في كل مجتمع هناك ما هو على السطح وما هو في الباطن وما هو معلن وغير معلن. وفي معظم النظم السياسية، على خلاف توجهاتها، تكون هناك أدوات لإخراج التفاعلات الكامنة في عمقها إلى العلن حتى يمكن التعامل معها. فبعضها يسمح لها بهامش للفعل والحركة من أجل توجيه مسارها أو ترشيده، وبعضها الآخر يضع لها مسارا آمنا يحفزها على الفعل العلني.

والحقيقة، أن في مصر تجري أحداث كثيرة بعضها يثير ردود فعل علنية صاخبة هجوما أو تأييدا، ويتصور البعض أن هذا الضجيج المعلن قد حل مشكلة ما هو كامن. والحقيقة أنه مهما كان الحديث الإعلامي أو على مواقع التواصل الاجتماعي عن قضية بعينها، فإنه لن يلغي تفاعلات محجوبة تجري همسا في عمق المجتمع ولم تجد المسار الآمن لخروجها.

فمثلا الشريط الذي بثه جمال مبارك وتحدث فيه باللغة الإنجليزية ليعلن براءته هو وعائلته من التهم التي وجهت لهم، قوبل بهجوم معلن وشاهدنا فتح للملفات القديمة سواء تلك المتعلقة بثروته…. من أين لك هذا؟ أو سلبيات حكم والده، في حين أن كثيرين يعرفون أن الذي جرى على السطح من هجوم ورفض، قابلته تفاعلات غير مرئية مع قضية ظهوره وتكهنات كثيرة غير معروف حقيقتها.

وشهدت “التفاعلات الكامنة” مقارنات بين أوضاع مصر السياسية والاقتصادية في عهد مبارك مع الوضع الحالي. ووجدنا جدلا كبيرا حول هذا الموضوع. وهناك من اعتبر أن جمال مبارك بدون مشروع توريث يمثل توجها ولونا من ألوان السياسة والاقتصاد في مصر يختلف معه ويواجه في ساحة انتخابات حرة وليس بالمنع.

والحقيقة، أن كثيرا من الحملات القاسية والمتكررة التي جرت بحق قوى سياسية ومعارضين، لا يمكن القول إنها حققت أهدافها ما دامت ظلت صدى لصوت واحد، في حين أنه لو سمح للتفاعلات الكامنة أن تخرج وسمعنا آراء هذه القوى فهنا سنعرف موقف الرأي العام منها ووزنها الحقيقي في الشارع؛ لأننا سنكون أمام نقاش وحوار يجرى في العلن، لا يترك لتفاعلات كامنة قد تقذف حصيلتها فجأة في وجوهنا دون سابق إنذار.

إن تركيز المعلن على قضايا هامشية وصغيرة، والنفخ فيها، لا يلغي وجود قضايا أخرى كامنة يناقشها الناس في جلساتهم الخاصة حتى لو كان المعلن لا يعرضها. فجميعنا يتذكر سؤال العام الماضي الذي أشعل مواقع التواصل الاجتماعي وبدا وكأنه سيتوقف على إجابته مستقبل مصر: هل سيدخل العالم الكبير الدكتور مجدي يعقوب الجنة أم النار؟ وهو “اشتغالة” علنية مهما تكررت لن تلغي مشاكل المنظومة الصحية التي اجتهد الدكتور يعقوب في حل جزء صغير منها ببناء صرح مضيء في أسوان.

كما شهدنا أيضا كيف تحول تصريح اللاعب المصري الدولي محمد صلاح بأنه لا يحب الخمر أو لم يأت على باله شربها، إلى نقاش علني عارم، رغم هامشية الموضوع، وإن موقفه شأن شخصي، فهو لم يدع لشرب الخمر حتى يقال إنه استفز المتدينين إنما قال بطريقته إنه لا يشربها. ولو رددت هذه القضية كل يوم مثل أناشيد الصباح، فإنها لن تخفي حال الرياضة المتردي في مصر وخاصة كرة القدم.

وهناك تصريحات أحد المصنفين كداعية، والذي تخصص في أمور شكلية لا تمس أي جوهر وعادة ما تتعلق بالمرأة أو المسيحيين، هدفها إشعال مدرجات مواقع التواصل الاجتماعي بالشتامين من كل اتجاه. وهي قضايا الصريخ اليومي فيها لن يحل مشكلة واحدة من مشاكل المسلمين والمسيحيين المعاشة في مصر.

الحديث في شكليات الدين والتغني بحب مصر وحملات الهجوم على المعارضين أو المؤيدين سياسيا والمختلفين في أمور فنية وعلمية، لكي يبدو على السطح أن الجميع مؤيد للخيارات الرسمية الحالية، وأن الجميع يعتبر أننا اخترنا أولويات صحيحة للتنمية وأن الكباري والطرق الجديدة هي فقط ما تحتاجه مصر ، وأن العاصمة الإدارية هي مشروع مصر القومي والوحيد، في حين أن التفاعلات الكامنة في داخل المجتمع فيها أراء مختلفة كان يمكن لو أعلنت وأصبحت جزءا من “نقاش عام” أن ترشد وتصوب وتصلح كثير من الخيارات والأولويات الحالية ولو بمنطق العلم ودراسات الجدوى وليس بمنطق المعارضة السياسية.

قد يفهم البعض أن تكون هناك قيود على مناقشة القضايا السياسية في العلن حتى أصبحت معظم تفاعلاتها تجري بشكل كامن، إنما من غير المفهوم ألا نرى نقاشا علنيا حرا حول قضايا “الحياة اليومية” من صحة وتعليم ومحليات. لماذا غابت أراء كثير من المتخصصين والعلماء الحقيقيين من قضية “تطوير الأحياء” بعد أن اعتبروا ما يجري تدميرًا لرونقها وتاريخها وبدون عائد مروري يذكر؟.

هناك أصوات حتى لو حجبت في العلن فهي موجودة في الواقع، وتركت لتفاعلات كامنة ومواقف فطرية وتلقائية لا ينظمها  وسيط حزبي أو نقابي معلن ولا يمكن التحكم فيها مهما قيل على السطح وفي العلن.

لم يحدث في تاريخ النظم السياسية أن غاب الوسيط السياسي أي كان شكله، أو الوسيط الأهلي من نقابات وروابط شعبية ومجتمع مدني، وفي حال إضعاف هذه الوسائط يصبح هناك خطر كبير أن تقفز فجأة في وجوه الجميع حصيلة “التفاعلات الكامنة”.

هناك كثير من الآراء فرض عليها أن تكون كامنة وغير معلنة، وهو ما جعل صورة “الكل مؤيد” و”الكل موافق” في العلن لا تعكس حقيقة التفاعلات الكامنة في العمق؛ فالاعتراف بأن البعض مؤيد والبعض معارض بشكل آمن وعلني، قد يقي البلاد من شرور “المستخبي”.