لا أدري هل ذكّرتك مشكلة الأطفال مع إدمان الشاشات بما كان يحدث قبل عشرين أو ثلاثين أو أربعين عاما أم لا؟ حين كانت أمهاتنا تبح أصواتهن وهي تبعدنا عن شاشة التلفزيون، كانت أمي تخشى علينا من “الإشعاعات المنبثقة من الشاشة” فتبعدنا عن التلفاز عدة أمتار، وتسمح لنا بمشاهدته لساعتين في اليوم على الأكثر، وكانت هاتيك الساعتين مخصصتين عادة لبرامح الأطفال أو لفيلم كوميدي أو تاريخي مهذب.

ولأن الزمن يعيد نفسه فالمشكلات تتكرر دوما بعد أن ترتدي ثيابا جديدة، لكن اليوم تبدو مشكلة إبعاد الأطفال عن الشاشة أصعب بعد أن صغرت تلك الشاشات وصارت خفيفة الوزن، قابلة لأن يحملها كل طفل، وصارت برامجها وألعابها تفاعلية مخصصة لكي تناسب كل فئة وكل لغة وثقافة وسن، لم تعد مشاعا للعموم فيحبها البعض بعض الوقت ويمل منها البعض الآخر، فصار يمكن للطفل أن يمسك بشاشته ساعات طوال من دون ملل ومن دون أن “يعيش طفولته” كما نتمناها له.

لكن هل يجب حقا إبعاد الأطفال عن الشاشات، وهل نستطيع؟ أم أننا نحاول مقاومة الزمن والتطور التكنولوجي في معركة ستكون خاسرة بلا شك لو رأيناها على هذا النحو، هل نعتقد أننا – في حربنا تلك – نفعل الأمر الصحيح، بينما نحن محض ديناصورات في طريقها للانقراض أو في أحسن الأحوال فرسان يحاربون طواحين الهواء.

خطرت لي تلك الشجون وأنا أشاهد الإعلان الجديد لنجم كرة القدم محمد صلاح، الذي صوّره لصالح إحدى شركات المنشآت العقارية، الإعلان جميل الصورة والمعنى، وقد أضيفت إليه الجاذبية المحببة للنجم الرياضي الملهم، وبراءة وخفة ظل الطفلة التي تشاركه بطولة الإعلان، والتي – بعد أن تلتقط صورة مع صلاح – تعود إلى هاتفها وتنشغل به، فينضم إليها صلاح – بعد أن يستأذن والديها – ويبدأ في حكاية قصة للطفلة، عن فتاة صغيرة ترى الناس جميعا بعيشون داخل فقاعات لا يرون فيها إلا أنفسهم – في إشارة إلى الهاتف والسوشيال ميديا – فتحاول الطفلة إخراجهم من تلك الفقاعات حتى تنجح في النهاية، وينضم إليها الناس في “العالم الحقيقي”.

https://www.youtube.com/watch?v=RZ6kDY3Mr70

لاشك أن الإعلان جميل ولو على مستوى الإخراج والحبكة على الأقل، لكن المفارقة هنا كان لا يمكن تجاوزها، فـ “الواقع” يقول إن ما تبيعه الشركة صاحبة الإعلان لجمهورها، ما هو إلا فقاعة أخرى، فقاعة أكبر كثيرا تضم المجتمع الموجه إليه الإعلان، فتضمن له العيش معزولا عن المجتمع الذي يفتقر إلى الهدوء والراحة والخضرة التي يوفّرها المشروع العقاري الذي يروّج له الإعلان. فالفقاعة في حد ذاتها إذن ليست هي المشكلة، وإنما الأهم هو يدخلها ومن يبقى خارجها.

وبالطبع، فإني لا أقصد أن اللوم هنا يعود على الشركة أو ما تروّج له، فالسلعة لا تظهر إلا لأن هناك حاجة لها، ووالعيش في الشارع المصري “العادي” لا يزال يفتقر إلى الكثير من أساسيات الحياة المدنية ناهيك عن الهدوء والرفاهية، حتى زيارة مناطقة سياحية مهمة كالأهرامات والحسين لازلنا عاجزين عن تحويلها إلى زيارة خالية من الإزعاج والمضايقات البالغة، فلا لوم إذا على من يبحث عن حياة الفقاعة، سواء كان بالغا يبحث عن بيت، أو طفلا يبحث عالم افتراضي يمارس فيه حق اللعب.