ربما أغرى فوز ابن ديكتاتور الفلبين الراحل فرديناند ماركوس بمعركة الرئاسة في بلاده قبل أسبوعين، جمال مبارك الابن الأصغر للرئيس المصري الراحل بالعودة إلى المشهد السياسي. وربما أغراه بذلك رسالة الرئيس عبد الفتاح السيسي التي دعا فيها إلى حوار سياسي وطني شامل؛ فتصور أنه قد يكون أحد الأطراف المشمولة بالدعوة. على اعتبار أن مائدة الحوار ستشمل كل القوى السياسية “دون تمييز ولا استثناء”.
ماركوس الابن – الشهير بـ “بونج بونج” – خاطب الشعب الفلبيني بعد أن نجح في استعادة السلطة التي فقدتها عائلته قبل 36 عاما إثر ثورة شعبية دامية أطاحت بوالده. قال: “لا تحكموا علي بما فعله أهلي، وإنما احكموا على أفعالي!”. أما مبارك الابن فأعلن في بيان مصور نشره على “يوتيوب” في 17 مايو الجاري، انتصار عائلته في معركتها الأخيرة بعد انتهاء جميع إجراءات التقاضي الدولية في قضية الأموال المهربة، التي بدأت عقب تنحي والده عن السلطة. وهدد بأنهم -أي الأسرة- لن يصمتوا بعد الآن على التقارير التي تنال من سمعتهم.
رسالة ماركوس الابن بعد فوزه حملت مضمون تصالحي. فابن الديكتاتور السابق طالب الشعب الفلبيني بطي صفحة الماضي والتعامل معه كرئيس منتخب يُسأل عما يفعل. أما جمال مبارك ابن الرئيس المصري الراحل والذي أفشلت ثورة 25 يناير مشروع توريثه حكم البلاد، فخرج يهدد ويتوعد، مزهوًا بالانتصار الذي حصل عليه نتيجة تقاعس الحكومات المصرية في تقديم أدلة تثبت أنه وأباه وأخاه جمعوا ثرواتهم نتيجة استغلال سلطة ونفوذ الوالد الرئيس. فصدر حكم من محكمة العدل الأوربية برفع التجميد عن أموال عائلة مبارك. ليس بعد التأكد من أنها أموال مشروعة. ولكن لأن المعنيون بأمر استعادة هذه الأموال المنهوبة لصالح الشعب لم يبذلوا الجهد الكافي لتأكيد عدم مشروعيتها.
تناسى مبارك الابن أنه حتى تاريخه لم يحصل على رد اعتبار في قضية فساد القصور الرئاسية التي أُدين فيها هو وشقيقه علاء. وعليه لا يستطيع ممارسة حقوقه السياسية. إذ أنها من القضايا المخلة بالشرف.
تسرع وبادر بالخروج لمواجهة الشعب الذي خلع والده، مُعلنًا براءة ذمة الأسرة التي حكمت مصر لنحو 3 عقود، وتسببت في تجريفها وتخريبها وتحويل معظم مرافقها إلى “كُهن حتى يستمروا على الكراسي”، بتعبير الرئيس السيسي قبل شهور.
لم يقف جمال مبارك أمام درس ماركوس الابن الذي سيدخل قصر مالاكانيانج الرئاسي في العاصمة الفلبينية مانيلا بعد تتويجه رئيسًا للبلاد نهاية الشهر المقبل. فابن ديكتاتور الفلبين السابق يعمل منذ بداية التسعينيات على هدفه باستعادة منصب أبيه، الذي هرب من البلاد بعد الإطاحة بحكمه في انتفاضة شعبية عرفت بـ”الثورة الصفراء” عام 1986.
هرب ماركوس الأب من مانيلا بطائرة متوجهًا إلى ولاية هاوي الأمريكية ولحقت به أسرته ومعهم ثورة طائلة من الأموال والأحجار الكريمة والمجوهرات كَنزوها خلال فترة حكم الديكتاتور للفلبين، والتي دامت نحو 20 عامًا.
بعد وفاة ماركوس في هاوي بنحو عامين، سمحت الرئيسة الفلبينية السابقة كورازون أكينو بعودة الأسرة إلى مانيلا عام 1991، ومنذ وصولهم للبلاد تأهبت عائلة ماركوس لاستعادة سلطتها الزائلة. وشارك أفرادها في العديد من الاستحقاقات الانتخابية وتمكنوا من الوصول إلى مواقع سياسية داخل معقلهم بولاية إلوكوس نورتي. بعد أن خاضوا عشرات المعارك القضائية لاستعادة ثروتهم المصادرة.
انتصار ماركوس الابن برئاسة الفلبين جاء بعد حملة انتخابية اتسمت بانتشار واسع للأخبار المضللة التي تهدف إلى غسيل سمعة العائلة، وتصوير الحقبة التي حكم فيها والده البلاد على أنها مرحلة ذهبية عمها السلام والازدهار، وليس باعتبارها فترة أحكام عرفية تتسم بانتهاكات فادحة لحقوق الإنسان تعرض فيها آلاف المعارضين للقتل والتعذيب والسجن، وفي مقدمتهم بينيو أكينو زوج الرئيسة الأسبق كورازون أكينو الذي تم اعتقاله لسنوات ثم اغتياله في مطار العاصمة مانيلا عام 1983، كما عانت فيها الفلبين من الفساد والانهيار الاقتصادي.
بدأ ماركوس إعداده نفسه لموقع الرئاسة بحملة غسيل سمعة انطلقت قبل عقد من الزمن شاركت فيها شركات تسويق متخصصة، عملت تلك الشركات على بث مئات من مقاطع الفيديو التي أعيد تحريرها فنياً بشكل مخادع ثم نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي.
ورغم مصادرة لجان قضائية نحو 4 مليارات دولار من ثورة آل ماركوس التي قدرت بنحو 15 مليار دولار تم جمعها باستغلال السلطة والفساد، إلا أن الفيديوهات المخادعة التي نشرت في العقد الأخير، نجحت في إقناع ملايين الفلبينيين بأن تشويه سمعة أسرة الديكتاتور السابق بعد سقوطهم كان غير عادل، وأن قصص الجشع التي لا مثيل لها كانت غير صحيحة.
حملة التضليل الموالية لماركوس استفادت من خيبة أمل عامة واسعة النطاق بسبب إخفاق أنظمة الحكم التي أدارت البلاد بعد عام 1986 وفشلها في تحسين حياة الفلبينيين الأكثر فقرًا، وتمكن بونج بونج من تصوير نفسه على أنه مرشح التغيير، الذي يملك مفاتيح السعادة ووحدة البلاد التي سئمت الاستقطاب السياسي والمتعطشة لوضع أفضل.
نجح بونج بونج بعد أكثر من 30 عامًا على زوال حكم أبيه من استعادة السلطة، مستغلا فشل الأنظمة المتعاقبة في رفع مستوى معيشة الملايين من أفراد الشعب الفلبيني، واستطاع بالثروة الطائلة التي جمعتها عائلته إبان حكم والده أن يشتري ولاءات ساسة وإعلاميين ساعدوه في في تبييض سمعته وغسل تاريخ الأسرة الأسود، وتمكن أيضًا من تزييف التاريخ ودس الأكاذيب على مواقع التواصل الاجتماعي لتصدير صورة مغايرة للأجيال الجديدة التي لم تعاصر حكم الأب.
رغم تشابه المعطيات والظروف بين الفلبين ما بعد “الثورة الصفراء” ومصر ما بعد ثورة 25 يناير، إلا أن النتائج لن تكون واحدة بالضرورة، فحلم عودة ماركوس الابن إلى رأس السلطة في الفلبين لم يتحقق إلا بعد 30 عامًا، أي أن الأجيال التي عاصرت فساد واستبداد الأب لم تعد في موقع الفعل، وتعاقبت عليها أجيال آخرى عانت من توالي الأزمات الاقتصادية وتأثرت بحملات غسل السمعة الممنهجة.
أما في مصر فلا يزال جيل الثورة الذي خرج إلى الشوارع لإسقاط مبارك وحزبه يتذكر جيدا الأسباب التي دفعته إلى الخروج على هذا النظام. ورغم أن الظروف لم تتغير كثيرا وقد تكون الأحوال المعيشية للمصريين قد ساءت إلا أن صانعي 25 يناير لن ينقلبوا على أعقابهم ويعيدوا آل مبارك للحكم مجددًا.
ارتدادات وآثار برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأت السلطة تنفيذه في 2016، دفعت البعض إلى الترحم على مبارك وأيامه، تذكر هؤلاء أسعار السلع والخدمات خلال فترة حكم الرئيس الراحل، واستحضر آخرون مواقف وتصريحات انتصر فيها مبارك للفقراء وهاجم فيها إسرائيل. لكن ذلك لا يعني أن الشعب نسى أن الفقراء زادوا في عهده فقرًا، وأن تل أبيب فقدت بسقوطه “كنزها الاستراتيجي في القاهرة”، بحسب بنيامين ين إليعيزر الوزير الإسرائيلي.
بعد تسلم مبارك الحكم من سلفه السادات مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لم يعمل على وضع البلاد على خريطة الدول المتقدمة. بل ترك الحابل على النابل، فلم يكن يشغله سوى البقاء في الحكم حتى “آخر نفس وآخر نبض”، فلا هو عمل على وضع قواعد بناء الدولة الديمقراطية الحديثة، ولا هو بحث كيفية صناعة نهضة حقيقية في ملفات التعليم والصحة والزراعة والصناعة، ومع تقدمه في العمر سلم الجمل بما حمل لابنه الأصغر وشلته، فتعاملوا مع البلد باعبتاره عزبة. وهو ما لم يقبله المصريون فثاروا ليسقطوا هذا العهد، وطالبوا بإقامة نظام جديد “الشعب يريد تأسيس نظام جديد” قائم على العدالة والمساواة والحرية.
لم يتحقق حتى الآن أيا من مطالب ثورة يناير، وقد تكون فرصة الوريث السابق أو من خلفوا والده في حكم البلاد «جماعة الإخوان» للعودة إلى المشهد بعد فترة قائمة، يملك الطرفان من الإمكانيات المالية والبشرية ما يمكنهم من غسيل سمعتهم وتضليل الناس وصناعة تاريخ مغاير، كل ما يحتاجانه بعض الوقت كي ينسى الجيل الذي عاصر الثورة ما جرى أو أن يحل محله جيل آخر، يراهنان على أن تظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية للبلاد كما هي عليه الآن دون تبديل أو تغيير أو أن تسوء أكثر فأكثر، حينها ليس من المستبعد أن نجد جمال مبارك ومن يوزايه من الإخوان يتنافسان على حكم البلاد.
قطع الطريق أمام عودة طرفي الماضي البغيض، لن يكون إلا بتحقيق إصلاح حقيقي وتغيير جذري في المسار الحالي، والعمل على تحقيق أهداف الثورة ووضع أسس الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة القائمة على مبادئ العدالة والحرية والمساواة والمنافسة السياسة النزيهة وتداول السلطة والتعددية والمشاركة.
ارتداد الناس على أعاقبهم وكفرهم بالثورة وبالأوضاع الحالية بمشروعاتها وإنجازتها، مرهون بسياسات وتوجهات السلطة القائمة.