لم تكن جملة “ياما أنتم ممتعين نفسكم يا أهل البندر” نصًا فنيًا عابرًا في فيلم “الأرض”. بل تجسيدا متقنا للفارق الكبير بين نمط الاستهلاك في القرى ونظيره في المدن المصرية. وقد كان المجتمع الريفي في مصر يعيش حالة من الاستقلالية في تنظيمه الاقتصادي والاجتماعي. الأمر الذي كان ينعكس على أنماط سلوكياته الاستهلاكية، بما يحفظ له شيئًا من الثبات حتى مع الاهتزازات الاقتصادية التي كانت تمر بها المدن.
لسنوات طوال اعتمدت القرى المصرية على نمط الخلية الإنتاجية التي تضم والدين وأبناء يتشاركون العمل الزراعي في قطعة أرض مملوكة لهم، يعيشون على ريع ما تنتجه. وقد تشكلت مع هذا النمط أنشطة اقتصادية معاونة من تربية حيوانات وطيور وأغنام. إلى جانب صناعات اعتمدت على العوائد والمخلفات الزراعية. ومنها صناعة الحصر والفخار والحرف القائمة على مخلفات النخيل والغزل والنسج اليدوي والحياكة، التي كانت تحقق عائدًا ماديًا مساعد للأسر الريفية.
لكن وعلى مدار نصف قرن منذ منتصف السبعينيات وبداية الثمانينيات، تمدنت القرى وشهدت تغيرًا كبيرًا طرأ على شكل المنازل البسيطة المبنية بالطوب اللبن والقش، فتحولت إلى كتل خرسانية صماء، فشلت في التعبير عن قاطنيها الذين اعتادتهم قراهم. ومن ثم حدث التغير في هوية سكان الريف، واكتسبوا خصائص وقيمًا بدلت مجتمعهم المستقل اقتصاديًا، فتحول إلى آخر بنفس سمات التأرجح بين أنماط الاستهلاك القادمة من المدينة. فيما عُرف بظاهرة “الزحف الأحمر”؛ لون طوب المباني الذي جرف وطغى على اللون الأخضر الزاهي للأراضي الزراعية بالقرى.
الريف المصري.. الهجرة والتحول
في 1947، شكل سكان الريف المصري ما نسبته 69% من جملة السكان. فيما شهدت السنوات اللاحقة تراجعًا مضطردًا في نسبة هؤلاء السكان. فوصلت في عام 1960 إلى 62.3%. ثم إلى 56.2% في عام 1976. قبل أن ترتفع مرة أخرى إلى 57.6% في تعداد عام 2017، الذي أشار إلى عدد القرى في مصر بـ 5660 قرية.
في مقال سابق نُشر في العام 2021، يفسر مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية جمال عبد الجواد هذا التحول. فيقول إن “التحضر المتزايد هو ظاهرة شاملة في كل دول العالم بلا استثناء تقريبًا. وهو مع التصنيع والتعليم يكتسب قوى دافعة نحو تحديث المجتمعات”.
ووفق عبد الجواد، فإن أسرع معدلات التحضر نجدها فى البلدان النامية في قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. لأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية السريعة في هذه البلاد تشجع السكان على الهجرة من الريف إلى المدن؛ بحثًا عن الوظائف والتعليم والترفيه والخدمات. أما فى البلاد المتقدمة فى أوروبا وأمريكا الشمالية، التي حققت بالفعل مستوى عاليًا جدًا من التحضر، فإن معدلات زيادة سكان الحضر تكون محدودة جدًا. ذلك نظرًا لاستقرار الهياكل الاقتصادية والاجتماعية. بالإضافة إلى توافر مستوى مناسب من الخدمات في الريف.
وفي مصر، ساهمت عوامل عديدة في تحول القرى من البساطة الإنتاجية إلى التعقيدات والتشوهات الاستهلاكية. كان أبرزها هجرة الأيدي العاملة بالزراعة إلى دول الخليج. ومن ثم نقل قيمها الاستهلاكية إلى المجتمع المصري. وقد ساهمت رؤوس الأموال المحولة من الخليج إلى القرى في إنشاء الأنشطة التجارية ذات العائد السريع؛ فعرفت القرية مصطلح “السوبر ماركت – والمول”. ومع زيادة السيولة المالية، تخلت العديد من الأسر عن سلوكياتها الإنتاجية في توفير احتياجاتها الأساسية، واتجهت إلى شرائها.
أثر الانفتاح وعودة رأس المال
يشير أستاذ التاريخ الاجتماعي بجامعة القاهرة، الدكتور عاصم الدسوقي، أيضًا إلى دور التوجهات الاقتصادية التي تلت عصر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، تحديدًا من سنة 1970 أو ما يسمي عصر “الانفتاح الاقتصادي”؛ عندما تخلت الدولة عن دور الإنتاج، فلم يعد المجتمع المصري ككل منتجًا. وهو يرجع ذلك إلى ما اعتبره عودة رأس المال إلى الحكم، ونظام الاستثمار تحت غطاء الحرية الاقتصادية.
ويوضح عاصم أن نظام الملكية في الريف كان قائمًا على ملكية العائلة غير القابلة للانقسام في ارتباطها بالنظام القبلي السائد قبل فترة السبعينيات. وهو نظام يخضع لقواعد الأعراف المتأصلة في المجتمع الريفي، ويرمي إلى حمايتها بواسطة مبدأ المشاركة من كل ممارسة تؤدي إلى إخراج أحد أطراف العملية الإنتاجية من نطاق الجماعات الريفية. بمعني أن كل حلقة تعتمد على الأخرى، وتتمسك بالريف، لا تتخلى عنه بقوة العرف والعادات.
ووفق عاصم، فإنه “بعد سيطرت الهجرة إلى بلاد النفط على الأحلام الاقتصادية لعمال القرى، أصبحنا أمام نموذج جديد للقرية المصرية”. وهذا النموذج يحمل ملامح اقتصادية ومالية واجتماعية جديدة ومختلفة كلية. ما كان له عظيم الأثر على طبيعة الاستهلاك في الريف المصري، فحدث خلط ثقافي من الخليح، وتأثر العائدون بنقل عادات استهلاكية تخلوا من النمط الإنتاجي الأصلي لسكان القرى؛ فانهار النظام الريفي القبلي القديم.
كذلك، فإن دورة المكاسب انتقلت من النظام الموسمي إلى الشهري. وانتقل معها الهرم الاجتماعي من أسفل السلم إلى أوسطه وأعلاه. ومعه تحول التنوع في العمل إلى تنوع في الملكية. وقد مولت تيارات الدخل المتدفقة للقرية من مراكزه الجديدة النمط الاستهلاكي الجديد من مأكل وملبس وحتى على المستوى الخدمي في الصحة والتعليم. فلاحظنا مظاهر السلوك الترفي داخل القرية، وبدأ التخلي التدريجي عن الإنتاج والادخار، على حد تفسير أستاذ التاريخ الاجتماعي بجامعة القاهرة.
كيف تفتت الريف المصري؟
يقول الدكتور أحمد زكي، الأستاذ بمعهد بحوث المحاصيل السكرية، إن زيادة نسب التعليم بين أبناء القرى أحد أهم الأسباب في اختراق النظام القبلي الأبوي في الريف المصري. فازدياد الوعي خلق دوافع الاستقلال المادي عن الأسرة. كما فتح التعليم الباب لإنتاج أسر جديدة من الأبناء العاملين في مهن أخرى تحقق الرقي المجتمعي غير الزراعة.
كما كان لتفتيت الحيازات الزراعية وتقسيمها دور مساعد.
يضيف الدكتور أحمد زكي إنه وفق قانون الإصلاح الزراعي في أعقاب ثورة 1952، بلغ متوسط الحيازة للأسرة من 2-5 أفدنة. ما ترتب عليه منطقيًا تفتت هذه المساحة الضئيلة بالتقسيم ما بين الورثة من الجيل الأول ثم الثاني والثالث من الأبناء، حتى وصلت الحيازات إلى عدد محدود من القراريط، انخفضت معها العوائد المادية الناتجة عن النشاط الزراعي.
وبينما غاب التنظيم عن الأنشطة الاقتصادية القروية، وانتقل من القرية إلى مراكز المدن القريبة، استمر التضخم السكاني في الريف مدعومًا بقوة الروابط الاجتماعية والأعراف والثقافة السائدة. وهو ما خلق الحاجة إلى التوسع العمراني داخل القرى. ومن ثم بروز ظاهرة البناء عشوائي.
يضيف زكي أنه مع التنافس على الرقعة الزراعية من حيث السكن، زاد التعدي على الأراضي الزراعية. خاصةً بعد إلغاء القضاء العسكري في مسائل التعدي على الأراضي الزراعية في فترة السبعينيات، والاقتصار على تحرير محاضر وغرامات.
ظاهرة “أشباه المزارعين”
وقد أنتج التطور الاجتماعي الذي شهدته القرية وزيادة نسبة المتعلمين بها وارتباطهم بوظائف أخرى ما اعتبره “زكي” ظاهرة “أشباه المزارعين”. فلم تعد الزراعة تمثل محور حياة هؤلاء والنشاط الأساسي لهم. بل مجرد نشاط مساعد للوظيفة. وأفقد التمدن القرية ميزة البساطة في العلاقات والشكل المعماري؛ فتقلصت أيضًا الأنشطة الإنتاجية المعاونة.
ويرى محمد برغش، رئيس اتحاد الفلاحين سابقًا، أن إلغاء الدورة الزراعية ساعد أيضًا في تسريع التحول إلى النمط الاستهلاكي. فالدورة كانت تلزم الفلاح بزراعة أصناف محددة تشتريها الدولة. لكن عندما حررت الدولة القطاع الزراعي انتهى نظام الدورة هذا، وأصبح الفلاح عاجزًا عن تصريف منتجه، ولم تعد هناك قدرة على إقامة أنشطة اقتصادية معاونة.
وكان للتقدم التكنولوجي وغياب التوعية الإعلامية دور كذلك في هذا التحول. يقول عبد الفتاح شرارة، أمين الصندوق بالجمعية المركزية للتعاونيات بمحافظة الغربية، إنه منذ عرف “الدش” طريقه إلى القرى، انهارت القيم الاقتصادية للقرية. فاعتمد أهلها على التقليد في الشراء. كما عزفت الأسر عن إعداد الخبز بالمنازل، واعتمدت على الفرن الآلي والسوبر ماركت وتحولت إلى سلوكيات الحضر.
توصيات لإخراج الريف المصري من أزمته
يقول الدكتور أحمد زكي إن الرقعة الزراعية القديمة البالغة 8 ملايين فدان، والتي كونها النيل في 13 ألف سنة، تم إهدار ما يقرب من ربع مساحتها في أقل من قرن، بفعل الزحف العمراني. ما يتطلب إعلان منطقة الوادي والدلتا محمية طبيعية. مع تغليظ عقوبة التعدي عليها.
كما يوصي بضرورة إعلاء قيمة المزارع وتعظيم دوره وتقديم محفزات لتشجيعه على الاستمرار في النشاط. بالإضافة إلى دعمه بالخدمات المعاونة. فضلًا عن تقديم قروض ميسرة له لإعادة التشغيل وتحقيق عائد يجذب السكان مجددًا للنشاط الزراعي.
كذلك يشير الأستاذ بمعهد بحوث المحاصيل السكرية إلى ضرورة الاهتمام بإعادة تدوير عوائد المحاصيل، مثل الذرة والقصب والأرز والقطن في دورة إنتاج جديدة كصناعة الأعلاف وغيرها. ذلك بتوفير الآلات اللازمة في مراكز تجمع بين القرى. بما يخدم عملية التوسع في الإنتاج الحيواني.
ولا يغيب عن ذلك أهمية دور الإرشاد الزراعي وتدريب المزارعين على الطرق والوسائل الحديثة لإنتاج أفضل الأصناف الزراعية. وهو ما يتفق معه محمد برغش، الذي يطالب بإعادة صياغة قانون لهيكلة التعاونيات. بحيث يكون لها دور داعم في عملية الإنتاج بتوفير مستلزمات الزراعة والأنشطة المعاونة، وخلق منافذ تسويقية لها. مبينًا أن الرئيس أشار في إحدى لقاءاته إلى مشروع تجميع الألبان. لكن لم توضع له بعد البنية الأساسية من توفير معدات وخطوط الإنتاج لتشجيع المزارعين على المشاركة.
ويشيد برغش بتجربة تونس والمغرب والجزائر في التعاونيات التي تقوم بدور تشاركي مع أوروبا في تسويق وتوزيع منتجات الألبان المحلية، من خلال مراكز تجميع من الفلاحين، كل فرد حسب إنتاجه، ثم تصديره، وصولًا إلى تسويق المحاصيل الزراعية. بينما يشير إلى أهمية حصر الحرف المرتبطة بالبيئة الزراعية، مثل صناعة الحصر والأقفاص والكليم وغيرها.
كما يوصي بربط الحصول على القروض بالإنتاج في نفس النشاط الذي تم على أساسه التمويل، وتكوين فرق عمل لاستغلال موارد البيئة الزراعة كما كان يفعل الفلاح المصري سابقًا بإعادة التدوير في صناعات أخرى.