شهدت الانتخابات الوطنية اللبنانية في 15 مايو/ أيار، خسارة حزب الله وحلفائه للأغلبية البرلمانية. بينما حققت أحزاب جديدة من المجتمع المدني وحركة احتجاج 2019 نجاحات كبيرة. لكن في النهاية، ظلت القوى السياسية الراسخة -التي تضم كتلة حزب الله وأعدائه القدامى- تسيطر على 90% من المقاعد التشريعية.

مع ذلك، فقد تغير ميزان القوى في البرلمان اللبناني، مع عدم وجود ائتلاف أغلبية واضح، أو مسار سهل لتشكيل الحكومة. فاز حزب الله وشريكه حركة أمل بجميع المقاعد المخصصة للنواب الشيعة. بينما حصل حليفهم المسيحي “التيار الوطني الحر” على 17 مقعدًا من أصل 18 فاز بهم في انتخابات 2018.

في الانتخابات نفسها، حصلت المرشحات من النساء على 8 مقاعد -وهو أعلى رقم حتى الآن في تاريخ الانتخابات اللبنانية- فيما حصد نشطاء الحركة الاحتجاجية -ومعظمهم من الوجوه الجديدة في العملية السياسية- حصلوا على 13 مقعدًا، بعضها يمثل مناطق بعيدة عن العاصمة بيروت.

في عدة حالات، جاءت مكاسب السياسيين الجدد على حساب السياسيين البارزين المرتبطين بكتلة حزب الله، مثل فيصل كرامي، والزعيم الدرزي طلال أرسلان، ورئيس الحزب السوري القومي الاشتراكي أسعد حردان. تعارض هذه القوى الجديدة نظام لبنان الطائفي، الذي يقسم المقاعد البرلمانية -وبعض المناصب الأخرى- بين الطوائف. الكاثوليكية، والسنية، والشيعة، والأرثوذكسية، والدرزية، والعلوية، والإنجيلية.

اقرأ أيضا: المنع والضرب والتهديد.. LADE توثّق أبرز انتهاكات الانتخابات اللبنانية

هل تبشر المكاسب بعصر جديد للسياسة اللبنانية؟

لم يكن المرشحون ذوو الانتماءات غير التقليدية هم الفائزون الوحيدون. فقد حقق حزب “القوات اللبنانية” -وهو حزب مسيحي بزعامة سمير جعجع- مكاسب كبيرة ليصبح أكبر حزب في البرلمان. يضم الحزب الآن تسعة عشر نائباً، بعدما تقدم على منافسه المسيحي الرئيسي “التيار الوطني الحر”. ويرى أن حزب الله يقوض الأمن الوطني والسيادة والتنمية الاقتصادية للبنان.

وفق ديفيد وود الخبير في Crisis Group. فإن هذه القضية تقسم الكتلتين المؤسستين الرئيسيتين في لبنان، بين من يُطالب بنزع سلاح حزب الله وآخر يرفض ذلك. كل هذه النتائج تؤدي إلى صورة غامضة.

يقول: من المؤكد أن أداء القوى السياسية الجديدة يعكس الرفض المتزايد للنخبة الحاكمة في لبنان منذ انتخابات 2018. في أكتوبر/تشرين الأول 2019، عندما اندلعت احتجاجات كبيرة في جميع أنحاء لبنان، ألقى المتظاهرون باللوم على قادة البلاد على مدى عقود من الإهمال والفساد. وقد توجت هذه الإخفاقات طويلة المدى للحوكمة في أزمة اقتصادية طاحنة، يعتبرها البنك الدولي واحدة من أكبر الانهيارات المالية في العالم منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، والتي لا تزال تزداد سوءًا.

لكن، رغم الإصرار الشعبي على التغيير. جعل العمق الهائل للانهيار الاقتصادي العديد من اللبنانيين أكثر اعتمادًا من ذي قبل على الخدمات المادية المختلفة، من الوظائف إلى المساعدات النقدية، والتي كان القادة السياسيون يوزعونها منذ عقود. خاصة بعد أن أدى الانخفاض الهائل لقيمة الليرة اللبنانية إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة، مما أدى إلى تضخم جامح، بمعدل 84.9% في عام 2020 و145 % في عام 2021. إثر انهيار العملة بشكل غير متناسب على اللبنانيين ذوي الدخل المنخفض، الذين يكافحون لدفع ثمن الطعام والأدوية وغيرها من الضروريات. الآن، يقدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة لغرب آسيا أن أكثر من 80% من السكان يعيشون الآن في فقر متعدد الأبعاد.

اللعب على احتياجات فقراء لبنان

يقول وود: “وسط هذه الفوضى، فإن النخب السياسية اللبنانية كانوا في وضع جيد لشراء دعم الناخبين اليائسين. قبل الانتخابات، كثرت التقارير عن أحزاب تقدم أموالاً للمواطنين، وحوافز مادية أخرى، مقابل دعمهم في صناديق الاقتراع. في المناطق الأكثر فقرًا في لبنان، يُزعم أن بعض الأحزاب عرضت على الناخبين مدفوعات نقدية مقدمًا بقيمة مليون ليرة فقط -أقل من 35 دولارًا- مقابل تصويتهم. حالات أخرى، يُزعم أن المرشحين وعدوا بمكافأة الناخبين بتحسين الوصول الفردي إلى الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والوقود والرعاية الصحية. في السنوات القادمة.

يُضيف: ما لم تشرق النظرة الاقتصادية القاتمة، فإن الناخبين المحتاجين سيكونون أكثر ميلًا للاستفادة من شبكات المحسوبية. التي يسيطر عليها القادة الراسخون.

أيضا، ساعد الخوف من العنف النخب الحاكمة على ردع الناخبين عن الابتعاد عن جماعات المعارضة المشكلة حديثًا. في أكتوبر/تشرين الأول 2021، اندلع صراع عنيف بين الجماعات المتنافسة في الطيونة – ضاحية سكنية في بيروت- وأكدت خطابات الأطراف المرتبطة بالحادثة، بما في ذلك حزب الله وحركة أمل، وكذلك خصومهم من القوات اللبنانية. قدرتها على حماية المجتمعات التي يمثلونها، حتى مع تفكك البلد.

يلفت خبير Crisis Group إلى أن هذه النداءات لها وزن خاص في لبنان. حيث لا تزال ذكريات الحرب الأهلية (1975-1990) حية. وفي الوقت الذي تكافح فيه قوات أمن الدولة لدفع رواتب وإطعام الجنود ورجال الشرطة. يشعر الكثير من اللبنانيين أنه في مثل هذه الأوقات العصيبة، من السيئ تغيير الوضع السياسي الراهن.

اقرأ أيضا: انتخابات لبنان.. زورق التغيير يواجه عواصف الاستقطاب (1-3)

كم من الوقت سيستغرق تشكيل حكومة جديدة؟

من المرجح أن يكون تشكيل الحكومة معقدًا ويستغرق وقتًا طويلاً. بموجب الدستور اللبناني، يعين الرئيس رئيس الوزراء الجديد بالتشاور مع البرلمان، ثم يختار رئيس الوزراء مجلس الوزراء الجديد. لذلك، ستستمر الحكومة الحالية بقيادة نجيب ميقاتي في تصريف الأعمال، إلى أن تتفق القوى السياسية في البلاد على من يحل محلهم.

في السنوات الأخيرة، استخدم اللاعبون السياسيون حق النقض ضد المرشحين لتعظيم حصتهم في السلطة التنفيذية. لم تتشكل الحكومات السابقة إلا بعد أن اتفق قادة المؤسسة في الدولة -كل منهم يمثل مجموعة طائفية معينة- على توازن محدد للقوى. حيث يقسم النفوذ بين مختلف الفصائل المتنافسة. هذه المرة، يبدو أن المساومة ستكون طويلة، حيث تتزاحم الأحزاب لتعديل ميزان القوى لصالحها. بعد نتائج الانتخابات.

يرى وود، في تقييمه للآثار المترتبة على الجهود المبذولة لحل الأزمة المتفاقمة في البلاد. أن المخاطر كبيرة بالنسبة للمفاوضات المقبلة. حيث يواجه الزعماء اللبنانيون قرارات تلوح في الأفق بشأن إصلاحات بعيدة المدى، والتي يمكن أن تغير الاقتصاد بشكل جذري. في إبريل/نيسان، أعلن صندوق النقد الدولي عن اتفاق وعد بموجبه بتزويد لبنان بمبلغ 3 مليارات دولار لدعم الاستقرار على مدى أربع سنوات. رهن الصندوق هذا التعهد بإصلاحات تشريعية ومالية يجب أن تكون جارية قبل أن توافق إدارة الصندوق والمجلس التنفيذي على صرف المبلغ.

هنا، قد يكون لشروط الاتفاقية -مثل إعادة هيكلة القطاع المالي ورفع قوانين السرية المصرفية وإصلاح المؤسسات المملوكة للدولة- تداعيات خطيرة على النخب السياسية والمالية في لبنان. سيرغب السياسيون في تأمين تأثير مباشر على الحكومة الجديدة، للتأكد من أن أي إصلاحات لن تؤثر على مصالحهم.

ثمة عامل معقد آخر وهو الحاجة إلى اتفاق النخب السياسية على رئيس جديد بحلول 31 أكتوبر/ تشرين الأول. عندما تنتهي فترة ولاية ميشال عون التي تبلغ ست سنوات. حيث يوقّع الرئيس على جميع التشريعات، ويشغل -اسمياً- منصب القائد العام للجيش اللبناني. يسعى عون إلى تعيين صهره جبران باسيل خلفًا له. لكنه يواجه معارضة شديدة بعد ضمه لعقوبات أمريكية بسبب مزاعم الفساد.

ماذا يعني الفراغ السياسي الممتد للبنان؟

الفراغ السياسي، في شكل مفاوضات مطولة، ومأزق ممتد حول من يحكم البلاد. سيعني أن الانهيار الاقتصادي في لبنان مستمر. وإذا تسارعت وتيرة التدهور الاقتصادي، فمن شبه المؤكد أن المخاطر الأمنية ستستمر في التصاعد. بالفعل، منعت أجهزة الأمن صراعًا واسع النطاق حتى الآن، لكن هذه المؤسسات -التي تعاني من نقص التمويل- تقترب الآن من نقطة الانهيار.

قد تصبح الاشتباكات بين الجماعات المسلحة المتناحرة -مثل ما حدث في الطيونة- متكررة. قد يؤدي الفراغ السياسي أيضًا إلى إذكاء هذه التوترات، حيث يستخدم قادة الطوائف الاستقطاب السياسي للتحريض على العنف. في غضون ذلك، سيكافح رجال الشرطة المرهقون بشكل متزايد لاحتواء الجريمة. في وقت تتزايد فيه عمليات السرقة والخطف من أجل الحصول على فدية بالفعل في جميع أنحاء لبنان.

قد يشكل قادة المؤسسة اللبنانية حكومة جديدة بسرعة، حتى تتمكن من البدء في العمل على التشريعات المطلوبة بشكل عاجل. سيكون على رأس قائمة الأولويات الامتثال لجميع الشروط اللازمة لإطلاق تمويل صندوق النقد الدولي. وقد يُجري القادة أيضًا انتخابات رئاسية فعالة خلال الفترة من 1 سبتمبر/أيلول إلى 21 نوفمبر/تشرين الثاني.

لكن، وود الحذر يرى أن قادة الطوائف “حتى لو قاموا بهذه المهام، فمن غير المرجح أن يتلقى لبنان مساعدة مالية كبيرة قبل أوائل عام 2023. هذه هي الطبيعة الشاملة للإصلاحات المطلوبة. ولكن على الرغم من أن الحاجة إلى إحراز تقدم مُلحة، إلا أن الحقيقة هي أن القادة السياسيين من المحتمل أن يتباطأوا في اتخاذ قرارات صعبة في فترة ما بعد الانتخابات. وستكون الحركة إلى الأمام متراخية.

هل هناك مسار آخر؟

يمكن لثلاثة عشر نائباً في البرلمان -ممن يمثلون المجتمع المدني في لبنان- تشكيل كتلة معارضة جديدة. قادرة على تعطيل العمل التشريعي المعتاد في البلاد لخدمة الإصلاح. يمكن لهذا التحالف أن يساعد في هزيمة مشاريع القوانين التي يعتبرها غير مقبولة. مثل قانون مراقبة رأس المال، الذي من شأنه أن يحابي النخب المصرفية اللبنانية بشكل غير عادل. ويمكن لهذا التكتل أن يدفع إلى تبني التشريعات المطلوبة في القضايا الاقتصادية والاجتماعية، ومراجعة نقدية لأداء المؤسسات السياسية.

لكن، هناك عوائق عملية تحول دون الحفاظ على تماسك مثل هذه الكتلة. بينما يبدو نواب المجتمع المدني موحدين في ازدرائهم للطبقة الحاكمة في لبنان، قد تظهر خلافات أيديولوجية، مثل آراء متباينة حول كيفية حل الأزمة الاقتصادية. وهناك قضية أخرى تتعلق باستعداد كل سياسي للتعاون مع مجموعات مثل “الكتائب” -التي لها تاريخ كميليشيا حرب أهلية- ونواب مستقلين عملوا مع الأحزاب المؤسسة حتى وقت قريب. من المرجح أن يكون الموقف الذي يجب اتخاذه تجاه حكومة، قد تضم ممثلين أو مؤيدين لحزب الله. نقطة خلاف أخرى بين نواب المعارضة الجدد.

مع ذلك، يبدو أنه من الممكن أن يتمكن الفاعلون السياسيون من التغلب على هذه الانقسامات. من خلال تنظيم نواب المجتمع المدني حول مجموعة من المبادئ التوجيهية، التي تسمح بهامش من الخلافات الداخلية حول بعض القضايا، والوحدة في البعض الآخر.