يمر اليوم شهر كامل منذ دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى حوار وطني شامل حول مستقبل البلاد. ويمكن القول إن الحوار بدأ ولم ينقطع منذ تلك اللحظة -وإن بصفة غير رسمية بعد.
ويمكن القول أيضا إن هذا الحوار غير الرسمي امتد إلى كل محفل وشارك فيه كل مهتم. سواء المؤيد للنظام أو المعارض أو المؤيد لبعض السياسات والمعارض لبعضها الآخر. أو المتحفظ المترقب دون تأييد صريح أو معارضة صريحة. وذلك على صفحات الصحف وعلى الشاشات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. وبالطبع في داخل كل حزب سياسي وبين الأحزاب وبعضها. بل وفي المجالس الخاصة والعائلية.

لا أعرف ولا أظن أحدًا يعرف ما إذا كانت الجهة التي كلفت بالإعداد للحوار الرسمي وإدارته قد اهتمت برصد وتحليل ما جرى حتى الآن من تلك الحوارات حول الحوار المدعو له من رئيس الجمهورية نفسه أم لا. لكنه يبقى منطقيا أن نفترض أن شيئا من ذلك حدث. إن لم يكن لوضع أجندة مناسبة لاهتمامات بقية الأطراف فمن باب التعرف إلى الاتجاهات والتوقعات والممكن وغير الممكن لتكون الصورة واضحة في خلفية ممثلي الحكومة. أو من يصدرون التعليمات اليهم.

علي أي حال فمن متابعتي على قدر الطاقة لما كتب أو قيل وإذا استبعدنا المتشائمين بالمطلق فهناك من توقع انفراجا شاملا في الحالة السياسية الداخلية. يبدأ بإطلاق سراح المحبوسين احتياطيا والمسجونين في قضايا سياسية لا تتضمن استخدام العنف أو التهديد به. ويصل إلى الحريات السياسية في التنظيم والتعبير والاجتماعات وتعديل قانون الحبس الاحتياطي ثم نزاهة الانتخابات بدءا بالانتخابات المحلية المؤجلة. بل بلغت ثورة التوقعات بالبعض حد المطالبة بمراجعة التعديلات الدستورية أو على الأقل طرح فكرة المراجعة للنقاش على مائدة الحوار.

ثم تطرق بعض هؤلاء إلى وجوب إدراج ما يسمى “التحديات الخارجية” التي تواجهها البلاد في أجندة المتحاورين. وفي مقدمتها بالطبع السد الإثيوبي على النيل. والمحاور الإقليمية الآخذة في التبلور. والأوضاع الدولية القلقة وتأثيراتها الحالية والمتوقعة على مصر.

وكما رأينا فقد رأى فريق آخر من شركاء هذا الحوار غير الرسمي أن تلك المطالب أو التوقعات تتضمن بنودا تعجيزية أو غير واقعية. مثل إعادة النظر في التعديلات الدستورية وإطلاق الحريات كافة. أو تتضمن بنودا يصعب عمليا إدراجها في المرحلة الأولى من الحوار نظرا لحساسيتها مثل قضية مياه النيل أو الموقف من المحور الإسرائيلي الخليجي. والمحور الشيعي المكون من إيران وسوريا (وروسيا) وحلفائها المسلحين في لبنان والعراق واليمن. في حين ركز فريق ثالث على مطالبة الحكومة بمبادرات لبناء الثقة وتخفيف الاستقطاب والاحتقان. وأبرزها بطبيعة الحال تصفية حالات الحبس وسجن السياسيين والتزام الإجراءات الأمنية من تحرٍ وقبض واستجواب بالقانون والشفافية.

يتوقع القارئ مني اإداء الرأي في كل ذلك ولكني سوف أبدأ من نقطة مختلفة. أو في الحقيقة سأعود إلى ما سبق لي قوله هنا بتاريخ 25 أبريل الماضي تحت عنوان “حوار الخطوة خطوة“. والذي اقترحت فيه التركيز في المرحلة الأولى على الأزمة الاقتصادية بوصفها المشكلة الأكثر إلحاحا وضغطا على الحكومة والمجتمع معا. وبوصفها المحرك الأول لدعوة الحوار. وهي مكونة من عنصرين:

الأول عبء المديونية الخارجية والثاني عبء أسعار الضروريات وتوفيرها في الأسواق بغض النظر عن الأسباب الخارجية والداخلية لتعقد هذه المشكلة في الفترة الأخيرة. أي منذ نشوب الحرب الروسية-الأوكرانية.

فمن الواضح أن الحكومة شرعت بالفعل في تطبيق ما اختارته من حلول لأزمة عدم كفاية الموارد بالعملات “الصعبة” لتدبير احتياجات السوق من الضروريات المستوردة من ناحية. ولسداد مستحقات الدائنين الأجانب من ناحية أخرى. على نحو ما رأينا في المؤتمر الصحفي المهم لرئيس الوزراء.

وهي حلول ترتكز على مبدأ خصخصة شركات ومرافق عامة. إما بالبيع في البورصة وإما بالبيع لمستثمر رئيسي. بالاضافة طبعا إلى المفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي حول قرض جديد يغطي احتياجات الفترة الحرجة ما بين مواعيد الاستحقاقات العاجلة وبين مواعيد تحصيل العائد المنتظر من عمليات الخصخصة سابقة الذكر.
في رأيي أن هذه الحلول هي ما يجب أن يجري حوله الحوار الرسمي وغير الرسمي من النواحي الفنية ومن النواحي السياسية على السواء. وربما يأذن لي القرّاء باستعادة بعض ما ذكرته هنا -أو في منصات أخرى- فهل الأفضل أن نجتهد في تنفيذ مبادرة الدكتورة نادية هنري التي عرضتها في مقالي السابق مباشرة هنا لتأسيس كيانات اقتصادية من المصريين في الخارج تشتري أسهم الشركات العامة التي ستطرح في البورصة؟ وكيف يتأتى ذلك؟ وكيف يمكن ألا يأتي العاجل محدودا ومؤقت الأثر على حساب الآجل الممتد الأثر؟

بمعنى كيف يمكن إقناع المستثمر الأجنبي المستعد لشراء أصل منتج ومربح بالفعل بتأسيس أصل جديد إضافي أو موازٍ؟ و هل تعامل المواني مثلا بمعاملة الشركات التجارية نفسها؟ وكيف يمكن من خلال الدبلوماسية تخفيف أعباء الديون؟

مثلا من خلال مجريات الحوار غير الرسمي اقترح وزير الصناعة والتجارة الأسبق منير فخري عبد النور أن تطلب مصر إعادة جدولة ديونها. فيما رفض الدكتور زياد بهاء الدين -نائب رئيس الوزراء الأسبق للشؤون الاقتصادية- هذا الاقتراح. متخوفا من فرض شروط صارمة علينا من قبل أولئك الدائنين مقابل إعادة الجدولة. ومفضلا إعادة النظر في أولويات الإنفاق الحكومي والتركيز على التشغيل والإنتاج لزيادة الموارد وسداد الديون.

ولعلي أضيف هنا أن قرارات أو مشروعات الاستثمار الإنتاجي التي تقوم بها الدولة تحتاج هي نفسها إلى أوسع نطاق من مشاركة الفنيين والسياسيين. تفاديا لإهدار الموارد المحدودة أصلا في مشروعات بلا جدوى حقيقية. وهو ما يجب أن يشمل أيضا بعض المشروعات قيد البدء. والتي يتحفظ عليها العلماء والفنيون المختصون غير المغرضين سياسيا.

ولعل ما جرى من قبل في مشروعات توشكي وحديد أسوان وفوسفات أبو طرطور يكفي لعدم تغليب السياسي على العلمي.

في هذا السياق يتطلب الحوار بيانات تفصيلية بموقف المشروعات المتفق على جدواها المؤكدة والجديرة بالأولوية القصوى. مثل مشروع تنمية إقليم القناة ومشروع المنطقة الصناعية في خليج السويس نفسه.

وربما يكون من المناسب التساؤل حول إمكانية ووجوب اجتذاب المستثمرين الأجانب -عربا كانوا أو من جنسيات أخرى- ممن يستعدون لشراء شركات قائمة ورابحة بالفعل نحو إقليم القناة وخليج السويس. مع إعطاء الأولوية للمصريين في الخارج وشركاتهم لشراء تلك الكيانات القائمة والرابحة.

وبالطبع فهذا مثال واحد يمكن تعميمه على ميادين الطاقة الجديدة والزراعة والتصنيع الزراعي وغيرها.

عند هذا الحد سيواجهنا سؤال عن مدى استعداد الحكومة للحوار حول هذه المقترحات والحلول الاقتصادية؟. وعن صلة حوار محدد الموضوع كهذا بدعوة الحوار السياسي الشامل؟.

بالطبع ليس لدي إجابة. وما أظن أن أحدا لديه إجابة نهائية. ولكن المؤكد أن للأزمات حسابات مختلفة. وأن تكتيك الحوار من أجل تمرير السياسات المقررة سلفا ليس مضمون النجاح في كل مرة. كما حدث في الحوار حول التعديلات الدستورية. خاصة عندما يتعلق الأمر بلقمة العيش.
وأما قضايا الإصلاح السياسي الشامل فلعل التوافق على حلول للأزمة الاقتصادية الضاغطة الآن بقوة وتصفية حالات الحبس والسجن السياسي يكونان بداية لبداية جديدة. وإن كان الحذر من المبالغة في التفاؤل مطلوبا في كل الأوقات.