول بأن تغير المناخ هو أخطر أزمة وجودية تواجهها البشرية في العصر الحديث، وتواجه مصر عددا من المخاطر والتحديات المرتبطة بتغير المناخ: ارتفاع درجة الحرارة، تغير أنماط ومواقيت هطول الأمطار، ارتفاع مستوى سطح البحر، والظروف الجوية المتطرفة والكوارث المناخية.
يؤثر تغير المناخ على كل صور الحياة على الأرض، فيؤثر في مجمل النظم البيئية البرية والبحرية والساحلية، كما يؤثر على موارد المياه والزراعة وإنتاج الغذاء، وكذلك في البيئة والصحة، وتمتد آثاره لتشمل إدارة الطاقة والنقل، التعليم وسوق العمل، السياحة، الرياضة والفنون، كما يؤثر على التوزيع السكاني من خلال الهجرة الداخلية والخارجية، وتشكل عواقب تغير المناخ تهديدا للأمن والاستقرار في العالم.
ولما كان الموضوع أكبر من أن نحيط بكافة جوانبه في مقال واحد، ولا حتى في سلسلة مقالات، فقد آثرنا أن نبدأ بالأهم، وهو آثار تغير المناخ على إمدادات المياه ومواصفاتها، وبعدها سوف نعرض تباعا لآثاره على الزراعة والمحاصيل الزراعية وتربية الماشية والدواجن وصيد الأسماك، ثم نستعرض آثار تغير المناخ على السياحة والتعليم والهجرة والقطاعات الاقتصادية المختلفة.
لكن، وقبل أن نبدأ، لابد وأن نشير إلى أن مصر تستعد لاستضافة المؤتمر السنوي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل في منتجع شرم الشيخ على البحر الأحمر، وقبل أيام دعا السيد الرئيس لحوار سياسي وطني يهدف إلى التوصل إلى صيغة توافقية وجدول أعمال لمواجهة الأزمات التي تلوح في الأفق، وتعهد السيد الرئيس بالتزامه بجدول أعمال تشاركي يشمل الجميع، وقالت وزيرة الدولة لشؤون البيئة أن القيادة السياسية مهتمة بإجراء حوار وطني وبناء تحالفات بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني للتصدي لمشكلة المناخ.
بحسب دراسات متعددة تعد مصر من بين المواقع الحساسة لتغيرات المناخ وعواقبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فمن جهة، تعتبر دلتا نهر النيل من بين ثلاث دلتاوات هي الأكثر عرضة للتأثر بتغير المناخ في العالم، وتواجه سلة غذاء مصر عددا من التهديدات الأخرى المجتمعة، كارتفاع درجة الحرارة وارتفاع مستوى سطح البحر والظروف الجوية المتطرفة. وبحسب سيناريوهات ارتفاع مستوى سطح البحر المتوقعة، قد تفقد مصر ما يقرب من 15% من الأراضي الزراعية، وقد يتضرر ما يصل إلى عُشر السكان في مصر، قبل نهاية القرن. ومن جهة ثانية، تصنف مدينتا الإسكندرية وبورسعيد من بين المدن الأكثر عرضة لارتفاع مستوى سطح البحر والفيضانات الناتجة عن تغير المناخ.
في ظني، يتوجب أن نعتبر الحوار حول المناخ هاما وملحا، ليس لأن النتائج المترتبة عليه لا يمكن تأجيلها فقط، ولا باعتباره تمهيدا لمؤتمر الأطراف السابع والعشرين فحسب، ولكن أيضا لضمان أن تراعي السياسات المناخية الآثار المتباينة للأزمة على القطاعات والمناطق الأكثر تضررا، ولضمان أن يتم توزيع الأعباء والمنافع بالعدل والإنصاف، خصوصا وأنه يحدث في ظل عدد من التحديات والمخاطر الأخرى المتزامنة، مثل سد النهضة الإثيوبي وغياب الدولة في ليبيا والإرهاب في سيناء وزيادة الديون الخارجية والعواقب الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية.
إن تغير المناخ لم يحدث صدفة، ولا يحدث في فراغ، ولا يمكن اعتباره تهديدا خارجيا يتوجب مواجهته، بل من الضروري فهمه على أساس أنه عملية اجتماعية وسياسية مرتبطة في جوهرها بنمط من التنمية لا يهدف سوى لتحقيق الأرباح والنمو بلا حدود. كما أن قدرة مصر على التكيف مع عواقب تغير المناخ مشروطة بأحوال الواقع الاجتماعية السياسية والمؤسسية، كما تقول دينا زايد أستاذ الاجتماع بالجامعة الأمريكية في مقالها المنشور على موقع “حلول للسياسات البديلة”.
حتى يحقق الحوار أهدافه، علينا أن نتفق على ضرورة أن يتم تمثيل الجميع، وأن تعبر مخرجات الحوار عن مصالح الجميع. وأن نتفق على طبيعة المشاركين ومن يمثلون، وجدول الأعمال ووسائل تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، وأن نتفق أن الضمانة الأساسية لنجاح الحوار هي أن يقوم على مبدأ العدالة المناخية، هذا المبدأ الذي تتبناه مصر في المحافل والمؤتمرات الدولية.
تقوم الاستراتيجية المصرية لمواجهة التغيرات المناخية التي أعلنتها مصر في مؤتمر جلاسجو السادس والعشرين للمناخ على خمسة محاور هي: التخفيف والتكيف والحوكمة والعلم والتكنولوجيا والتمويل. ألقت زايد نظرة عامة على الزخم المتزايد في مصر من أجل الوصول إلى جدول أعمال لسياسة مناخية شفافة وتشمل الجميع، وناقشت في مقالها مفهوم وعملية حوكمة المناخ التشاركية.
تعترف زايد في مقالها بأن تغير المناخ، ربما يكون هو أعمق التحديات التي تواجه الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، و كثيرا ما يوصف تغير المناخ بأنه مشكلة خبيثة وقد تبدو بلا حلول واضحة، وفي ضوء ذلك، صار من المقبول على نطاق واسع، اعتبار التكيف مع تغير المناخ عملية معقدة ومتعددة الأبعاد والمستويات، ومن المحتمل أنها تقتضي المواءمة بين مصالح متعارضة وتقديم تنازلات. كما أن الآثار طويلة المدى لتغيرات المناخ قد تعني ضمنا القيام بتحولات جذرية في السياسات أو استثمارات مكلفة، لذلك، فإن ترجمة احتياجات المواطنين في المناطق والقطاعات المختلفة، ودعم الحلول الجماعية للمشكلات المحلية، والحرص على مشاركة واسعة للأطراف المعنية في التخطيط والتنفيذ، هي شروط لعملية صنع قرار أكثر ديموقراطية وقبولا وفاعلية، وبالتالي، ضمان تحقيق نتائج عادلة.
تؤكد الأمم المتحدة في كثير من تقاريرها على ضرورة إجراء “مشاورات كافية وجدية” لضمان أن يكون للمتضررين من تغير المناخ صوت في تشخيص المشكلات واقتراح الحلول المناسبة. وتقر اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ لعام 1992 في مادتها السادسة بالحق في المشاركة، وأعاد اتفاق باريس عام 2015 التأكيد على هذا الحق، والمشاركة مصونة بموجب البند رقم 10 من إعلان “ريو”. وفي عام 2017 تبنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، بدولها البالغ عددها 195 دولة ومن بينها مصر “إعلان المباديء الأخلاقية”. يقر الإعلان بأنه “لا يمكن التصدي للتحديات العالمية والمخلية الناجمة عن تغير المناخ بدون مشاركة الناس كافة”.
وتدعو اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ لضمان أن تكون الإجراءات المناخية “متوافقة مع الاحتياجات والموارد المحلية”. ويشير أحدث تقرير للهيئة عن الآثار والتكيف إشارة واضحة إلى أن “الحوكمة الجامعة لكل المواطنين في الخطيط تمنح الأولوية للعدالة والإنصاف، وفي التنفيذ تؤدي إلى نتائج أكثر فاعلية واستدامة”. وهناك أدلة مؤكدة على أن برامج التكيف تؤثر بشكل مختلف على الفئات المختلفة، ولكي تكون القرارات عادلة نحتاج إلى آليات شفافة وتشاركية لضمان تمثيل الفاعلين على تنوعهم تمثيلا لائقا، وأن تعكس السياسات تفضيلات عموم الناس، كما أن إية إجراءات يتم تنفيذها يمكن أن تنطوي على تكاليف فردية عالية، ما يتطلب إقناع الناس إقناعا كافيا بأهمية دفع هذه التكاليف. السياسات التشاورية هي على مستوى من المستويات أداة لتوزيع عبء اتخاذ القرار، وعلى مستوى آخر، يمكن أن تساعد في تصميم سياسة مناسبة وعادلة لمواجهة تغيرات المناخ.
للأسف، ليس لدى مصر حتى الآن إطار قانوني شامل قائم بذاته بشأن تغير المناخ أو التكيف مع تغيراته، وعلى الرغم من الخطط والأوراق والاستراتيجيات المعلنة، إلا أنها أقرب إلى أن تكون نهجا فضفاضا للسياسات في الإجمال. وبحسب الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ هناك التزام حكومي مبدئي بالعمليات التشاورية والمداولات. لكن تحليلا معمقا للاستراتيجيات القطاعية يبين أن فكرة المشاركة العامة الواسعة غائبة إلى حد كبير. وعندما تشير الاستراتيجية إلى المشاركة مع الأطراف المعنية يكون المقصود هو جميع الفاعلين بكل تنوعهم، من الوزارات الأخرى مرورا بالمانحين ووصولا إلى القطاع الخاص.
برزت كلمة مشاركة مرة واحدة في استراتيجية المناخ الصادرة مؤخرا لوصف دور القطاع الخاص في الأنشطة المتعلقة بتغير المناخ، ومع أن كلمة مواطن وردت في الاستراتيجية ست مرات، لكن في كل هذه المواضع يكون المواطنون إما متلقين لمبادرات التوعية أو فئات يتعين “حمايتها”، دون أية إشارة لدورهم في تشكيل سياسات التكيف مع المناخ.
كل المسئولين تقريبا يعلنون عن سعيهم إلى وضع استراتيجية تشاركية كضرورة أساسية في حوكمة التكيف مع تغيرات المناخ، ويعلنون حرصهم على مشاركة كافة الأطراف المعنية في الحوار حول المناخ، لكنهم يقصدون بهذه الأطراف أطرافا محددة: المانحون والوزارات والقطاع الخاص. لكن ما لم يتم تنظيم مشاركة جميع الفئات والمناطق والقطاعات في الحوار، من الفلاحين والصيادين ومربي الماشية وعمال النقل والسياحة وسكان المدن والمناطق الأكثر تعرضا، فقد يكون الطريق إلى مواجهة تغيرات المناخ طويلا.
ليس لدينا خطط منهجية واضحة لتنظيم مشاركة المجتمعات المهمشة والأكثر تضررا في الحوار حول سياسة المناخ، ولا في كيفية دمج خبراتهم ومعارفهم المحلية بتغيرات المناخ في سياسات التكيف، ولا في اقتراح السياسات المناسبة، وعندما يتم استدعاء هؤلاء للمشاركة، فإنه بدلا من مناقشة الآثار المناخية المعروفة على المستوى المحلي، تستدعي هذه المجتمعات بهدف تشجيعهم على تطبيق “حلول” جاهزة لم يشاركوا في صياغتها.
والكثير من عمليات التشاور التي تحدث غالبا ما تكون محدودة وذات طابع جزئي، وجرت العادة على أن توضع هذه المشاورات تحت عنوان “التوعية”. لنتواضع قليلا قبل أن نفترض أن المواطنين يفتقرون إلى الوعي بتغير المناخ وآثاره، فلا ينبغي أن نتجاهل فهمهم لتغير المناخ الذي يستند على الخبرة اليومية المباشرة والسياق المحلي، نحن بحاجة إلى آليات ومؤسسات لتنظيم هذه الخبرات المحلية التي لا تقدر بثمن.
ينبغي أن ننظر إلى تغير المناخ باعتباره مشكلة سياسية، وتوجيه اهتمام أكبر بالجوانب السياسية المتعلقة بالمناخ، ومن أجل أجندة جامعة للمناخ واستراتيجية ديناميكية مرنة ومقبولة، نحتاج إلى مشاركة الناس وتفاعلهم مع التقييمات العلمية والتقنيات المقترحة، وينبغي أن ندرك أن ضعف المشاركة وفقدان الثقة قادرين على إضعاف المشاورات حتى لو كانت نزيهة، وأن ندرك أن المنافع بعيدة المدى للمشاركة تفوق تكاليفها قصيرة المدى، حتى لو بدت هذه التكاليف باهظة.
إن عقد منتديات تمثيلية لا يتم تصميمها على أساس العدالة يمكن أن تكون مجرد وسيلة لإضفاء المشروعية على الإقصاء والتهميش، وأن تؤدي إلى مزيد من حرمان المجتمعات الفقيرة والمهمشة والأكثر تعرضا من أبسط حقوقها، والحوار الوطني الذي يستهدف بناء إجماع، دون مراجعة اختيار المدعوين للمشاركة وأسباب دعوتهم، يمكن أن يعلي من مصالح القلة على حساب مصالح الأغلبية.
العدالة ضمان لنجاح الحوار الوطني.