تعاني مصر إشكالية حادة في سياساتها الاجتماعية -وتحديدا في بعدها المكاني– وهذا ما يعرف بفجوة اللا مساواة الجغرافية بين المحافظات الأوفر حظا إلى حد ما والأخرى الأقل حظا أو ذات الموارد المحدودة.
ويحدث هذا التفاوت فى ظل نظام مركزي شديد المركزية في صنع السياسات وإدارة الموارد وتوزيع الخدمات. ويترافق هذا مع ارتفاع معدلات الفساد الذى يقوض أي إصلاحات ممكنة.
وحسب مؤشر مدركات الفساد العالمي للدول الأقل والأكثر فسادا لعام 2020 الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية تراجعت مصر 11 موقعا واحتلت المركز 117 بين 180 دولة بمعدل 33 من 100 نقطة.
وبحسب دراسة للباحث محمد عبد الهادى شنتير فإن الأخذ باللا مركزية من مقتضيات مواجهة الاختلالات الجغرافية أو المكانية في الدولة. بشرط توافر معايير التنفيذ الفعال. فاللا مركزية أداة سياسية مهمة لتحقيق التنمية وتعزيز الديمقراطية. ومن خلالها يمكن أن يدرك المواطنون توجه الدولة إن كان هناك انحياز تجاههم والنظام يعمل لصالحهم أم لاحتكار السلطة والثروات.
للاطلاع على الدراسة كاملةً.. اضغط هنا
اللا مركزية الإدارية والاقتصادية
أقر الدستور المعدل في 2014 التحول التدريجي نحو اللامركزية الإدارية والمالية والاقتصادية. وتقريب الفجوات التنموية بين الأقاليم والمناطق. على أن يكون توقيت تطبيق نظام التحول التدريجي خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذ الدستور.
بيد أن الأمر كما توضح الدراسة ظل شكليًا ولم ير طريقه إلى التنفيذ الفعلي. بل تجاهلت السلطة التنفيذية القائمة تفعيل الاستحقاقات الدستورية وعطلت إصدار قانون الإدارة المحلية الجديد. وبالتالي لم تعقد الانتخابات المحلية منذ حل المجالس الشعبية المحلية في عام 2011.
وهذا يظهر ارتكان السلطة التنفيذية القائمة إلى بقاء صيغة الدولة المركزية الحالية. رغم أن معظم الوحدات المحلية عبر الوجهين البحري والقبلي تعاني التفاوتات واللا مساواة الجغرافية فيما بينها. فيوضح البعد المكاني للا مساواة وجود فجوة بين المناطق الحضرية والريفية وأيضا بين الوحدات المحلية ونظائرها.
وحسب مصادر حكومية لنتائج بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك للأسر المصرية عن العام المالي 2017/2018. كانت معدلات الفقر المدقع في حضر الوجه البحري سجلت 14.31%. أما في ريف الوجه البحري سجلت معدلات الفقر 27.29%. وفي حضر الوجه القبلي سجلت 30.02%. وفي ريف الوجه القبلي سجلت 51.94%. بينما عن عام 2019/2020 سجلت معدلات الفقر المدقع تراجعا طفيفا –تكاد تقترب من نسبتها في 2012/ 2013- ففي ريف الوجه البحري وصلت إلى ما يقارب 22٪. ووصلت في ريف الوجه القبلي إلى ما يقارب 48٪. وذلك في ظل ضعف الإصلاحات والأولويات السياساتية التي تحد من اللا مساواة في الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والظروف المعيشية.
إذ جاءت مصر في الترتيب 114 في مؤشر الالتزام بالحد من اللا مساواة العالمي عن عام 2020 مما يوجب إيلاء اللا مركزية عناية كافية عند صنع وتخطيط سياسات التقليل من فوارق الفقر ومكافحة الفساد وتحسين الخدمات. وضرورة استجابة هيكل الحكم القائم لتطبيق اللا مركزية بشكل حقيقي.
بين اللا مركزية واللا مساواة الجغرافية
تعتبر فجوة اللا مساواة المكانية -خاصة بين الريف والمدن- ظاهرة عالمية. ويتولد عنها التفاوت الاجتماعي واللا توزان في التقسيم الطبقي أو المناطقي.
وما دامت لا توجد ديمقراطية تعمل بصورة جيدة فى ظل حكم يسعى إلى الحفاظ على ذاته أو البقاء عبر الزمن تتسع دائرة مصالح النخب والمشمولين بالامتيازات اللذين يعملون على الاستحواذ على النصيب الأوفر من القيم والموارد.
فاللا مساواة وما يترتب عنها من سياسات اجتماعية تحابي مصالح من يتمتعون بقسط أكبر من النفوذ في المجتمعات غير المتكافئة تتسبب في ضياع جهود التنمية. أو لا تذهب عوائد التنمية لمستحقيها. فيزداد شعور الناس بالحرمان. لكن حينما يصبح الناس قادرين على المطالبة بحقوقهم ستتولد ضغوط لإعادة توزيع الموارد والفرص.
للاطلاع على الدراسة كاملةً.. اضغط هنا
والدولة تتكون من عنصرين أساسيين هما الإقليم والشعب ينتج عن التفاعل بينهما عنصر ثالث هو الحكومة.
وتتكون الحكومة بدورها من مؤسسات وهياكل تؤدي وظائف متعددة ضرورية لتتمكن من استغلال الموارد جيدا وتقديم ما أمكن من خدمات ومنافع، وتتجنب إهدار تلك الموارد وتبديدها. من هنا تلجأ الدولة إلى اللامركزية كنظام فرعى لإدارة شؤون إقليم معين والتخفيف من أعباء الإدارة على السلطة المركزية والارتقاء بمستوى تقديم الخدمات وتقريبها من الشعب.
لكن أحيانا تتنصل الدولة من مسؤولياتها عبر نقلها إلى سلطات محلية تعاني بالأساس نقصا هائلا في الموارد. حيث يتوقف نجاح النظام المحلي بشكل كبير على الاستقلالية المالية وتدبير التمويل المحلي ودون ذلك تتعطل اللا مركزية.
الفساد واللا مساواة الجغرافية
لا مركزيا تأخذ مصر بنظام الإدارة المحلية كفرع من السلطة التنفيذية أو جزء من الهيكل الإداري للحكومة المركزية للدولة
ودستوريا تخضع الإدارة المحلية في مصر للإدارة العامة للدولة. وتتكون من وحدات إدارية تتمتع بالشخصية الاعتبارية.
وتضم الدولة المصرية 27 محافظة تتوزع على 7 أقاليم اقتصادية. هي إقليم القاهرة ويضم محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية. وإقليم الإسكندرية ويضم محافظات الإسكندرية والبحيرة ومطروح. وإقليم الدلتا يضم محافظات دمياط والدقهلية وكفر الشيخ والغربية والمنوفية. ثم إقليم القناة يضم بورسعيد والسويس والشرقية والإسماعيلية وشمال وجنوب سيناء. وإقليم شمال الصعيد يضم بني سويف والفيوم والمنيا. وإقليم جنوب الصعيد: سوهاج وقنا والأقصر وأسوان والبحر الأحمر ثم إقليم وسط الصعيد يضم محافظتي أسيوط والوادى الجديد.
كما أن أعداد الوحدات الإدارية الأدنى هي (189) مركزا و(224) مدينة و(86) حيًا. بينما عدد الوحدات القروية (1323) قرية (أم) ويتبعها (3376) قرية. و(80029) عزبة وكفر. في حين هناك (70) قرية لا تدخل فىينطاق وحدات محلية.
ويلاحظ من هذا التقسيم الإداري تعدد مستويات الوحدات المحلية (محافظة-مركز-مدينة-قرية وحي). وتوجد داخل المدن والأحياء شياخات وأقسام. وتضم القرى كفورا ونجوعا وعزبا. فضلا عن تباين مساحات الوحدات المتناظرة.
فعلى سبيل المثال يوجد محافظات تصل مساحاتها إلى 240 ألف كم2. وأخرى تبلغ 3000 كم2 فقط. ما يسهم في تعقد كبير في تنظيم تقديم الخدمات وإدارة عملية التنمية.
القاهرة الكبرى نصيب الأسد
وأعلنت الحكومة حرصها على تعزيز المخصصات المالية للقطاعات المتضررة من أزمة كورونا. والتي تمس حياة المواطنين بشكل مباشر في موازنة العام المالي 2020/2021م. إلا أن نصيب المحافظات من المصروفات بلغ 10% فقط من إجمالى الإنفاق الحكومي. فقد كان نصيب إقليم القاهرة الكبرى 4.4 مليار جنيه وخصص لإقليم الإسكندرية 2.5 مليار جنيه. وأقاليم الدلتا 2.3 مليار جنيه، وقناة السويس 2.8 مليار جنيه، وجنوب الصعيد 4.5 مليار جنيه. بينما استمر نصيب كل من إقليمي وسط وشمال الصعيد هو الأدنى 1.1 و1.7 مليار جنيه على التوالي.
ويكشف تحليل الإنفاق ومخصصات الاستثمارات الحكومية عن أوجه خلل وتفاوتات متعددة في استثمارات القطاعات المحلية. مثل: الإسكان ومحطات مياه الشرب والصرف الصحي وشبكات الكهرباء المحلية والطرق والمواصلات المحلية والتنمية العمرانية والصحة والتعليم.
للاطلاع على الدراسة كاملةً.. اضغط هنا
فقد حققت مصر (صفرا) في التغير في ترتيب دليل التنمية البشرية. فقد ثبت ترتيب مصر عند المرتبة (115) من (189) دولة في الأعوام من 2014 إلى 2017.
بينما تراجع ترتيب مصر في دليل التنمية البشرية لعام 2018 إلى المرتبة (116) من أصل (189) دولة. وذلك وفقاً لدليل التنمية البشرية معدلاً بعامل الحرمان ومعامل أوجه عدم المساواة بين البشر.
ورغم أن مصر قد حققت 0.700 نقطة في دليل التنمية البشرية فعند حساب الخسارة المترتبة عن شدة الحرمان نجد أن مصر بلغت 0.492 نقطة فقط في دليل التنمية البشرية معدلا بمعامل عدم المساواة.
أسباب استمرار استشراء الفساد
ربما يرجع الفساد الذي ما زال يستشري إلى عدم جدية السياسات والإجراءات التي يتم تبنيها في مكافحته. أو يرى المشمولون بالامتيازات سهولة الإفلات من العقاب. ومع تفاقم الفساد والتفاوت الاجتماعي وعدم تكافؤ الفرص يتولد شعور الحرمان لدى الأفراد والأسر كونهم مستثنين من الفرص والخدمات العامة.
حكومة مدبوليتقول الدراسة: لقد عانى التحول التدريجي نحو اللا مركزية من التباطؤ ومن ثم التجاهل في إطار الفترتين الرئاستين المتتاليتين منذ صدور الدستور المعدل الذي تم إقراراه في يناير 2014م.
فتضمن برنامج حكومة “شريف إسماعيل” (2016-2018) الالتزام بدعم اللا مركزية ومكافحة الفساد وانعقاد الانتخابات المحلية.
جاء ذلك ظاهرياً فقط دون تحقق فعلي. بينما برنامج عمل حكومة “مصطفى مدبولي” التالية (بدءا من 2018- ويمتد إلى 2022) قد خلا تماما من الإشارة إلى التحول التدريجي نحو اللا مركزية.
ومن المفارقات أن الموازنة العامة عن العام المالي 2018/2019 قد تضمنت اعتماد مخصصات لتطوير ورفع كفاءة مقرات المجالس المحلية في محافظات الجيزة والبحر الأحمر ودمياط والإسكندرية وأسوان. وتخصيص بدلات حضور الأعضاء المنتخبين. كل ذلك ولم يتم إجراء الانتخابات المحلية أصلا.
متطلبات الإصلاح
إصلاح النظام المحلي بحسب الدراسة يتطلب بالضرورة تعزيز دور المجتمع المدني في المشاركة المجتمعية وممارسة “الأمانات الجغرافية للأحزاب السياسية” لمهام إعداد وتأهيل الكوادر المحلية. فضلا عن توثيق تواصلها مع المحافظين ورؤساء مجالس المراكز والقرى والأحياء. وتمثيل المواطنين والتعبير عن مصالحهم ومشكلاتهم المحلية. خاصة أن تضييق المجال العام ينعكس على العمل المحلي في اقتصار المشاركة المحلية على عدد محدود من منظمات المجتمع المدني أو بالأحرى منظمات بعينها داخل كل محافظة. بالإضافة إلى ضعف الأحزاب في جذب المواطنين على أساس البرامج والأفكار.
إن مزايا اللا مركزية لا يمكن الاستفادة منها إلا بتقوية عمل الوحدات والتنظيمات الأساسية للإدارة المحلية وتمكينها من أداء أدوارها. فالأمر لا يحتاج إلى إعادة اختراع نظام محلي بقدر الحاجة إلى إيجاد صيغة واضحة قابلة للتنفيذ للعلاقة بين المركز واللا مركزي في السياق المصري.