تحولت بوصلة القوى العظمى مجددًا نحو المشرق العربي. وهو ما يظهر في معركة الاستقطاب الحادة التي تدور الآن بين الولايات المتحدة، وهي تختبر شرقًا أوسطًا جديدًا، والصين وروسيا (الوريثة الشرعية للاتحاد السوفيتي)، ولديهما فرصة كبرى للهروب من العقوبات الغربية وإدارة توازنات هائلة في المنطقة، مدفوعة بطريق ممهد لإقامة علاقات قوية مع دول الخليج. وقد تمكنت تلك الأخيرة من استثمار عقد كامل، أفقد عواصم دمشق وبغداد والقاهرة قيادتها التي استمرت ألف عام للقرار العربي.
عن هذا نشر مركز الدراسات العربية الأوراسية “CAES”، تحليلًا للباحث في الشأن الروسي والمتخصص بالتاريخ والعلاقات الدولية أحمد دهشان، تطرق فيه إلى العلاقات الخليجية-الروسية، والعلاقات الخليجية-الأمريكية. وقد عرض لمآلات الحرب الروسية الأوكرانية على التحولات السياسية في منطقة الشرق الأوسط. محاولًا الإجابة على سؤال: كيف تنظر بلدان الخليج العربية للعملية العسكرية في أوكرانيا؟
كيف خسرت العواصم القديمة قيادة العرب لصالح الخليج الحديث؟
يستهل الباحث تحليله بإقرار حقيقة أنه على مدار ألف عام، قادت دمشق، وبغداد، والقاهرة بالتوالي الشرق العربي الإسلامي، حتى سقطت القاهرة على يد الأتراك العثمانيين عام 1517، وتحولت إلى ولاية عثمانية. ذلك إلى أن تحررت جزئيًا عام 1805.
وقد عادت القاهرة من جديد لقيادة المنطقة حتى العام 1979. لكنها تركت تلك القيادة في أعقاب توقيع معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية، برعاية واشنطن، حين تنازلت عن دورها التاريخي في المنطقة مقابل الدعم الأمريكي لاستعادة أراضيها المحتلة في سيناء من قبل إسرائيل.
حينها، حاولت الجمهوريات العربية “الثورية” المتحالفة مع الاتحاد السوڤيتي، سد الفراغ المصري. ولكنها فشلت جميعًا في ذلك، وتحولت الآن سوريا والعراق وليبيا، إلى بلدان فاشلة ومدمرة.
في المقابل، يقول الباحث إنه بفضل عوائد النفط والغاز، وسياسة قادة بلدان الخليج العربية، واستقرار منظومة حكمها، وتوظيفهم لتلك الثروات بشكل جيد، أصبحت تلك في مركز الصدارة للقرار العربي في الوقت الراهن. وقد زاد ثقلها بشكل كبير للغاية بعد الفوضى التي تلت “الربيع العربي”. وهو ما عبر عنه الأكاديمي الإماراتي د. عبدالخالق عبدالله، في كتاب تحت عنوان “لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر”.
اقرأ أيضًا: زيارة بايدن للشرق الأوسط: “قمة النقب 2″؟
كتلتا الخليج وميزان الاستقطاب
مع ذلك، فإن دول الخليج التي تظهر حاليًا على أنها تقود القرار العربي، وتبدو في تجانس فريد يتعلق بسياساتها، بينها فروق بينية مهمة، تقسمها إلى كتلتين رئيسيتين؛ لإحداهما الغلبة على الأخرى.
يقول الباحث إن الكتلة الأولى، تتكون من المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين. وهي الدول صاحبة الناتج المحلي الإجمالي (GDP) الأعلى (1,159.67) مليار دولار حسب بيانات عام 2020، مقابل (315.72) مليار دولار لنفس المدة للدول الثلاثة الأخرى، وأكثر من 80% من الكتلة السكانية.
ويسود الانسجام والتفاهم في المواقف السياسية الرئيسية بين هذه البلدان الثلاث. وهناك علاقات ودية للغاية بين قادتها. وأيضًا اتجاه متزايد بدأ منذ العام 2011، لتعزيز مكانتها بشكل أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة. وقد شهد هذا الاتجاه صعودًا مطردًا منذ تولي الأمير محمد بن سلمان، منصب ولي العهد في السعودية عام 2017.
بينما الكتلة الثانية، يحددها الباحث بدولتي سلطنة عمان، والكويت. حيث ينتهج كلا البلدين سياسة حيادية نابعة من ظروف تاريخية مرت بهما. فقد عانت عمان من حرب أهلية امتدت في الفترة من 1965–1975، وسميت “تمرد ظفار” في أقصى جنوب البلاد. وكانت مرتبطة إلى حد كبير بصراع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وبعد انهاء هذا التمرد وخلق وفاق داخلي بقيادة السلطان الراحل قابوس، انتهجت البلاد سياسة حيادية تجنبها آثار الصراعات والاستقطابات الخارجية.
والشيء نفسه تكرر مع الكويت، التي كانت لديها سياسة خارجية نشطة للغاية في الثمانينيات من القرن الماضي. ثم تعرضت للغزو العراقي عام 1990. وبعد تحريرها، ونتيجة لتركيبتها الداخلية السياسية والمذهبية شديدة التباين، اتخذت من الحياد والانكفاء نهجًا عامًا لسياساتها الخارجية.
وهنا يلفت الباحث إلى أنه رغم انقسام الخليج بين كتلة أكثر استقلالية عن أمريكا وأخرى حيادية؛ فإن الكويت وسلطنة عمان تراعيان مصالح السعودية والإمارات. فلا تبادران باتخاذ أي إجراءات أو عقد تحالفات مناهضة لهما.
قطر.. “بولندا الخليج” الحالم بالقيادة
بين هاتين الكتلتين يشير الباحث إلى قطر، واصفًا إياها بـ”بولندا الخليج”. ويوضح أنها تسعى لاكتساب مكانة مهمة لا تتناسب مع حجمها وقدراتها وإمكاناتها. ذلك عبر تقديم نفسها للطرف الأمريكي كوكيل لمصالحه في المنطقة، ومروج لأجندته السياسية والاقتصادية، وكذلك العسكرية والأمنية. فهي تستضيف أكبر القواعد العسكرية الأمريكية (العديد – السيلية). كما تمتلك أكبر قناة إخبارية عربية (الجزيرة). وهي تدعم التيارات الإسلاموية للوصول إلى السلطة. وهو ما أدى لخلاف طويل الأمد بين قطر وكافة جيرانها بدرجات متفاوتة. حيث اتبعت هذه السياسة منذ قيام الأمير السابق حمد بن خليفة آل ثاني، بـ”انقلاب قصر” على والده في 27 يونيو/حزيران 1995.
كيف تنظر بلدان الخليج للعملية العسكرية في أوكرانيا؟
من التقسيم السابق لتكتلات الخليج، يحلل الباحث مواقف بلدانه من العملية العسكرية في أوكرانيا. ومنه ينطلق إلى التطورات الممكنة جذبًا وبعدًا عن القوى العظمى المحيطة بالصراع في أوكرانيا. وهو يشير إلى تبني الإعلام السعودي والإماراتي المصطلح الروسي “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، وانتقاد مواقف الولايات المتحدة منها. وما تبع ذلك من تحركات سياسية نشطة، تجلت في رفض الضغوط الأمريكية لخروج الرياض وأبوظبي من اتفاق (أوبك+) مع روسيا.
وقد فسرت الإمارات والسعودية الهجمات الحوثية الممنهجة على منشآتها في الفترة الأخيرة باعتباره محاولة أمريكية للضغط عليهما. ذلك عبر منح الضوء الأخضر لهذه الجماعة -التي رفعتها إدارة بايدن من قائمة الإرهاب- بتكثيف الهجوم على كلا البلدين.
في مقابل ذلك، فقد جمع اتصال هاتفي في الأول من مارس/آذار، بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد. وقد أبدى الأخير تفهمًا للمخاوف الأمنية لروسيا. وتبع ذلك زيارة وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد، إلى موسكو يوم 17 مارس/آذار. حيث التقى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف.
كما أجرى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان اتصالين هاتفيين مع بوتين. وكان الأول في الرابع من مارس/آذار، والثاني في 16 أبريل/نيسان. حيث أكد بن سلمان تمسكه باتفاق (أوبك+). وكذا دعمه جهود السلام، واستعداده للوساطة.
كما زار وزير الخارجية البحريني عبداللطيف الزياني، موسكو في 7 أبريل/نيسان. وعبر أثناء مؤتمره الصحفي مع نظيره الروسي “عن تقدير البحرين للمكانة الكبيرة التي تحتلها روسيا في الميزان الدولي، مما أسهم في حفظ السلم والاستقرار الإقليمي والدولي”.
وأخيرًا، رفضت السعودية والإمارات والبحرين، تطبيق أي شكل من أشكال العقوبات على روسيا. فيما تشهد الإمارات تدفقًا كبيرًا للسائحين الروس، الذين يلقون أفضل معاملة أيضًا في السعودية والبحرين.
الغرب لا يعول سوى على قطر
يستطرد الباحث، فيقول إنه في الخليج العربي لا تعول أوكرانيا أو بالأحرى الغرب سوى على موقف قطر. وهي لم تدخر جهدًا في التأكيد على موقفها المساند للتحالف الغربي ضد روسيا. وقد نشرت شبكة واسعة من مراسلي فضائياتها الشهيرة (الجزيرة) في كافة أرجاء أوكرانيا.
يقول أحد المعلقين السياسيين العرب البارزين، فإن “أوكرانيا لم تكن لتقدم تغطية إعلامية للتأثير على الرأي العام العربي واجتذابه لصالحها بأفضل مما فعله الإعلام القطري وقناة الجزيرة”. كما، توصّلت ألمانيا إلى اتفاقية شراكة طويلة الأمد في مجال الطاقة مع قطر. وذلك في إطار سعيها لتقليص اعتمادها على الغاز الروسي. وفق ما أعلنت متحدثة باسم وزارة الاقتصاد الألمانية. وذلك بعد زيارة وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، ولقائه بأمير قطر يوم 21 مارس/آذار.
الخليج وروسيا.. كلاهما يرفض الهيمنة الأمريكية
يتحدث الباحث عن عوامل الاتفاق بين كتلة الخليج الأقوى وروسيا. فيقول إن من بينها رفض الجانبين للأحادية القطبية الأمريكية. فقد أدركت السعودية والإمارات والبحرين، أن هذه الهيمنة الأمريكية تحولت لغير صالحهم. كما أنها باتت تشكل عبئًا وعامل ضغط عليهم. وهنا تكمن الحاجة إلى وجود تعددية قطبية وتوازن في النظام العالمي، يمنح دول الخليج هامشًا أوسع من الحركة وربما المناورة.
كما أن القادة الشباب الجدد للخليج العربي، لديهم تطلعات وطموحات مختلفة عن جيل الأجداد والآباء. فهم يرون بلدانهم الآن قوية وينبغي أن يكون لها دور مؤثر على الساحتين الإقليمية والعالمية. ومن ثم فإن العلاقة مع واشنطن بحاجة لإعادة ضبط. لأن الأخيرة لم تعد “القوة الوحيدة” بالعالم. وهم لم يعودوا تلك البلدان الضعيفة كما كانوا من قبل.
يجمع بين السعودية وروسيا على وجه الخصوص أيضًا أن الدعاية الغربية استخدمت الأدبيات والمفردات نفسها تجاه الرئيس بوتين والأمير محمد بن سلمان. فاستهدفتهما بشكل شخصي. والسبب وراء ذلك وفق المحللين السعوديين، أن الغرب “لا يريد تطور بلادهم، ويرغب في بقاء السعودية القديمة المعتمدة بشكل مطلق على واشنطن، والمستهلكة لمنتجاتها وغير المنتجة سوى للمواد الخام، دون قيد أو شرط. وهو نفس الموقف الذي تتخذه أمريكا تجاه الرئيس بوتين وروسيا بشكل عام.
كذلك -وكما يقول الباحث- تعارض السعودية والإمارات والبحرين، ما يسمى “الثورات الملونة”، وينتهجون سياسة يمكن وصفها بـ “الليبرالية المحافظة”. ذلك عبر توسيع دائرة الطبقة الوسطى، وتطوير الاقتصاد المنتج، والحفاظ على العادات والقيم المجتمعية الأصلية. مع بناء هوية وطنية، ومنح الأفراد حريات عامة اجتماعية واسعة. بالإضافة إلى تطوير النظام السياسي بشكل تدريجي وفق قدرة المجتمع على استيعابها دون ثورات أو انقلابات. وهو موقف يشاركون فيه روسيا نفس الرؤية.
الخليج وروسيا.. البراجماتية تفرض التوافق
أيضًا تتشارك السعودية والإمارات مع روسيا في مناهضة الحركات الإسلاموية، التي نمت منذ حرب أفغانستان (1979-1989). وهما تدركان خطأ المضي قدمًا خلف السياسات الأمريكية التي شجعت على دعم تلك الحركات لمواجهة روسيا. خاصة وأنها حركات انقلبت على واشنطن وباتت مصدر تهديد لها. فضلًا عن تخريبها لمنطقة الشرق الأوسط.
ويسعى الخليج إلى حماية النفط وصناعة الطاقة بوجه عام من الدعاية الغربية المناهضة، والمنافسة الأمريكية. وذلك بضمان وجود سعر عادل يحافظ على مصالح المنتجين والمستهلكين، لا يخدم فقط سياسات الولايات المتحدة، الاقتصادية والجيوسياسية. وهو ما تجسد في اتفاق (أوبك+). ومن ثم تحرير الاقتصاد وتجنيبه الخلافات السياسية.
ويلقى الخليج في روسيا داعمًا أكبر في مواجهة ثورات “الربيع العربي”، في مقابل الولايات المتحدة التي دعمت هذه الثورات ورموزها.
الخليج وروسيا.. ما الذي سيستفيده الجانبان؟
يرى الباحث أنه يمكن استغلال العلاقة الروسية مع إيران من أجل تحويلها من الثورة إلى الدولة المسؤولة. وذلك لصالح ضمان أمن بلدان الخليج العربية، بعدما فشلت الولايات المتحدة في إجبار إيران على تغيير سياساتها إما بالعقوبات أو عبر عمل عسكري.
كذلك، فإن الرئة الاقتصادية الأساسية لإيران هي الصين. وقد زاد من عمق هذه العلاقة توقيع “الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وجمهورية الصين الشعبية” لمدة 25 عامًا. ومصدر الطاقة الرئيسي للصين وكذلك أهم موانئ مشروعها “الحزام والطريق”، وأكبر مستورد لمنتجاتها الآن بلدان الخليج العربية. ومن ثم فإن مصلحة الجانبين في عدم وجود توترات في المنطقة.
ويشير الباحث إلى الإمارات، فيقول إنها قد تشكل مركزًا لوجستيًا للبنوك والشركات الروسية، ومركزًا للتجارة الوسيطة الجديدة بين روسيا والشرق وكذلك الغرب. وبذلك تتخطى روسيا آثار العقوبات الاقتصادية، وكذلك تنفذ إلى أفريقيا. حيث تمتلك الإمارات نفوذًا كبيرًا في عدد من بلدان القارة، ومشاريع عملاقة متنوعة.
لكنه يشترط سياسة أكثر وضوحًا وحزمًا من موسكو تجاه إيران ووكلائها. مع إبراز دورها في إمكانية صنع السلام على ضفتي الخليج، بدون حروب وصراعات. وهو ما سيمنحها ليس فقط مكانة مميزة بل وشعبية واسعة لدى شعوب هذه البلدان.
وأخيرًا، يلفت إلى التأثير السياسي والمالي الكبير للسعودية، ومن خلفها الإمارات، في الشرق الأوسط، وأفريقيا، والعالم الإسلامي، ما يمكن من صنع توافق داخلي في سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، ولبنان. وكل هذه البلدان بحاجة لمشاريع إعادة إعمار. ومن ثم تبرز فرصة كبرى للاقتصاد الروسي للدخول إلى أسواق جديدة. وهو ما يشجع بقية البلدان العربية والإسلامية للتقارب أكثر من موسكو، وتوسيع نطاق مشروعاتها لتشمل مصر والسودان وإثيوبيا، عبر تدخل روسي-سعودي-إماراتي، لإنهاء أزمة سد النهضة. ذلك إلى جانب مكامن الغاز والنفط في هذه البلدان، التي تضمن للشركات الروسية حصة في استكشافها، ودورًا في تسويقها. ذلك بما لا يؤثر على حصص روسيا في السوق العالمية.