هل رأيت يوما طبقا من الملوخية ابتعد عنك وتركك وحيدا، هل ركض يوما مبتعدا عنك ساندوتش طعمية ساخن. هل أعطتك دجاجة مشوية ظهرها غضبانة منك؟، لم يحدث يوما أن خذلك الطعام. وربما هو الشيء الوحيد في هذا العالم الذي سيبقى معك للنهاية بلا تغيير. بالعكس سيتطور من أجلك ويفاجئك بجديده كل فترة، سيأتيك من كل مطبخ في العالم بنكهة جديدة عليك. ويضيف لأطباقك المصرية غموسا آسيوي غريب ومختلف أو بهارا هندي يصدم مسام تذوقك ويعجبك أيضا.

في فيلم “خرج ولم يعد” يقدم لنا محمد خان خلطته السرية في الانبساط من خلال أسرة كبيرة تعيش في الريف بين الخيرات ووفرة الموارد من أرضهم. يصنعون مأدبة عامرة كل يوم ليس فقط من أجل الضيف بل هي عادتهم مثل مشاهدة التلفزيون بدون صوت في المساء عقب العشاء. الثلاث وجبات أمر مقدس، الأب كمال بيه وضع في بيته قوانينه الخاصة مثل: “إحنا مش بنقوم من على السفرة إلا والأكل ده ممسوح مسح.. مسح”. وكذلك قانون أن الضيف لا بد أن يأكل إفطارا، غداء أو عشاء، حتما سيأكل وجبة وربما أكثر من وجبتين.. لا يضايف بكوب شاي أو فنجان من القهوة.. هي وجبة لا مفر، وكذلك قانون النقنقة بين الوجبات بـ”سوباطة” موز كاملة وبعض كيلوات من البرتقال واليوسفي في انتظار تجهيز الغداء.. أومال هيقعد ساكت كدة؟. وقانون التحلية بعد العشاء سواء بقطعة كنافة بالكريمة أو طبق أم علي، كلها قوانين مرتبطة بالطعام.. وحين يجد عطية يحتويه بين أسرته ويضمه للفريق، فنحسد جميعا عطية الذي يحيا بين كل هذا الخير والراحة والهدوء وإيقاع الحياة الرائق وموسيقى كمال بكير..

لماذا نحب الكريمة والكنافة والبطاطس المحمرة؟

يشرح قاموس أوكسفورد عبارة “الطعام المريح” بأنه “طعام يوفر الشعور بالسعادة. وعادة ما يحتوي على نسبة عالية من السكر أو الكربوهيدرات ويرتبط بذكريات الطفولة أو الطهي المنزلي”.. هذا يُذكرني بأننا نتساءل كثيرا: لماذا السكر والدهون تجعلنا مبسوطين ومتحمسين لبعض المأكولات عن الأخرى؟  لماذا ننجذب لقطعة كنافة بكريمة الشيكولاتة؟ ولماذا نسافر بالساعات من أجل طبق هريسة بالمكسرات؟ ولماذا كنا نسرق فرحين أصابع البطاطس من خلف أمهاتنا وأصابع كفتة الأرز كذلك قبل أن تغمسها في الصلصة؟

يفسر ذلك الدكتور لوكاس أودنهوف من جماعة لوفين ببلجيكا قائلا: “إن التطور يلعب دورا في هوسنا بالأطعمة الدسمة.. لماذا مجددا؟ لأنه في الماضي كانت الأطعمة خاصة الدسمة والسكرية نادرة ولهذا السبب دفعتنا عملية التطور لتناول هذه الأطعمة بقوة”..

(1)

كانت جدتي تعشق الأفراح، حين تعرف أن في آخر البلدة كتب كتاب أو حنة تأخذ في تجهيز نفسها منذ بداية اليوم. تُجلسني أمامها وتجعلني أتفحص وجهها وأخبرها إن كانت تحتاج لإزالة شعر ذقنها أم كله تمام ولا داعي. ثم تُسخن الماء وتجعلني أصبه عليها جالسة على كرسي في “طست” كبير. ثم كذلك أقسم لها شعرها ضفيرتين متساويتين خاصة من الجزء الخلفي الذي لا تراه. وتتعطر وتلبس جلبابها الأسمر “رمش العين” على جلباب قطن أسفله. تربط المنديل على رأسها وتطلب مني أن أناولها الطرحة الحرير الطبيعي التي كانت لا تخرج بها إلا في المناسبات. تأخذ ملعقة من دوائها وتضع لبانة “سمارة” في منديلها في يد وتسحبني خارجة بيدها الأخرى. وتذهب قبل جميع المدعوات وتدخل بكل حميمية لتخلع جلبابها الغالي وطرحتها وتجلس أمام طبق كبير به دقيق تبرمه حبات لتصنع “كسكسي” مغربي. سُيقدم مسقي بالشوربة مع اللحم في عشاء الضيوف، وحين تنتهي من مهمتها تعاود ارتداء ملابسها ونخرج لنجلس بين النساء. وتمسك بالطبلة أيضا أحيانا حين يأتيها الدور وتغني وأصفق أنا. كانت دائما تُدعى لسببين: لأنها تبتهج للأفراح ولأنها ماهرة في صنع الكسكسي..

هل نتبسط معدتنا فقط بالطعام؟

شيرا غابرييل الأستاذة المساعدة في جامعة ولاية نيويورك في بوفالو بالولايات المتحدة في دراستها لارتباطنا العاطفي بالطعام. تقول “إن علاقتنا ببعض الأطعمة ترتبط بالتجارب الإيجابية المتفائلة التي مررنا بها. وأن أدمغتنا تتحايل بتلك الارتباطات الإيجابية لتحسين مزاجنا عبر تناول هذه الأطعمة، ويمكن تنشيط هذه الارتباطات ومنح النفس دفقة من المشاعر الإيجابية والرضا”.

يبدو أن المزاج يتحسن والأدمغة تقودنا لهذه الأطعمة وتدفعنا لها في أوقات نكون محتاجين فيها لتحسين المزاج والأنبساط والابتعاد عن الأجواء السلبية. تتابع غابرييل: “عندما تتناول الطعام، لا يحفّز ذلك ذاكرتك فحسب بل أيضًا المشاعر التي انتابتك. مثل الحب والشعور بالأمان والرضا وقت أن تناولت هذه الأطعمة”.

(2)

كانت لدينا طبلية، وحين أنكسرت ذهبنا أنا وجدتي لسوق الثلاثاء أو سوق ساقية مكي وأشترينا أخرى وعدنا طوال الطريق وهي تحملها على رأسها. فيما بعد صارت هذه الطبلية تحمل أحلى ذكرياتي، منظر يديها المتعرقة لا يفارقني وهي تفرد عليها الفطير المشلتت الذي تشتهر به كسيدة ريفية من المنوفية. وطريقتها في فرده بدون أن ينقطع ونصائحها لي كيف أفعل ذلك وكيف أطبقه بطبقات من الزبد السايح. الذي يجعل يديها وخاتمها الفضة تلمعان، وأيام أخرى نبطط عليها قطع من الخبز الصغير المعجون باللبن الرائب “فيه شوية لبن رايبين يا حنان.. يالا نعمل مقلي” وأقف أنا أمام طاسة الزيت أقلي وحدات العيش ونأكلها ساخنة بالعسل أو الجبن كوجبة صغيرة بين الوجبات. أو حتى كوجبة رئيسية في أيام لا يوجد فيها طعام كثير في البيت، كانت تتفنن في صنع الوجبات من لا شيء. ذات مرة صنعت لنا “رِجلة” بقليل من المرق وقطعة بصل وفصين توم وكانت من أحلى الوجبات.

حين كنت أعيش معها في إجازات الصيف في البلد كانت تجلس أمام الباجور لتطهو أولا الفرخة ثم بعدها حلة من المكرونة المحمرة. ثم تعود لتحمر قطعتين من الفرخة، كانت تطهو بترتيب ومزاج.. علمتني دون أن تقولها أن الترتيب والإعداد أهم خطوة.. فصرت فيما بعد أهتم بتنقية الخضار وبطرق تخزينه في مواسمه. تعلمت التخليل منها والفطير المشلتت والكسكسي والأرز بلبن والطبيخ المثالي مظبوط التقلية. تعلمت بالمراقبة أن الطعام ليس فقط ملأ معدة وسد جوع وإنما فعل مرتبط بالبهجة.. بهجة إعداده وتكوينه وبهجة رؤية الأخرين يتذوقونه بسعادة ورضى.. وأنه لا يهم ماذا نأكل بل المهم كيف نصنعه وما هي الإضافات التي تصنع فارق. حركات اليدين في التقطيع والفرد والعجن والتقليب مهارة لا يجيدها كثيرون.. القدرة على التمهل والتأني في الخطوات لا يعرفها كثيرين، حكمة متى نضيف هذا المكون لا تأتي بالصدفة. معرفة ماذا يحتاج الطبق من رائحته أو صوت أزيزه خبرة تحتاج روقان وأذن جيدة. حين وقفت في حصة التدبير المنزلي في الصف الخامس الابتدائي أقلب لميس هبة مربى الفراولة نظرت لي وقالت لبقية البنات: “شايفين بتقلب إزاي؟ قلبوا زيها كدة” يومها عرفت أني أمتاز بشيء ما أكتسبته من مراقبة جدتي.

(3)

حين وجد عطية مكانا يمارس فيه هوايته وهي دراسة الزراعة من خلال مراقبة الجنائن واسداء كمال بيه النصائح للتخلص من بعض الأصابات بأشجار الفاكهة. بدأ يرتاح ويهدأ إيقاعه ويستطعم طبق البيض الكبير على الفطور فاعترف لكمال بيه بذلك: “أنا مش عارف الحقيقة دي كانت غايبة عني إزاي؟” فيخبره كمال بيه:” الأكل ده نعمة من نعم ربنا ولذة من لذائذ الحياة الكبرى.. مش مهم تاكل أكل غالي أو رخيص المهم تتمتع بالأكل.. أنا ممكن أعملك طبق فول مدمس أطعم  وألذ من ديك رومي”.

دائما ما أخبر أصدقائي –بهزار- حين يخبروني عن مشاكلهم العاطفية أننا يجب أن نكف عن حب الأخرين ولا ندخل علاقات عاطفية مجددا. ونكتفي بطبق من الملوخية أو صينية رقاق، ربما أكون ضاحكة ولكنني بت أؤمن أن الطعام يُحسن من الحالة المزاجية. فهو شيء ممتع مباشر وواضح وسهل لا يحتمل معنيين، فطبق الكنافة ليس طبق مخلل متخفي ولا الفرخة المشوية  قطعة من البيتزا بتضحك عليك.. كل شيء واضح وبسيط وسيتركك سعيدا.. المهم أن نعرف ماذا نأكل وأيضا متى نأكل؟ وان تفهم ماذا يحتاج جسدك الأن وماذا يريد مزاجك..